عشق ملعون بالدم (الفصل السابع)
لا تراقبني من بعيد… اقترب.
اقترب لأراك بعيني لا بخيالي، لتسمع كيف يهتف اسمي باسمك دون صوت.
ربما أكون في انتظارك… بل إنّي في كل لحظةٍ، أتهيّأ لمجيئك دون أن أشعر.
اشتقت إليك اشتياق الأرض للمطر… اشتياقًا يوجعها، لكنها ترجوه رغم الألم.
لا تظنّ أن قلبي يميل لغيرك، فكل ما فيَّ منك…
حتى النبض الذي أحيا به، يخرج وفيه حروف اسمك.
أنت سرّ اضطرابي، وهدوئي، وأمان خوفي، وارتعاشة روحي حين أراك.
ليتك تسرقني كما سرقت قلبي…
اخطفني من هذا العالم الذي لا يشبهك، من خوفي الذي لا يهدأ إلا حين تنظر إليّ،
اسرقني من قيدي، من وحدتي، من نفسي التي لا تطاوعني إلّا حين تكون أنت سيدها.
أحبك… لا كما يحبّ الناس،
بل كما تحبّ النار فتنتها التي تحرقها.
أحبك لأنك قدري، والقدر لا يُختار…
بل يُسكننا عنوةً، ويتركنا نحترق في حروفه برضا العاشق لا بعجز الضعيف.
نظر لها بنظرات تشع غضبا وكبتًا واحتراقًا دفينًا، نظرات رجل يوشك أن يفقد توازنه أمام ما لا يفهمه…
اقترب منها بخطوات متوترة، قبض على ذراعها بعنف يفضح اضطرابه، وغمغم بصوت يخرج من بين فكيه مبحوحًا، ممزوجًا بالقهر والشوق: كيف يعني؟! انتي معدش ينفع تبعد عني يا حبيبه؟
ارتجفت ملامحها بين الذهول والخوف، وحاولت سحب ذراعها منه، وهي تنظر في هلع نحو أمير وبدر الواقفين على باب الإسطبل، وغمغمت بصوت مرتجف: فارس، انت اتخوت؟ سيب!… أمير وبدر هنه!
قاطعها بعنف، ورفع إصبعه في وجهها بتحذير حاد يخترق الهواء: يبجي تنسي إنك تبعدي عني!
تراجعت خطوة، وحدقت فيه بعينين دامعتين لا تصدقان ما تسمعان، وهمسة بستنكار: أنا مش فاهمه… انت بدك إيه مني؟ يعني إيه مبعدش عنك؟
أغمض عينيه بقهر، وصدره يعلو ويهبط كمن يبتلع نارًا، وغمغم بتلعثم خافت يفضح ما يحاول كتمانه: جصدي… هزيم لسه موچوع… والچرح ملمش يا حبيبه!!
بلع غصته، وصوته انخفض حتى صار أقرب إلى النحيب المكبوت:انتي وعدتيني… وعدتيني إنك مش هتهملي هزيم غير لما يخف…
انزلقت دموعها بصمت على وجنتيها، وهمسة برجفة:
والله غصب عني… الإجازة خلصت، والترم بدأ… وأنا لازمن أسافر بكره عشان الكلية.
رمش بعينيه غير مصدق، وسألها بصوت مبحوح كأنما يخشى الجواب: تسافري؟ كليتك وين؟
أومأت برأسها، والدموع تسيل ببطء، فيما قبضته تشد على ذراعها دون أن يدرك، فأنت بألم خافت: كليتي في سوهاچ… وسيب يا فارس… دراعي بيوچعني..
نظر إليها بشرود، ثم إلى ذراعها بين يديه، وكأن النار لسعته، فأفلتها على الفور وهمس منكس الرأس:آسف يا حبيبه… محستش بحالي.
كورت قبضته غيظًا، ثم رمق أمير وبدر بنظرة حادة مشتعلة، قبل أن يعود إليها بعينين تلتهمان ملامحها، وقال بصوت متوتر غليظ: تعالي في العشيه بعد ما تيچي من الكلية… بلاش الصبح.
مد يده بخفة يمررها على ذراعها، يدلكه برفق كأنه يعتذر دون كلام، فابتعدت خطوة وهمسة بارتباك حزين: مينفعش… أنا بجعد في سكن الطالبات… ديه مشوار، وأنا بتعب منيه.
عض على شفته السفلى بعنف يكاد يجرحها، وخرج صوته متهدجًا بالغضب: نهارك طين… هتجعدي في سوهاچ وحدك؟!
اتسعت عيناها بذهول وهي تلكزه بغضبٍ خافت: انت لسانك ديه إيه؟ مدفع؟ ملكش صالح! أنا جلتلك بدك تجيب دكتور لهزيم، أوع الجرح يلتهب!
ابتعد بعنف، وتصلب جهه كصخرٍ غاضب، وغمغم بحدة تكتم خلفها شيئًا أثقل من الغضب: ملكِيش صالح بي هزيم ..أنا هتصرف!
حدقت فيه مذهولة، ثم أغلقت حقيبتها بقوة ، واقتربت منه ولكزته في صدره بغيظ متقد، وقالت بصوت يختلط فيه القهر بالسخرية: تصدج؟ أنا غلطانة! انت أكتر بني آدم چلياط شوفته في حياتي!
رفع حاجبه بعنف، وهدر بصوت جهوري اخترق جدران الإسطبل: أميييييرررر!
شهقت برعبٍ وتراجعت نصف خطوة، وهمسة متوسلة بعينين مذعورتين: خلاص… يخربيتك!
دلف أمير بخطواتٍ متعجلة، وعيناه تتساءلان: خير؟ هتزعق ليه؟
كان فارس ما يزال واقفًا مكانه، تتأجج في صدره نار مكتومة بين الغيرة والقلق، التفت إليه ببطء وأشار إلى حبيبة وقال بنبرة متماسكة ظاهرًا، مشتعلة باطنًا: هي حبيبة… كليتها في سوهاچ.
أومأ أمير بإيماءة سريعة وهتف: أيوه، چامعة سوهاج.
عضت حبيبه إصبعها برعبٍ مرتجف، كأنها على وشك الانهيار، تتشبث بتلك الحركة الصغيرة لتمنع جسدها من الارتعاش وروحها من السقوط في هاوية الخوف.
