نار وهدنه

ناار هدنه(الفصل الثالث وعشرون)

ناار هدنه(الفصل الثالث وعشرون)

الفصل ٢٣
ما الحبّ إلا لمن اختارنا وسط الزحام، من رأى فينا الوطن حين صار العالم غريبًا… لمن جعلنا استثناءً، لا تكرارًا، لمن قبض على أيدينا يوم أفلتها الجميع.

ما الحبّ إلا لمن ساندنا حين كنّا على وشك الانهيار، لمن سار معنا في التيه، واحتضننا في الرُشد… لمن كان لنا في الضيق ملاذًا ومسكنًا، شدّ على أيدينا كلما مالت بنا الحياة نحو الهاوية.

ما الحب إلا لمن أحبّنا بنقصنا، وضمّنا بكل عيوبنا، لمن رأى في وجوهنا نورًا حتى ونحن في أسوأ حال… لمن تحمّل مزاجيتنا المفرطة، واحتمل شكوانا التافهة، وتعابيرنا المتكررة، وصمتنا الذي لا يُحتمل.

لمن كان لنا في العتمة نورًا… وسندًا… وكتفًا حين لم نجد غير التراب.

اتسعت عينا ضي، وقد اختلط فيهما الخذلان بالخوف، كأن صاعقة هبطت على صدرها دون رحمة.
صوتها خرج متهدجا، لا يصدق ما سمعته : يعني إيه؟!… لازم تتجوز تقي؟!

نظر لها سلطان بعينين تغمرهما الحسرة، وقلب يختنق بصمت موجوع، ثم تمتم بصوت مخنوق: استني يا ضي… هفهمك …

هزت رأسها نفيا، وشفتيها ترتجفان بسخرية مرة: تفهمني إيه؟ تفهمني إنك هتتجوز؟!

اقترب منها بخطوات حائرة، لكنها تراجعت سريعًا، كأن الأرض نفسها لفظته…
ثم استدارت وركضت إلى الأعلى، وصرخة مشتعلة تكاد تخرج من عينيها قبل فمها.

هتف خلفها، بصوت ارتجف بين الغضب والرجاء: ضي… استني!

هم بالصعود خلفها، لكن يدا قوية أمسكت بذراعه فجأة…
يد الهواري التي طالما أثقلها الزمن بالحسم والهيبة.
قال بصوته العميق الجاف، الممزوج برجاء ثقيل:أنا عارفك راجل يا سلطان… ومش هتتخلى عن بت عمك وهي محتاجاك….وقفت جنب الغريبة… وحميتها بروحك،
هتسيب بت عمك تتفضح؟!

أدار سلطان وجهه إليه، وصدره يعلو ويهبط، وقهره يكاد يفيض من عينيه: مقدرش أسيبها… ومقدرش أتحمل فضيحتها،هي لحمي ودمي…
بس كمان ضي روحي ..

ربت الهواري على منكبه، بصوت حاول أن يكون حنون رغم صلابته :مراتك لسه صغيرة، كلمتين منك يهدوها،
وانت لا أول راجل ولا آخر راجل يتجوز على مراته.
أنا فكرت في عز،
بس عز صاحب عيال، ومش هينفع أطلب منه يكتب على تقي،يتخرب بيته… وأشيل ذنب عياله؟ وحتي راجح بس راجع واقول راجح مش لحمه ودمه …

اخفض سلطان عينيه، وقال بصوت خافت متهدج: أنا فاهم يا جدي… والله فاهم… بس… أنا عندي شرط.

تغيرت ملامح الهواري في لحظة، واحمر وجهه، وهدر بصوته الغاضب: هتتشرط على بت عمك يا سلطان؟!
هي دي آخرتها؟!
ولا عشان وقعت وبقت محتاجاك؟!

أسرع سلطان يهز رأسه نفيا، وخرج صوته من أعماق وجعه: ولا عشت ولا كنت يا جدي…
بس أنا كده هظلمها ..أنا مش هقدر أتعامل مع الجوازة دي على إنها جوازة عادية، أنا… أنا عمري ما هحبها.