اشتدت ملامح فارس، وصار صوته أثقل من الرصاص:
أصلاً نغم بدها تجعد في سكن الطالبات، بتتعب من الروح والچاي، المشوار بيهد حيلها كل يوم.
أجابه أمير وهو يهز رأسه بأسف خفيف:حرام عليك، مشوار تجي وتروح كل يوم! هتلحج تذاكر متى؟ خليها تجعد مع حبيبة أحسن.
تجمدت حبيبة في مكانها، وعيناها تدوران بينهما في ذهول، وتمتمت لنفسها وهي تشهق غيظًا: الله يخربيتك، إيه الراچل ده؟ ورطة مش هتحل عني.
تدخل بدر بدهشة مشوبة بالقلق وهو ينظر إلى فارس:
إنت يا غالي، هتهمل نغم في سوهاچ لحالها؟
أومأ فارس ببطء، وصوته كأنما يخرج من عمق غامض داخله: أيوه… بس مش في سكن الطالبات.
تساءل أمير مستغربًا:أومال وين؟
ارتسمت على وجه فارس ابتسامة جانبية، خبيثة لكنها ثابتة، وقال بنبرة واثقة لا تحتمل نقاشًا: في العمارة اللي جصاد الشركة… اهي بتاعتنا، وعليها حراس وأمان. ياخدوا شقة ويجعدوا مع بعض… وحتى ليلة يا بدر، بدل ممارحتش الترم اللي فات غير في الامتحانات.
جحظت عينا حبيبة برعب، وهزت رأسها بعنف وغمغمت بصوت مبحوح متوتر: لاااا.
رفع فارس حاجبه بخبث متعمد، وابتسم ابتسامة مائلة تحمل من الوعيد أكثر مما تحمل من المزاح…
تلك النظرة العابثة التي أرسلها نحوها لم تكن عابثة حقًّا، بل كانت كالسهم المسموم، تخترق أعماقها لتذكرها بما لا يقال أمام أحد… بما تعرف وحدها أنه تهديد صامت لا مفر منه.
كأن بينهما حديثا خفيا، لغته العيون لا اللسان، ومعناه واضح كالشمس في عينيها المرتجفتين: إما الطاعة… أو الفضيحة.
تبادل الجميع النظرات، بينما رفع فارس حاجبه بخبث وغمزها كأنه يزرع في داخلها التهديد بلا كلمة…
اقترب أمير منها، وقال بهدوء : ليه يا حب؟ الشقة أريح وأمان، ومعاكي نغم وليله، وأنا هاچي كل يوم أطل عليكم..
اغرورقت عيناها بالدموع، وردت بتلعثم يائس: أصلاً أنا بحب الجعدة مع صحابي البنات اللي في السكن.
هز أمير رأسه نافيا وقال بثقة حازمة: اللي تحبي تنجل معاكي، تنجل…
ثم نظر إلى فارس مبتسمًا: ولا إيه يا غالي؟
رد فارس بإيماءة ثقيلة ونبرة تحمل ما بين سطورها وعدًا مموها بالتهديد: طبعًا… الشقة شجتك يا حبيبة، عشان خاطر هزيم… واللي عملتيه فيه…
كانت كلماته كغطاء ناعم فوق جمر مشتعل، أما هي فشعرت بأن الأرض تميد تحت قدميها، وأن فخ فارس قد أُحكم من حولها دون أن تستطيع اعتراضًا.
نظرت له بغضب متأجج، والدموع تتراقص في عينيها، شعرت بأن كلماته تخنقها أكثر مما تهددها، فهزت رأسها بيأس وقالت بصوت متحشرج بالدموع:اللي تشوفه… أنا بدي أروح… زمان چدتي وصلت من السفر!!
أومأ أمير مبتسمًا وهو يحاول تهدئتها:يلا يا حب… انا بردك وحشتني چملات جوي !!
انصرفت حبيبة بخطوات سريعة، كأنها تهرب من جدار ينهار خلفها، أو من عينين تلاحقانها كظل لا يرحم…
ظل فارس يتابعها بنظره، صامتًا، حتى توارت عن عينيه، بينما قال أمير وهو يتهيأ للمغادرة: هستناكم بكره الساعة تسعة.
رد فارس بصوت خافت خال من أي انفعال: تمام يا أخوي.
ثم غادر أمير، تاركًا وراءه صمتا مشحونا يلتف حول فارس كوشاح من الغيظ والندم… وصدى خطوات حبيبة يتلاشى، لكنه ما زال يدوي في صدره كجرح مفتوح لا يلتئم.
نظر بدر إلى فارس بنظرة فاحصة نارية، كأنه يحاول أن يقرأ خلف عينيه ما يخفيه قلبه، ثم غمغم بصوت مشوب بالدهشة والريبة: إيه اللي فيك يا غالي؟
رفع فارس منكبيه بلامبالاة متصنعة، وقال وهو يتظاهر بالجهل: إيه فيا؟ أنا زين أهو.
ضحك بدر بسخرية خفيفة وقال:زين كيف؟ أنا ملاحظ من كام يوم بس هكدب حالي.
تحرك فارس بخطوات متوترة نحو الخارج، وهتف بنفاذ صبر: أنا مش فاضيلك، أنا هروح المزرعه!
قبض بدر على ذراعه فجأة، وغمغم بخبث مشوب بالانتصار: بس بس كده، بانت يا واد عمي… اهلا بيك في الچحيم الناعم.
دفعه فارس بعصبية وهمس بحدة: حل عني، أنا ناجصك؟
خرج من الإسطبل بخطوات متسارعة يغلي دمه، وضحكة بدر تتبعه كطيف ساخر يلهب أعصابه…
توقف فارس عند الباب الداخلي للسرايا، وصوته يعلو:
نغم!
خرجت إليه مسرعة، ترفع طرف عباءتها عن الأرض، وهتفت بلهفة: نعم يا غالي؟
أشار لها بيده وقال بصرامة هادئة:حضري حالك، هتسافري بكرة، وتجعدي في شجة چمب الكلية، مع أخت أمير العزيزي.
نظرت له بدهشة عريضة، وقالت وقد ارتسم الذهول في صوتها: چد؟! بس ما كنتش موافج في الترم الأول!
أومأ برأسه دون أن يلتفت، وقال بجمود يخفي اضطرابه:
عشان كنتي وحدك… دلوق معاكي حبيبة.
صفقت بيديها بمرح طفولي وقالت بفرحة صافية:
تشكر يا أخوي، المشوار كان يهدني.
اكتفى بإيماءة سريعة، وصوته خافت لكنه حاد: حضري حالك.
ثم انصرف بخطوات تشتعل غضبًا، كأنه يهرب من نفسه أكثر مما يهرب من أحد، يترك خلفه أثر نار لا ترى، لكنها تحرقه من الداخل.
…………………..
في مساء هادئ من أمسيات سرايا العزيزي،
تسللت حبيبة إلى غرفة جدتها كما تتسلل الطفلة إلى حضن الأمان الأخير…
كان الضوء الخافت يتسلل من خلف الستائر، يرسم على وجه جملات ملامح سكينة مقدسة، تلك السكينة التي لا يعرفها سوى من فقد القدرة على الكلام، لكنه لم يفقد لغة القلب…
كانت جملات خرساء منذ سنين، غير أن عينيها وحدهما تتكلمان ببلاغة تعجز عنها الألسن، وكانت حبيبة وحدها تفهمها كما لو كان بينهما حبل سري من الفهم الخالص لا تقطعه الأيام.
دلفت حبيبة بخطوات مرتجفة وهمسة بصوت مبحوح تغشاه العبرة: چدتي…
رفعت جملات رأسها فجأة، ارتسمت على وجهها دهشة قلقة، ثم أشارت إليها بيد مرتعشة بالحنان، تدعوها إلى الاقتراب…
لم تنتظر حبيبة ثانية، بل اندفعت نحوها كما لو كانت تهرب من العالم، وألقت بنفسها في أحضانها، تضمها بقوة وارتجاف، وهمسة بين شهقات محبوسة: أنا مخنوجة جوي يا چدتي… الحمد لله إنك رچعتي بالسلامة.
انحنت جملات عليها ومسحت على شعرها برفق مفعم بالعطف، ثم رفعت وجه حفيدتها بين كفيها، ونظرت إليها بعينيها المملوءتين بالدهشة والوجع، وأشارت بيدها تسألها بصمت: ما بكي؟
انزلقت دمعة ثقيلة على خد حبيبة، وهمسة بصوت متقطع من البكاء: وحشتيني يا چدتي… ينفع متسافريش تاني؟
ارتجفت ملامح جملات بين الدهشة والخوف، ورفعت يدها إلى صدر حبيبة، وضعتها على قلبها برفق كأنها تستشعر نبضه المتعب، ثم هزت رأسها ببطء بحنان غامر.
بلعت حبيبة لعابها بصعوبة، وصوتها يتهدج:أنا عارفة إنك هتحبي الجعدة عند النبي… بس متهملنيش يا چده اليومين دول.
أومأت جملات برأسها بحب صامت، ومسحت على شعرها برفق، ثم ضمتها إلى صدرها في احتواء يشبه الغفران…
كانت جملات لا تعرف للنطق سبيلًا، لكن الصمت في تلك اللحظة صار أفصح من كل لغات البشر…
شعرت بأنفاس حفيدتها تتسرب إلى قلبها كما يتسلل الضوء إلى غرفة مظلمة، تهز جدران السكون في داخلها
تقلبت في صدرها دقات غريبة، شعرت الجده كأن قلب حفيدتها قد استدرج برفق وسرق منها دون مقاومة…
سرق على يد من لا ترى يداه، ولا يسمع خطاه، لكنه حاضر في كل وجع وكل رعشة وكل دمعة محبوسة…
نعم… لقد أدركت جملات في تلك اللحظة أن حفيدتها وقعت فريسة ذلك السارق الخفي، ذاك الذي يدخل القلوب بلا استئذان ويتركها تهيم بين الشوق والخوف… السارق الذي يدعى العشق.
…….
كانت العيادة غارقة في سكون المساء، تتراقص على جدرانها أنوار الشارع الخافتة،
حين دوى صوت المفتاح في الباب وهو يفتح، لم يمهل عماد ليلتقط أنفاسه، إذ شعر بكف غليظة تطبق على عنقه، وأخرى تخنق صرخته قبل أن تولد،
ودفع جسده بعنف إلى الداخل حتى ارتطم بزاوية المكتب. ثم أغلق الباب بعنف أربك الصمت.
التفت عماد بغضب وهتف من بين أنفاسه المقطوعة، والغضب يتطاير من عينيه:انت مين يا ولد الكلب؟
لم يجبه الرجل، بل أخرج سلاحه من تحت معطفه، ولمع المعدن البارد تحت الضوء الأصفر، قبل أن يقبض على عنقه مجددًا وهدر بصوت كالرعد: ملكش صالح أنا مين… اسمع الكلمتين دول وحطهم حلجة في ودنك.
ارتفع صدر عماد وأنفاسه متلاحقة، ثم غمغم بحدة متحدية: طب شيل اللي على وشك ديه وحدتني راچل لراچل.
لكزه الرجل بفوهة السلاح في صدره بقسوة، وقال بعنف مكتوم: ملكش صالح باللي على وِشي… اسمعني بس. بت الأنصاري اللي روحت عليها، لو رچعت تاني حداهم، متلومش غير حالك.
ارتفع حاجبا عماد بدهشة ممزوجة بالعبث، ثم قال ساخرًا وهو يمسح عن فمه الدم الذي بدأ يقطر من أثر الدفع:
ولو روحت؟ هتجتلني يا أدهم؟
تجمد ادهم في مكانه، ومرت لحظة من صمت ثقيل قبل أن يغمض عينيه بحنق متألم، ثم هدر بصوت مبحوح:
كنت عارف إنك هتكشفني… بس أيوه، هجتلك يا صاحبي لو عينك ارتفعت فيها تاني.