ثم رفع عينيه إليه، وكأن اعترافه ينزع شيئًا من صدره:
قلبي… مفيهوش ذرة حب لأي واحدة غير مراتي…
عشان كده، هتجوزها فترة… وبعد كده أطلقها،
وساعتها تقدر تعيش حياتها، وتتجوز الراجل اللي يحبها من قلبه،ويشيلها فوق راسه… عشان يستاهلها.

ظل الهواري صامتا لحظة، ثم أومأ برأسه ببطء، كمن بلع حسرة لن يبوح بها، وتمتم بصوت أجش: ماشي يا ولدي…
أصيل وابن أصول… وعداك العيب.
أنا هكلم عمك… وهو يكلم بنته.

أومأ سلطان بصمت، ثم استدار فجأة، وركض نحو الدرج،
وصعد إلى الطابق الرابع بخطوات واسعة كمن يفر من شيء… أو يركض نحو ما لا مفر منه.

……………………………………..
في شقة عاشور الهواري

كان الليل صامتا، لكن غرفة تقي تضج بالأنين.

كانت تنام…على الفراش،جسدا يصحو فيها الرعب كوحش متربص.
كانت تتلوى تحت الغطاء كمن ينهش حيا،
تتصبب عرقا، شفتاها ترتجفان، وصدرها يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة.
تشهق… تتأوه… ثم فجأة صرخت بصوت مذبوح:
سبوني… بالله عليك سبني!!

هبت جالسة كأنها نجت للتو من بين أنياب ذئاب مفترسه ..يداها ترتعشان، وعيناها شاردتان لا ترى بهما سوى فزع محفور في الذاكرة.

أسرعت إليها عايدة، واحتضنتها بقوة، وهمسة بلهفة خائفة:اسم الله عليكي يا بنتي… مالك، يا تقي؟!
قوليلي، إيه الكابوس ده اللي كل ما عينك تغمض، يفزعك يا بنتي ؟!

أغمضت عينيها بقهر، لم تجب واستسلمت للصمت كمن اختار أن يختبئ داخل نفسه…تراجعت على الوسادة،
تكورت حول ألمها، ورفضت أي رد فعل… أي تواصل.

نظرت لها عايدة بدهشة ممزوجة بالخوف،
ثم ضربت كفا بكف، وتمتمت بخشوع حزين: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…ارحم برحمتك يا رب…
دي البت قلبها وروحها كأنهم مولعين نار!

وفي تلك اللحظة، دلفت بطة حاملة صينية الطعام،
ورفعت صوتها بمحبة، وإن كان يخالطه القلق: يلا يا تقي يا بنتي… تعالي كلي، وشك بقى على صابعين!

وقفت فجأة، ونظرت لـ عايدة بدهشة وهمسة: هي مش كانت صاحيه؟ نامت إمتى؟!

ردت عايدة وهي تمسح على جبين تقي بأنامل أم خائفة:
بتفتح… بس مش واعية…تصحى تصرخ… وبعدين ترجع تنام تاني، كأنها بتهرب من الدنيا كلها!

جلست بطة على طرف السرير، تفرك يديها بتوتر، وقلبها يضرب كطبول إنذار: أنا قلبي مش مطمن…
البت مش طبيعية، يا أختي… في حاجة كبيرة مستخبية جواها.

هزت عايدة رأسها، والدمع لم يعد غريبا على وجنتيها،
وقالت بصوت مبحوح يخشى الحقيقة: تفي من بوك يا أختي…هي بس اتخضت، اللي حصل كبير… بس ربنا كريم.

نظرت لها بطة وقد تقلص قلبها بوجع مكتوم،
وتمتمت كأنها ترجو رب وحده يملك المفتاح: يا رب…
يا رب يا أختي، يفرجها عليها.

…………………………………….
في شقة سلطان الهواري،

اندفع داخلها كمن هرب من الموت بحثا عن الروح،
عيناه تائهتان في الزوايا والجدران، وصدره يعلو بهياج مكبوت،
حتى انفجر صوته في صالة خالية من الهواء: ضي!… ضي، إنتي فين يا حبيبي؟!