اقترب منه عماد، وربت على منكبه بابتسامة ساخرة متعبة: ولما انت واجع كده، مستني إيه يا حزين؟ لما واحد ما يسواش يخطفها منيك كده؟
في لحظة غضب كاسر، نزع أدهم الشال الذي يخفي وجهه، فظهرت ملامحه المشدودة تحت لهيب الغيظ، وهدر بصوت خافت كأنه نصل يشق صدره: كنك مش صاحبنا من عمر الخمس سنين! عارف اللي فيها يا عماد… أنا لو اتچوزت نغم، يبجي بحكم عليها وعليا بالعذاب اللي ملهوش آخر… مش هجدر أعيش زي بدر، دانا أنتحر وأخلص.
ساد الصمت للحظة، تراجع فيها الغضب أمام مرارة الحقيقة. جلس أدهم على أقرب كرسي بعنف، وأسند مرفقيه إلى ركبتيه، ودفن وجهه بين كفيه، يلهث كأنما يطارد أنفاسه.
اقترب عماد منه ببطء، وصوته يحمل مزيجًا من الحزن والارتباك:ياخي، أنا هتخوت من حالكم ديه… يعني يا تتچوزوا واحدة مش بتحبوها، يا تتحرموا من الجواز خالص؟
رفع أدهم رأسه بعينين تائهتين وقال بمرارةٍ جامدة:
هي ديه حياتنا يا عماد… واللي يحاول يغير، بيموت، أو يعيش ميت. مش فاكر حمزة ولد عمي؟ اللي عمله في نفسه علشان يحب؟
أطرق عماد رأسه بأسى، وصوته اختنق وهو يتمتم:
دانا ادرعت لما أمي جالتلي في التلفون… كيف جتل عروسته؟ حاله كان يهد الحجر، كت هتخوت.
وبين أنين الخيبة وصدى الخوف، سكن المكان، حتى صار الهواء في العيادة أثقل من الرصاص.
وسقطت العيادة في صمتٍ متعب، لا يُسمع فيها سوى أنفاس أدهم المتهدجة وصوت عقارب الساعة وهي تشق الوقت ببطء خانق…
جلس عماد بجانبه، كتفاه منحنيتان كمن يحمل على ظهره أثقال الأجداد، وصوته خرج من أعماق قلب مثقوب بالحزن : اهدي يا صاحبي.. متعملش في حالك كده !!
غمغم ادهم بنبرة تكسوها المرارة: الجهر الخفي لما يحضر، بيغيب العقل، ويجبِض الجلب وچع واعر… كيف جبضة الموت، يا عماد.
انخفض صوته كمن يروي مأساة محفورة في الصدر لا في الذاكرة، ثم تابع بحزن أثقل من الحديد:حمزه محسش بحاله… وجتل عروسته، ولما فاق على اللي عمله، ما استحملش، جتل حاله.
رفع عينيه نحو عماد، وبدت فيهما شرارة قهر تخبو وتشتعل في اللحظة ذاتها، ثم قال بصوت منكسر:
وديه حصل مع بدر بردك، ولحجناه علي الآخر لحظه… بدك أعمل كده في نغم؟
هز عماد رأسه سريعًا، وغمغم بصدق قلق:لا طبعا… بس لازمن يكون في حل.
زفر أدهم بعمق، وأسند ظهره إلى المقعد، وصوته خرج متهدجا كأن كل كلمة تستنزف من روحه: أبوي قالي إن جدي، لما اتچوز واحدة كان بيحبها، عيشتهم كانت عذاب. جاب شيوخ كتير… وقالوا إن اللي بينهم لعنه، معچوده بالدم… وفكها بالدم.
شهق عماد بدهشة وارتبك صوته: يعني لازم يدفع دمه عشان اللعنه تتفك؟!
أومأ أدهم بحزن عميق، وهو يحدق في الفراغ كمن يرى ما لا يرى: أيوه… بس مش أي حد، ولا في أي مكان. لازمن في المكان اللي اتعجِدت فيه اللعنه من الأول… والنصيبة إن محدش جادر يوصل لمين اللي عجدها، ولا وين المكان.
ضرب عماد كفا بكف، وصاح بدهشة ممزوجة بالرهبة: ومين ولد الحرام اللي عجد العقدة السودة ديه؟ وليه الشر ده كلاته؟!
هز أدهم رأسه بيأس عميق، وصوته صار همسًا مثقلاً بالقدر:الشيخ جالي… إن اللي عجد العقدة ديه أكيد مات.
اتسعت عينا عماد بذهول، وهتف: مات؟!
أومأ أدهم بتعب لا يليق بعمره، وقال: أيوه… لأن الشيخ ما جدرش يوصل لأي حاجة تساعده، فعشان كده خمن إنه مات.
تراجع عماد متكئًا إلى الكرسي، عينيه زائغتين، وصوته يرتجف بالأسى: ده سواد… وعيشه مجندلة يا أبو الصحاب… وانت هتجعد تطفش كل عريس كده !!
ابتسم أدهم ابتسامة باهتة لا تشبه سوى وجع رضخ للقدر، ثم قال بصوت مبحوح: ايوه؟ هطفش كل العرسان لحد ما اموت.. بعدها تتچوز براحتها!
رد عماد وهو يضع كفه على فخذه بحنوّ صادق: ربنا يهدي عقلك يا صاحبي… كده هتتخوت.
ضحك أدهم ضحكة مكسورة، وانحنت زاوية فمه بوجع خافت وتمتم: كله محصل بعضه…
ثم غرق في صمته من جديد، كأن كلماته الأخيرة كانت إقرارًا باستسلامٍ لمصير لا فكاك منه.
….
في سرايا العزيزي،
كان المساء يهبط ببطء على جدران البهو الفسيح حين خرجت ريم بخطوات مترددة، فوجدت أمير جالسا في انتظارهـا،
سيجارته تشتعل بين أصابعه وتطفئها شرارات القلق التي تملأ عينيه. توقفت أمامه بدهشة وهمسة: نعم يا أمير؟
أطفأ سيجارته في المطفأة بقوة، ثم أشار لها أن تقترب قائلاً بصوته المبحوح: تعالي يا أم كيان.
اقتربت وجلست في المقعد المقابل له، تراقب ملامحه التي أثقلها التفكير، وقالت بخوف خفي: خير؟
بلع غصته بألم ظاهر وقال وهو يتجنب النظر إليها:
احنا لازمن نشوف حل… أكيد مش عاجبك حال مرت عمك.