راح يفتح الأبواب واحدًا تلو الآخر،
يجوب المكان كالغريق حين تلوح له خشبة نجاة،
حتى وصل إلى غرفة النوم، وراح يطرق الباب بعنف مرتعش: ضي! افتحي الباب ده…

جاءه صوتها من خلف الباب مبللًا بالنحيب الحاد، موجوعا كجرح لا يندمل: عايز إيه؟!خلاص… روح اتجوز، وكمل عليا!

ضرب الباب بقبضته وصاح بنبرة تكاد تفتك به: طيب افتحي… افتحي قبل ما اكسرو عليكي!

لحظات مرت…
ثم فتح الباب، كأن جرحا أُزيح غطاؤه.
وقفت أمامه ووجهها تغشاه العاصفة، وصاحت بصوت مذبوح: إنت ليك عين تيجي هنا؟! إيه البجاحة دي؟! إنت معمول من إيه؟!

قبض على يدها وسحبها إليه بجنون العاشق المكسور:
يا بت… ورب العزة… غصب عني! أنا بحبك إنتي!… ومفيش غيرك هتبق مراتي يا ضي!

تعلقت بقميصه بكل ما تملكه من خوف، وذرفت دموعها كأنها تستجديه ألا يخذلها: وأنا بحبك أوي، والله…
مش هتحمل أشوفك مع غيري، يا سلطان…
إنت؟ تتحمل تشوفني مع حد غيرك؟!

أطبق على ذراعيها بشراسة رجل ينتزع منه نبضه، وقال من بين أسنانه: بس… بس بلاش تهب مني يا ضي…
إنتي عارفة إني بانهار!

تأوهت من قبضته، لكن تمسكت بقميصه بصوت يتكسر من الوجع: طب ليه؟ ليه مش حاسس بيا؟! ليه عايز توجع قلبي؟!

ضمها إليه بقوة كأنه يحميها من السقوط، من العدم، من كل العالم، وهمس، وصوته مكسور بدمعة لم تذرف: غصب عني يا ضي…أنا مش طالب منك غير تصبري…
ست شهور بس… وبعدها هطلقها.

تراجعت قليلًا، تنظر إليه بعينين لا تزالان غارقتين في الدموع: ليه؟ ليه أصلاً؟ وست شهور؟ أستحمل إزاي؟!
أشوفك مع غيري؟! تنام جنبها؟! تقرب منها؟!
أنا… أنا كده هتجنن يا سلطان!

أغمض عينيه بقهر يعصر القلب، كأن كل كلمة منها شوكة في روحه،وتمتم وهو يسحبها إليه من جديد: لا يا ضي…
ولا هنام جنبها، ولا هلمسها، يا حبيبي… أنا مش هلمس غيرك، إنتي…ومافيش واحدة هتنام في حضني غيرك…

هزت رأسها بجنون، وعيناها تقدحان بجنون الحب والغيرة: طب إنت عايز تتجوزها ليه؟! عشان أنا؟!
أنا اللي مش عارفة أكون مراتك؟ بخاف لما تقرب مني؟!”

ثم، فجأة…
سحبت طرف كنزتها، وكشفت عن جسدها المرتجف،
وصاحت بدموع ممزوجة بالرجاء:أهو يا سلطان… أنا مستعدة!

نظر إليها، مذهولا، مأخوذا،بعينين ممتلئتين بالدهشة… بالقهر… بالحرقة.

اقتربت منه أكثر، أحاطت عنقه بذراعيها،
وقبلت وجهه بأكمله، كأنها تحفر حبها على جلده،
وصاحت والدموع تتساقط بلا رحمة: أنا بحبك…
إنت جوزي لوحدي… ومش هسيبك لغيري أبدًا!

ضمها سلطان بكل ما بقي فيه من اتزان، ثم سحب طرف ثوبها وستر جسدها المرتجف، وهمس بنبرة مختنقة:
لا يا ضي… أنا مش هاخدك كده… أنا صبرت الصبر ده كله… عشان يوم ما نكون مع بعض، تكوني في حضني بكلك…بقلبك… بإحساسك… قبل جسمك.