هزت رأسها بالنفي، وانحدرت دمعة ساخنة على وجنتها وهمسة:لا، بس بردك… انت كيف أخويا وأنا…
قاطعها بابتسامة وحنان صادق: وانتي والله يا أم كيان كيف أختي حبيبة، وهتفضلي كده… بس أنا كنت بدي أولك حاچة.
ــ خير؟
ــ احنا نتجوز.
شهقت بدهشة، كأن الكلمة نزلت عليها من سماء بعيدة:
كييييف ؟!
أشار لها بيده في هدوء وقال: اسمعيني زين… احنا هنتجوز على الورق، عشان بت طه تتربى في بيت أبوها. بس أوعدك، لو في يوم حسيتي حالك بدك حياة طبيعية، أنا هطلجك وتشوفي حياتك.
ساد بينهما صمت قصير، كأنه اختبار للنية لا للكلمة، ثم أومأت برأسها بعينين تلمعان بالامتنان وهمسة بفرح خجول: بچد يا أمير؟
ابتسم برفق وقال:طبعًا يا أم كيان، أنا مش هظلمك أبدًا… بس أنا كمان لو في يوم…
قاطعته بسرعة، وفي عينيها لمعة وفاء نقية: هروح أخطبها ليك بنفسي ياخوي، وأنا أفديك الساعة.
ضحك أمير، وزفر بارتياح حقيقي، كمن أزاح عن صدره جبلًا: الله عليكي… زحتي چبل من على صدري والله.
نهضت بسعادة وقالت بصدق طفولي:دانت اللي حليتها… الله يخليك يا رب على طول.
ضحك بدهشة وهتف: إيه الدعوة العسل دي؟ ويخليكي يا ستي على طول بردك.
وفجأة دخلت حبيبة بصخبٍ طفولي وضحكتها تملأ المكان، وقالت مازحة: أو علي عرض يا مخوته انتي وهو!
نظر إليها أمير بحنق مصطنع وغمغم: وعرض أمك، تحلي عنا! انتي مش وراكي سفر الصبح؟ روحي نامي!
فسرت الضحكة في البهو، خفيفة كنسمة جاءت لتكسر ثقل الموقف،
بينما كانت الأرواح الثلاثة تحمل في داخلها امتنانًا دفينًا لتلك اللحظة التي جمعتهم على نية طيبة، خالية من الأهواء، مليئة بالستر والنية الصافية.
هزت حبيبة رأسها بالنفي وهي تبتسم بمكر طفولي، وقالت بجرأة خافتة: لا… أنا سمعتكم وانتوا بتفجوا على الجواز… بس على الورق، جال!
اتسعت عينا أمير دهشة، وأشار لها بسرعة وهمس بعصبية مرحة: اشش! أمك تسمعك يا بت!
اقتربت ريم بخطوات غاضبة ظاهريًا، وغمغمت مهددة وهي ترفع إصبعها أمام وجه حبيبه: حب ودين النبي هعضك! أوعك تتحدتي!
لكن حبيبة لم تتراجع، بل أمالت رأسها بخفة وقالت بعبث شقي: تدفعي كام؟
لم تحتمل ريم الموقف، فعضت شفتها بخبث، ثم قبضت على ذراع حبيبة وعضتها بخفة غاضبة!
صرخت حبيبة بألم وضحكت في آن واحد: آآآه! خلاص خلاص يا بت العضاضة!
ارتج صوت أمير ضاحكًا وهتف: خلاص يا أم كيان، همليها!
تركتها ريم وهي تضحك رغم غضبها، فاقترب أمير منهما وفصل بينهما، وقال متهكمًا: انتو متى هتكبروا؟
رفعت حبيبة وجهها نحوه بعناد ساخر وقالت: معرفش… بس أنا بدي رشوة عشان أسكت!
قهقه أمير حتى دمعت عيناه، وقال مازحًا: بدك رشوة؟ دانت جبارة! ماشي، بدك إيه؟
بللت شفتيها بخفة وغمغمت: بدي عرض الأربع سندوتشات من ماك… ولتر فيروز!
رفع أمير حاجبه بدهشة مصطنعة، وقال وهو يلوح بيده:
أربع سندوتشات؟! ولتر فيروز؟ يا مفچوعة!
قهقهت ريم بخجل وغمغمت متطفلة: وأنا بدي يا أمير!
ضحك أمير بصخب أكبر، وقال مستسلمًا:احنا في حضانة العزايزي كده؟! ماشي يا أختي، أنا هطلب اللي بدكم، وبعدها تخفوا من وشي!
هتفوا معًا بصوت واحد مفعم بالمرح: هنخفوا والله!
ثم تعالت ضحكاتهم في البهو، تمزج الجد بالحب، والمسؤولية بخفة الدم، وكأن السرايا العتيقة عادت تنبض بروح جديدة، خالية من ثقل الأيام.
……..
في سرايا الأنصاري،
كان الليل يهبط كحكاية قديمة تعرف طريقها إلى القلوب، والصمت ينساب بين الجدران كنسيم ناعس يطمئن الأرواح…
دلف بدر إلى البهو، عيناه تتجولان بدهشة بين الأثاث الموشى بالسكينة، والأضواء الخافتة التي تهمس بنعاس ودفء. تمتم بصوت خفيض اختلط بأنفاسه: كلهم نعسوا..
وضع الأكياس على الطاولة، ثم صعد الدرج بخطوات سريعة لا تشبه السير، بل لهفة تمشي على الأرض…
كان قلبه يصعد قبله، يبحث عنها قبل أن تفتح له الباب.
توقف أمام غرفتها، طرق الباب بخفة تعرفها هي كما يعرفها نبضها.
في الداخل،
كانت ليلة تغلق كتابها بتنهيدة وادعة، وضعته على المنضدة، ثم نهضت بخطوات حافية مترددة، كمن يتقدم نحو وعد قديم ينتظره منذ دهر.
وحين فتحت الباب، كان اسمه يسبقها، خرج من عينيها قبل لسانها: بدر…
أسند كتفه إلى حافة الباب، ونظر إليها بنصف ابتسامة يقطر منها الشوق، وهمس بصوت مبحوح كاعتراف يهرب من صدره: وحشتيني يا ليل البدر…
ارتجفت أنفاسها في صدرها، وردت بخفوت خجلان كأنها تخاف من صدى صوتها: وانت أكتر… بس كنت وين طول النهار؟
أشار بيده، وتنهد بعمق أنهكه الطريق:كان في شحنة في المزرعة… وادهم وراه مشوار، دبسني فيها.
اقتربت منه، ومدت يدها تمسح على صدره بحنو يشبه الصلاة، وقالت بصوت دافئ كنسمة بعد تعب: يا جلبي… أكيد تعبت.
رفع يده ببطء، ومرر إصبعه على حمالة قميصها بخفة مرتجفة ، وصوته ينخفض حتى كاد أن يختنق: جوي… كني هفرجع من چنابي كيف الجنبلة.
شهقت بخجل حائر وعضت شفتها السفلى، همسة:
بدر…
لكن الكلمة ذابت قبل أن تكتمل.
اقترب منها أكثر، التقط شفتيها بين شفتيه كمن يلتقط أنفاس الحياة بعد طول الغرق.
كانت قبلة تفيض بالشوق، قبلة اشتعل فيها الغياب وذاب فيها الصبر.
كل ما فاتهم من ليال عاد دفعة واحدة، في تلك اللحظة التي تمازجت فيها الروحان قبل الجسد.
شدها إليه أكثر، وضغط عليها كأنه يريد أن يثبت وجودها بداخله، يحاول أن يسرق من فمها وعد النجاة من اللعنة التي تفرّق بينهما…
أو أن يطرد من بينهما اللعنة التي تتربص بالحب في سراياهم القديمة…
كانت يداه تحاصر خصرها بحنو متوتر، كأنه يخشى أن تذوب إن تركها لحظة….وعيناه تقولان ما لم يستطع الكلام أن يقوله.
همست بين أنفاس متقطعة تشبه الرجاء: بدر… هيچي…
لكنه أسكتها، ووضع كفه خلف عنقها يجذبها برفق لا يخلو من التملك، وهمس بصوت مبحوح يتأرجح بين الحنين والجنون: همليه يولع… أنا مش جادر أهملك تاني.
واستسلمت…
ذابت بين يديه كقطعة شوق وجدت وطنها أخيرًا بعد غربة طويلة،
وترك الظل الطريق أمامهما مواربًا، كذئبٍ مترصد ينتظر خطى الضحية الي الهاويه …
كان الليل يزحف في عروقه عطشًا، يبحث عن دم جديد يسكب به لعنته، عل صدى صرخات بعيدة يسكت جوعه القديم…
غلت أنفاسه حقدًا، وأظافره راحت تنهش صدره كوحش يتلذذ بألمه، كأنما يتهيأ للوليمة القادمة من أرواح العاشقين…
لكن دوى في السكون صوت شهقة مرتجفة، كطعنة شقت صدر الليل، فأوقفت الظل المتوحش في موضعه… تجمدت فاطمه علي عتبة الغرفة، وشهقت بذعر وخجل، وهتفت بصوت مبحوح مرتجف: أباي بدر! هتعمل إيه؟
تجمدت ليلة في مكانها، ثم اندفعت بخجل شديد وتدفعت بدر بعيدًا عنها، وأغلقت الباب سريعًا كمن يهرب من لهب اشتعل فيه فجأة.
وقف بدر أمام الباب لحظة، والنار تتقد في عينيه، ثم استدار نحو والدته، وصوته مبحوح بالحنق: الله يسامحك يا يما.
رفعت فاطمة حاجبها بدهشة ووجع مكتوم، وقالت بنبرة تجمع الحزم واللوم:وه طب اختشي! بت عمك في الأوضة يا جليل الحية!
رمقها بدر بنظرة تشتعل غضبًا، وغمغم من بين أسنانه:
أما بعشجها يما.
تغير وجهها، وتورد بحزن عميق كأنما سمعت حكمًا بالموت. نظرت إليه بعينين دامعتين، وهمسة:يا ضنايا… وجعت جلبك بيدك.
هز رأسه نافيًا، وصوته ينزف وجعًا:مش بيدي والله يا يما.
مدت يدها تربت على منكبه برفق أليم، وقالت بضعفٍ مملوء بالإيمان:ربنا موچود يا ولدي… وجادر يحلها من عنده… روح ريح چتتك يا ضنايا.
أومأ برأسه خاضعًا، وهمس: حاضر يا يما.
تحرك ببطء نحو الدرج، بينما عادت فاطمة إلى غرفتها تمسح دموعها بطرف حجابها، تسير بخطوات مثقلة بالأسى.
التفت بدر من منتصف الدرج، نظر خلفه فرأى باب غرفة أمه يغلق بهدوء ثقيل.
ابتسم بخبث خافت، ثم عاد بخطوات متسللة إلى باب ليلة، طرقه بخفة تعرفها جيدًا.
من الداخل، شهقت ليلة بتوتر، وهمسة لنفسها بارتباك:
عاود تاني؟
دارت بخوف وفتحت الباب ببطء، وحين رأته واقفًا أمامها، قالت بدهشة مرتعشة: تاني يا بدر؟
أومأ برأسه بحسم صامت، وصوته منخف
كأمر لا يقبل نقاشًا:أيوه… خشي حطي حاچة عليكي وتعالي.
تراجعت خطوة، ونظرت إليه بدهشة أكبر وقالت بخفوت:
ليه يا بدر؟
ابتسم بعبث وحنو متداخل، همس بصوت خافت كأنه يذوب في الحروف:چعان يا ليلة.
شهقت بحنان طفولي، وقالت بقلق صادق: يا روح ليلة… انت مكلتش؟
هز رأسه مبتسمًا، وعيناه لا تفارق ملامحها.
ركضت إلى الخزانة، التقطت عباءة وارتدتها بسرعة مضطربة، ثم خرجت إليه وقالت بنبرة دافئة يغمرها الاهتمام: هحضرلك العشاء تعال يا ياجلبي..
ابتسم بدر بعبث خفيف وهمس بصوت خافت يشبه الوعد. : يلا يا عمر جلبك !!