رفعت عينيها إليه والدموع لا تهدأ، أومأ برأسه، وقال:
ضي…أنا بحبك… إنتي أول حب في حياتي، وآخره.
ولو كنت عايز جسمك بس …كنت أخدتك من أول ليلة…
بس أنا عايزك كلك… قلبك، عقلك، خوفك، ضعفك… كلك.

تعلقت به أكثر، وصاحت بصوت تتفتت فيه كل دفاعاتها:
وأنا بقولك إني بحبك…بقلبي وروحي وعقلي… وجسمي بين إيديك، خدني زي ما إنت عايز…مش هعيط، ومش هخاف.

هز رأسه نفيا، وغمغم بحزن عميق: إنتي بتعملي كده… عشان خايفة أكون لغيرك. بس أنا بقولك…عمري ما هكون لغيرك…وده وعد، يا ضي السلطان.

دفعته بقوة، والدموع تتناثر من عينيها كالشظايا:
يعني برضه هتتجوز يا سلطان؟!

أغمض عينيه، كمن يتلقى صفعة من السماء،
وهمس بصوت مكسور: مش جواز يا ضي…
مش زي ما إنتي فاكرة…

قاطعته، ورفعت يدها أمامه كمن يرفع الحكم: براحتك يا سلطان…أنا مش هذل نفسي أكتر من كده. بس لو اتجوزتها… ما تزعلش من رد فعلي!

ألقت كلماتها كالرصاص في وجهه،
ثم دخلت الغرفة وصفعت الباب خلفها بكل قهرها وغضبها.

وقف سلطان أمام الباب الموصد، عينيه تغليان بالحيرة، وصدره يغلي بالعجز، ثم فجأة… ركل الباب بقدمه، وانصرف كالعاصفة…كمن لم يعد يثق حتى في ظله.

…………………………
في قلب الحارة…

كانت نوسة تقف على ناصية الشارع، عيناها تتفحصان الطريق كمن يترقب حدثا لا يأتي،
رفعت رأسها قليلًا، ثم تمتمت بضيق مكتوم: هو فين الراجل ده؟… ماشي يا علي، ماشي!

أخرجت هاتفها من الجيب، نظرت إلى الشاشة، قطبت حاجبيها بغيظ وقالت في نفسها: أنا حتى مش معايا رقمه… المجنون ده !!

سحبت نفسا ضيقا، وبدأت تقلب بين التطبيقات.
أدخلت اسمه: علي البدري
وها هو… ظهرت صفحته.
اتسعت عيناها وهي تتأمله، خفق قلبها برعشة خفيفة، وتمتمت بدهشة خفيفه :حلو أوي يا ابن اللذينة… بس أونطجي، أوي.

جلست إلى المكتب، سندت ظهرها إلى المقعد، وأصابعها تتنقل بين صوره، تنظر تارة وتغض البصر تارة، ثم مالت برأسها وقالت بنغمة مشبعة بالفضول: إيه الواد ده… طلعلي منين ده؟!

وفجأة، دوى صوت من خلفها: سلامة النظر يا ست نوسة… ده المتر علي.

شهقت شهقة حادة، طار الهاتف من يدها وسقط على الأرض،
قفزت من مكانها وكأنها صعقت، ونظرت إلى سلامة بوجه يشتعل غضبا : يالهوي! إيه يا واد؟! خضتني فـي إيه؟!

رفع سلامة يديه معتذرًا، وهو يتراجع خطوة بخوف: حقك عليا يا ست البنات… والله ما كنت أقصد.

انحنت نوسة تلتقط هاتفها، مسحت عليه بطرف جلبابها، ثم نظرت إليه بضيق وسحبت نفسها قائلة: أنا صدعت… هروح أرتاح شوية. خد بالك من المحل.

أومأ برأسه وقال سريعًا: أمرك يا معلمة.

خرجت بخطى سريعة، جسدها مشحون بمزيج من الغيظ والانفعال، ومرت بالقهوة… ألقت نظرة سريعة، عينها تبحث عن علي، لكنها لم تجده، فتمتمت بغيظ حائر: راح فين ده؟

وصلت أخيرًا إلى مدخل بيتها، صعدت الدرج بخطوات أبطأ،
ثم وقفت أمام باب شقتها باندهاش…
الباب مفتوح، وضحكات تتعالى من الداخل…
ضحكة والدها،
ضحكة لم تسمعها منذ شهور!

قطبت حاجبيها، وتمتمت وهي تضع يدها على المزلاج:
أبويا بيضحك؟!… وبيضحك مع مين يا ترى؟!

دلفت نوسة إلى الصالة، تتلفت بعينيها في المكان كمن يشعر بشيء غريب…
وفجأة شهقت، حين أبصرت علي جالسا إلى جوار والدها، عارضا عليه شيئًا في هاتفه، بينما ضحكات والدها تتعالى بشكل لم تعهده منذ زمن.

رمشت بعينيها غير مصدقة، وصاحت بحدة مكتومة:
علي؟!… إنت إيه اللي جابك هنا؟!

رفع علي عينيه إليها، وغمز بعفوية متعمدة، بينما استدار والدها ونظرة لها ممتعض وهتف بلهجة صارمة: جرى إيه يا بنتي؟ إيه الجليطة دي؟!… الراجل ضيف عندنا، إنتي اتهبلتي؟!

ازدردت نوسة لعابها، وحاولت السيطرة على نبرتها، فهتفت بتوتر:أنا مش قصدي يابا… بس أصلي كنت فاكراه في الشغل.

ابتسم علي بخبث ناعم، ورفع حاجبه ساخرًا: لا يا ستي، أنا اديت لنفسي أجازة النهارده مخصوص… عشان أجي أقعد مع عم سعيد.

ربت سعيد على كتف علي بحنان وقال:نورت البيت يا حبيبي، ده بيتك.

ثم التفت إلى نوسة وهو ينهض ببطء: هقوم أصلي الظهر، وانتي اعملي شاي يا بنتي.

أومأت نوسة بصمت، ورمقت علي بنبرة ضيقة، بينما تحرك والدها باتجاه غرفته.

قال علي بأدب وهو ينهض معه: تقبل الله يا عم سعيد.

رد عليه سعيد بنبرة دافئة:منا ومنك يا ابني… ومن سائر المسلمين.”

دخل العم سعيد إلى غرفته، وساد الصمت للحظة…
نظرت نوسة إلى علي نظرة مشتعلة بالحنق، ثم استدارت نحو المطبخ بخطى سريعة لا تخلو من الارتباك.

تابعها علي بنظرة ماكرة، فيها شيء من اللهو، وشيء من الجد، ثم تنقل ببصره نحو باب غرفة سعيد، ولما تأكد أنه أغلق خلفه، تحرك هو الآخر بخطى خفيفة نحو المطبخ، وقلبه ينبض بما ينوي قوله أو فعله…

وقف علي عند مدخل المطبخ، وستند بكتفه إلى الباب، وخرج صوته واهن كنبض حائر: وحشتيني.

شهقت نوسة بدهشة، فانزلقت الكوب من يدها وسقط أرضا.
اندفع علي سريعًا، تلقف الكوب قبل أن يرتطم بالأرض، وناوله لها بابتسامة ماكرة وهمسة مشتعلة: حاسبي يا قلبي… الدنيا مش ناقصة تكسر جديد.

بللت شفتيها بتوتر، وكأنها تبحث عن حروف تهرب منها، ثم همسة بتلعثم: اطلع بسرعه… إنت جيت هنا ليه؟!

اقترب منها ببطء، كمن يدنو من النار برغبة لا تخشى الاحتراق، وتمتم وهو ينظر إلى عينيها: وحشتيني يا نوسة… موت.