نزلا معًا الدرج، خطواتهما تتهادى في صمت الليل، لكن بدر ما لبث أن انحرف بها عن الطريق المؤدي إلى المطبخ، وقبض على معصمها برفق حازم، وهمس بصوت خافت يقطر دفئًا: تعالي معايا.
شهقت ليلة بخوف خفيف وقالت مترددة: على وين يا بدر؟
ابتسم بخبث وقال وهو يخفض صوته كمن يهمس بسرّ بينهما: أنا چبت بيتزا… كيف ما بتحبيها.
شهقت بضحكة صغيرة، بدت كحفيف نسمة على ليل هادئ، وغمغمت بحنو مرح: يا مخوت!
التقط بدر الأكياس وهتف بنغمة راضية: تعالي… نجعد في الچنينه.
أومأت برأسها موافقة، وسارا معًا نحو الحديقة التي كانت مضاءة بخفوت، تفوح منها رائحة الورد المبتل بالندى…
جلسا إلى الطاولة الخشبية الصغيرة، وفتح بدر الصناديق، أخرج الطعام بترتيب عشوائي دافئ، ثم التقط قطعة من البيتزا وقربها منها هامسا بحنو عميق:
كلي يا ليل البدر.
نظرت إليه بدهشة تكسوها محبة، وقالت بخفوت ناعم:
ـحبيبي أنا كلت… إنت مكلتش.
اقترب منها أكثر، حتى لامس صوته شفتيها، وهمس بنغمة خشنة تفيض دفئا وإغواء: افتحي نفسي يا جلبي.
تورد وجهها، وأومأت بخجل، وقطمت قطعة صغيرة، لكن قبل أن تبتلعها جذبها بدر من عنقها برفق واندفع إليها بقبلة مفاجئة،
التهم فيها بقايا القطعة بين شفتيهما… توردت وجنتاها، وارتجفت أنفاسها، وهمسة بخفوت مرتبك: بـ بدر…
لعق شفتيه بنهم متوحد بها، وقال بصوت مبحوح بين المزاح والرغبة: طعم البيتزا من بين شفايفك… آخ يا بِت!
ثم رفع قطعة أخرى، وعيناه تلمعان بحرارة خفية، وهمس بشغف خافت كأنه وعد:جطمة تاني يا جلبي.
أومأت ببطء، وفتحت فمها في خجل شهي، وسارت القطعة بين شفتيهما من جديد… قبلة أعمق، أطول، تختلط فيها أنفاس الجوعين إلى بعضهما أكثر من الجوع إلى الطعام.
وفي الأعلى…
نهض فارس من أرض الشرفة التي جلس عليها طويلًا، وقد التقط المشهد بعينيه دون قصد، فارتسمت على وجهه دهشة مبحوحة، وهمس ساخرًا: الله يجيدك يا بدر… أنا ناجص!
ثم دلف إلى غرفته، يغلي في صدره بركان لا يرى، وقال بمرارةٍ تشتعل بين ضلوعه: همل الدنيا بحالها… وچاي جدامي؟ ماشي يا واد عمي.
ألقى جسده على الفراش بعنف صامت، وعيناه تفران من السقف إلى الجدار بلا تركيز.
كانت الذكريات تتلاحق في رأسه، تحرقه أكثر مما تسليه حضن حبيبة على ظهر الفرس، دفء جسدها في الاصطبل، ملامحها المرهفة المصدومة حين كانت تحته، ولمسة يدها على وجنته في تلك اللطمة التي لم ينسها.
ذكريات قليلة، لكنها كافية لتسرق منه النوم، والراحة، وكل ما تبقى له من اتزان.
……..
صباحا في سرايا الأنصاري
كان الضوء يتسلل رويدًا إلى أركان السرايا، يوقظ الرخام الهادئ تحت أقدام الخدم، ويفتح النوافذ على رائحة الورد المتسلق من الحديقة…
جلست العائلة حول المائدة، والسكينة تتخلل المكان كسطر لم يكتمل.
نهض فارس، ارتدى سترته في حركة سريعة، وهتف وهو يلتقط مفاتيحه: يلا يا نغم.
رفعت فاطمة رأسها إليه، ونظرتها تجمع بين الدهشة والرجاء، وقالت بصوت مفعم بالأمومة: أفطور يا ضنايا، ما شربتش غير الجهوة!
هز رأسه بالنفي، وارتسمت على ملامحه ملامح المستعجل الذي يخفي وراء ابتسامته تعب السهر، وقال وهو ينظر في هاتفه : متأخر يا يما، ولسه هوصل نغم قبل ما أروح الشركة.
شهقت وهيبه بقلق حقيقي، وبدت نبرتها مرتعشة كأنها تمسك بخيط خوف قديم: والله ما كان له لازمه تبيت بره البيت، الدنيا مش مضمونه، كيف أنعس وبِتي بره؟
توقف فارس عن العبث في الهاتف ، والتفت إليها بابتسامة صغيرة حملت في طيها طمأنينة صادقة، وقال بهدوء حنون: متخافيش يما، أمان والله…يعني أنا مش هجلج على نغم.
ضحك بدر بخفة فيها عبث، وهو يميل إلى الخلف على الكرسي وقال:اللي كان الترم الأول ما ينفعش… سبحانه مغير الأحوال، بجى أمان!
رفع فهمي حاجبه، ينظر بينهما باستفهام عجيب، وقال:
كيف يعني؟
ضحك فارس، وفي صوته خيط خفي من التحدي:
أجولك أنا يا عمي… كيف طريجة چديدة لوكل البيتزا؟
شهقت ليلى بخجل مفاجئ، وتلونت وجنتاها بلون وردي حاد، وانحبس النفس في صدرها، فالتفت بدر في ذعر، مد يده يدلك ظهرها برفق، وهتف بقلق حنون:على مهلك يا ليلة، على مهلك يا حبيبتي.
هتفت فاطمة وهي تهب من مكانها، وقد بدا الرعب في عينيها: اسملله عليكي يا بتي! يا ولدي هاتلها ميه بسرعة!
ناولها بدر كوب الماء، فرفعته ليلى وارتشفت القليل، ثم قالت بصوت واهن ودموعها تلمع في مقلتيها:خلاص… راحت.