تراجعت بخطوة، ونكست رأسها كمن يهرب من الضوء، وهمسة بصوت خافت:ماجتش المحل ليه… لو وحشتك؟

ضاقت المسافة بينهما أكثر، حتي طوقها بذراعيه، وسند كفيه على الرخامة خلفها، وحاصرها بلطف لا يخلو من السُلطان، وهمس بنبرة دافئة: أصلك فـي المحل بيبقى دمك تقيل… متوترة… مش نوسة اللي بحبها.
وأنا جايلك دلوقتي عشان أفكك… وأفكرِك إنك بنت  قلبي.

شهقت برعبٍ وارتباك، وحاولت دفعه بوهن ، يغلب عليه الخجل، وتمتمت: علي… ابعد! يلهوي… أبويا جوه، هتفضحنا يا مجنون!

شدها من خصرها في احتضان ناعم، وصوته يلامس أذنها بحرارة:يبقى نلم نفسنا بقى… وبلاش فضايح يا نونو.

ارتجف جسدها بين ذراعيه، وتمتمت بخوف مشوب برغبة: يخربيتك… مش عارفة… اتلم علي جسمي كده ابعد يا علي؟!

سحبها إليه أكثر، ووجهه لا يبتعد عن شفتيها سوى بوصة، وهمس بصوت أجش محمل بالشوق: قولي اسمي تاني كده… قوليها زي دلوقتي… بصوتك ده.

بللت شفتيها بتوتر، انغرست نظراته في فمها وطرف لسانها الذي باغته، وهمس كأن قلبه ينفلت منه: مش قادر… بصراحة…

ولم ينتظر سؤال ولا استئذان.
في لحظة فاض فيها الصبر، انحنى نحوها وقبلها.

قبلة لم تكن عابرة، بل هجمة كاملة على حصونها.
قبلة كسرت الخجل، وأغرقت الغضب، وركعت الكبرياء.
كل ما فيها يشبه السُكر، الانصهار، والتذوق الأول للحياة.

ارتجف جسدها بين ذراعيه، ولكزته في صدره حين دوى صوت والدها من الخارج: نـــــوســــة!… الأستاذ علي مشي ولا لسه؟!

تجمدت. ونظرت إليه برعب، فابتسم بوقاحة، وسحبها خلف باب المطبخ، وألصقها بالحائط.

حاولت أن تدفعه،وهمسه : علي!… مش كده! أبويا…
لكنه أمسك وجهها بكفه، وقبل أن تهمس بكلمة،
التهم شفتيها بعمق لم تجد مهرب فعضته في شفته بغيظ مكتوم.

تأوه بخفوت، وترك شفتيها وهمس ساخرا: انتي قد العضة دي يا نوسة؟

مدت يدها لتدفعه، لكنه كتم فمها بكفه، عينيه ترصدان ظل والدها الذي اقترب من باب المطبخ.

وأشار لها بعينيه، وهمس في أذنها: ششش… ولا صوت… خليكي ساكتة، وبلاش نولعها أكتر!

وقف الحاج سعيد عند مدخل المطبخ، يتلفت بعينيه كأن شيئا ما فاته، وغمغم في حيرة: راحوا فين دول…؟”

ارتجف جسد نوسة تحت وطأة يد علي، ودمعة ساخنة انزلقت من طرف عينها دون أن تحرك ساكنا.

أومأ علي برأسه في صمت فهِم، كأن الدمعة كانت أقسى من أي لوم.

تحرك سعيد مبتعدا وهتف من الخارج: نوسة!… يا نوسة يا بت!

دفعته نوسة بقوة، وقد تفجرت دموعها، وهتفت بصوت مخنوق بين العتاب والخذلان: عجبك كده؟! أنا أعمل في أبويا كده؟! اخص عليك يا علي… وخص عليا أنا كمان… عشان ضعفت ليك!

نظر لها علي بدهشة، قلبه يرتجف من الكلمات لا من الدفع، وتمتم بتلعثم: يا نوسة… أنا بحبك، وكنتـ

قاطعت جملته وأشارت ناحية المرحاض بحدة، وغمغمت من بين فكيها، بصوت متماسك فيه غضب أنثوي محترق:
ادخل الحمام… دلوقتي. وبعدها اخرج كإنك كنت فيه. وبعدها تستأذن… ومش عايزة أشوف وشك تاني!

رمقها علي بنظرة ممتلئة بالقهر، وتكلم بصوت مبحوح، متماسك بالكاد: ماشي يا نوسة…

تحرك نحو المرحاض، دخل وأغلق الباب خلفه، بينما كانت هي تنسحب نحو غرفتها، باكية في صمت يحرق الروح أكثر من أي صراخ.

…مرت لحظات

خرج علي من المرحاض، وعاد إلى الصالة، فابتسم له سعيد بدهشة: أنا بحسبك نزلت، يا أستاذ علي!

هز علي رأسه نافيا: لا، كنت في الحمام بس.

لاحظ سعيد أثر الدم على شفته وسأله بقلق: إيه الدم ده؟! شفتك بتنزف!

مسح علي على شفته وغمغم بغيظ محبب: لا… دي خبطة صغير في باب الحمام،

أشار له سعيد بالجلوس: ألف سلامة يا أستاذ… تعال ارتاح شوية.

لوح علي بيده نافيا:لا، هستأذن. بس كنت عايز أعرف… أجيب أخويا عمار إمتى؟!

ضحك سعيد، ونظر له نظرة والدية ساخرة: مستعجل اوي كده يا متر؟!

ثم رفع صوته: نوسة! يا بنتي!

خرجت نوسة من غرفتها، تمسح دموعها بكف يدها، وتتجنب النظر لعلي، وهمسة: نعم، يابا؟

نظر إليها سعيد باندهاش وقال: مالك؟ وشك متغير كده ليه؟!

هزت رأسها نافية، وقالت بصوت خافت: مفيش… أنا بس مصدعة شوية.

أومأ سعيد برأسه، ثم قال وهو ينظر إلى علي: على العموم… الأستاذ علي طلب إيدك، وعايز معاد عشان يجي هو وأخوه الكبير… قولتي إيه؟

تسمرت نوسة في مكانها، اتسعت عيناها بدهشة، ونظرت إلى علي الذي رمقها بعيون مشتعلة، فيها شيء من الغيظ وشيء من الحب وشيء ثالث لا يسمى.

بلعت لعابها، وهمسة بتلعثم: إيه؟!… طلب إيدي؟!

أومأ سعيد، وكرر السؤال: قولتي إيه؟!

لم تستطيع على النظر في عيني أحد، كانت الدموع تغلبها، وتعلو وجهها نظرة وجع ممزوج بارتباك، ثم قالت وهي تستدير: اللي تشوفه، يابا…

وركضت عائدة إلى غرفتها.

تابعها علي بعينين لا تصدقان… وكأن قلبه لم يصدق أنه انتصر أخيرا.

فاق على صوت سعيد يقول: علي… يا علي!

— نعم؟!

ضحك سعيد وهتف: خلاص… هات أخوك وتعال… نقرأ الفاتحة.

اقترب علي منه بفرحة طاغية، وضمه إلى صدره: الله عليك يا عم سعيد!هجيب عمار وأجيلك في أقرب وقت.

ربت سعيد على ظهره وقال: مبروك يا حبيبي…

ضمه علي وقبل راسه وغمغم : الله يبارك فيك يا أحلى عم سعيد!

ابتسم سعيد ابتسامة دافئة، ومرت أنامله على كتف علي برفق وحنو، قبل أن يقول بصوت مبحوح بالأمان:نوسة أمانة في رقبتك يا ابني… دلوقتي بس  هموت وانا مرتاح.

حدق فيه علي لحظة، ثم مد يده يربت على يده بثبات الرجولة التي تليق به، وهمس بشجن: بعد الشر عليك يا راجل يا طيب… ده انت فكرتني بي بابا… الله يرحمه.

رمقه العم سعيد بنظرة يملؤها الحنان، وابتسم ببطء كأنه يستحضر دعاء طالما خرج من أعماق قلبه، وقال: أنا دعيت… وربك استجاب يا علي.