تبدلت ملامح بدر، وغامت في عينيه غمامة غضب مكتوم، التفت نحو فارس وقال ببرود يخفي غليانًا: يعني كده؟ بس يا رب تكون الطريجة عچبِتك… وتجدر تچربها!
ضحك فارس بخفة مستفزة، وقال وهو يلوح بيده :
المهم إنها عچبتك إنت… أنا ما تنفعش معايا نص الحكاية، بحب أچيب من الآخر.
رمقه بدر بنظرة فيها مزيج من العبث والغضب، وهمس نبرته تقترب من التهديد:ابقى جبلني لو لمحته.
رفع فارس حاجبه بنفاذ صبر، وقال بحدة:هو إيه ديه؟
ابتسم بدر ببرود وغمغم بنبرة ثقيلة: الآخر… يا واد عمي.
ابتسم فارس بجانب فمه بعبث وهمس: بعون الله هوصله وهلعب فيه كمان!!
ضحك بدر وسند بصخب عابث وتبادلت فاطمة وهيبة النظرات بدهشة لا تخلو من القلق، وقالت إحداهن بصوت منخفض:انتو بتجولوا على إيه؟
تنهد سند وهو يهز رأسه بأسى، وقال في فتور ساخر:
بيحكوا على الوكل يا مرات عمي… اللي في نصاص الليالي بره في الچنينه!
جحظت عينا ليلى، وارتجفت شفتاها، فهبت من مكانها كأن الأرض اشتعلت تحت قدميها، وركضت إلى الطابق العلوي، تخفي وجهها خلف كفيها المتوردتين بالخجل.
نظر بدر إلى سند بنزق مكتوم وهمس غاضبًا: حتى انت يا أبو عمو؟!
نزلت الخادمة بخطوات حثيثة وهي تحمل حقيبتين كبيرتين، فالتفت إليها فارس بإشارة حازمة من يده وهتف بصوته العميق: حطيهم في العربية يا بت.
أومأت برأسها سريعًا وهي تبتسم في احترام:حاضر جنابك.
تابعت طريقها إلى الخارج، وفي تلك اللحظة، نزلت نغم بخطوات سريعة، وصوتها يحمل حيوية الصباح واندفاع الشباب: أنا چاهزة يا خوي.
نهضت فاطمة وهيبة من مقعديهما، تتسابق نبراتهما في وصايا لا تنتهي… هتفت وهيبه بلهفة الأم وقلقها الممزوج بالحنان:خدي بالك من روحك يا بتي.
اندفعت نغم إلى حضن والدتها، دفنت وجهها بين يديها كما لو كانت تخبّئ عمرًا من الطفولة في تلك اللحظة الأخيرة، وقالت بصوت رقيق:حاضر يا يما.
أشار فارس برأسه لهما في هدوء رجولي يحمل في ملامحه مزيجا من الاحترام والعجلة، وقال: أنا هطلع العربية، على ما تفضوا سلامات.
خرج بخطوات واثقة إلى فناء السرايا، والهواء يحرك أطراف سترته بخفة كأن الصباح يفسح له الطريق…
تبعه بدر بخطوات متأنية، وصوته يأتي من خلفه بنغمة أخوية دافئة:هتيچي في العشية؟
رفع فارس منكبيه بجهل بسيط وقال:معرفش… على حسب، هشوف وأجولك.
صعد بدر إلى سيارته، فتح الزجاج وألقى نظرة سريعة إلى أعلى الشرفة قبل أن يغلقه مره اخري ، وملامحه تستعيد ذلك العبث الرصين الذي لا يفارقه، ثم انطلق في طريقه إلى المصنع، تاركًا خلفه ذيول الغبار تتلاعب مع الضوء.
بعد لحظات، خرجت نغم بخطوات خفيفة، تحمل حقيبتها الصغيرة، وعيناها تبرقان بحماس يشوبه حذر…
فتحت باب السيارة وصعدت، وما إن استقرت حتى انطلقت السيارة تقلهما معًا نحو نجع العزيزي، حيث كان القدر ينتظر دورته الجديدة… بين الحنين والمفاجآت.
……….
في سرايا العزيزي،
كان الصباح يتسلل برفق بين أعمدة الرواق، يمر على الزخارف القديمة فيداعبها بنوره الذهبي، وينسكب من النوافذ العالية كأشرطة من ذهب خالص،
ترسم على الأرض خطوطا مرتجفة من حياة جديدة.
هدوء مهيب يملأ أرجاء المكان، لا يقطعه سوى وقع خطوات خفيفة تنزل على الدرج، كأنها نغمة شاردة وسط موسيقى الصباح.
كانت حبيبة تنزل بخفة طفولية، تسحب وراءها الحقيبة الثالثة، وشعرها يتمايل مع حركتها بانفعال لا تخفيه. وضعتها بجانب الباب بحركة حادة، ثم أطلقت تنهيدة طويلة وهتفت بضيق طفح من نبرتها: آااف!
رفع أمير حاجبه بدهشة، بينما تبادلت نظراته مع عساف الذي نظر إليها بتمعنٍ مزيج من الدهشة والحنان، ثم قال وهو يميل برأسه قليلًا: انتي هتهجي يا حب؟
هزت رأسها بضيق، ودموعها بدأت تلمع في عينيها المكحولتين، وصوتها خرج مترددا كطفلة تحاول الشكوى لأول مرة: لا… أنا بدي أجولك على حاجه.
التفت إليها أمير، وقد غمر وجهه قلق خفي، كأن شيئًا في نبرتها طرق قلبه قبل أذنه، وقال برقة مشوبة بالانتباه:
جولي يا حب…
نظرت إليه، وتحت أنفاسها المتقطعة انحدرت دموعها ببطء على وجنتيها، كأنها تستسلم لوجع أعمق من الموقف نفسه، ثم همسة بصوت مرتجف:مبديش أسكن في الشجه دي أنا يا خوي…
تجمد المشهد لحظة،
تبدلت الوجوه بين الدهشة والحيرة، وساد الصمت أرجاء السرايا…صمت كثيف كأن على رؤوسهم الطير
وووووووووووو
ساحره القلم ساره احمد 🖋️

ييييي
تحفه
اال
شسيشسي
تسلمي
روعة