تنهد علي براحة، وابتسم ابتسامة هادئة وقال بهمس راض: الحمد لله يا عم سعيد… الحمد لله.

………………………………….
في شقة عز الهواري…

ساد ظلام كثيف كأن الحزن يقطنه، ولم يكن ثمة ضوء إلا من عود سيجارة يشتعل ويطفأ ببطء… دلفت عليا بخطى هادئة، ثم فتحت الشرفة، فاندفع الهواء بأنفاس باردة كأنها تحمل معها الأسئلة.

قالت بدهشة ممتزجة بقلق: في إيه يا حبيبي؟ من إمبارح وحابس نفسك كده ليه؟

نفث عز دخان سيجارته بنفس ممتعض، ولم ينظر لها وتمتم بصوت مبحوح: سيبيني فحالي يا عليا… الله يخليكي.

اقتربت منه وجلست أمامه، كانت عيناها تبحث عن روحه المختبئة، وهمسة بحنان غامر:مالك بس يا روح عليا؟ قولي، يمكن أخفف عنك…

أطفأ سيجارته في المنفضة بعنف، وكأن نيرانه لا تخمد، وهتف:مفيش حاجة ممكن تخليني أروق… سبيني لوحدي شوية.

لكنها لم تستسلم، كانت عيناها مرآة لخوف خفي، اقتربت أكثر، وضعت يدها على صدره، وقالت بصوت خفيض: إزاي يهون عليا أشوفك كده وأسكت؟ ده أنا عايزاك جوه عيني… يا نور عيني.

نظر إليها، وكانت عيناه دامعتين، يغمرهما الحزن والاحتراق. سحب يدها، ضمها إلى صدره بقوة، وارتعش صوته:ربنا يخليكي ليا… أنا مخنوق أوي يا عليا، بس مش قادر أتكلم… لو اتكلمت، هتكسر من جواي أكتر.

ضمت جسده المرتجف إلى صدرها، ومررت يدها على ظهره بهدوء، كأنها تربت على وجع قديم، وهمسة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم… ربنا يبعد عنك الشر يا قلب عليا… ويكفيك شر الخنقة دي.

رفع يده، مرر أصابعه على ظهرها، ثم كور كفيه على وجهها، وقال بعينين كادتا تشتعلان: عليا… عايزك تخلي بالك من نفسك ومن الولاد… ماتخرجيش من البيت إلا ورجلي على رجلك. وحتي الولاد… ما يطلعوش لوحدهم، حتى مشوار لي بيت ابوكي، تكوني معاهم. فاهمة؟

أومأت برأسها بدهشة، لم تكن تفهم حقا… لكنها شعرت بالخوف يسكن كلماته، وقالت بصوت حنون:
حاضر… بس إهدى، هو إيه اللي حصل يخوفك كده؟

هز رأسه بعنف، وعيناه تقدحان بنار مكتومة:مش هستنى لحد ما يحصل! اسمعي الكلام… ريحيني يا ستي، أنا عايز أطمن.

ربتت على صدره بحنان أمومي، وقالت: من عيني يا حبيبي… تؤمرني. بس روق، عشان صحتك. أنا هقوم أعملك كوباية لمون تهدى بيها دمك…

أومأ عز برأسه بهدوء، وأخرج آخر سيجارة في العلبة، أشعلها وسحب منها نفسا عميق، ثم نفثه ببطء، وكأن الدخان يحمل معه غصته ويذيب ما اشتعل في أعصابه.

نهضت عليا إلى المطبخ، فيما بقي عز وحده، يتأمل الفراغ، يحاول أن يطفئ نيرانه بمنفضة مكتظة بالألم المحترقة.

في المطبخ، وقفت عليا تعد عصير الليمون الحامض، يدها تتحرك، لكن عقلها تائه ولسانها لا يكف عن الدعاء لزوجها.

دلف مالك الصغير بخفة الأطفال وهمسهم، وقال باستفهام طفولي: ماما… هو بابا ماله؟ ما نزلش الشغل؟   وانتي كمان مخرجتنيش ألعب؟

نظرت له عليا بعينين محملتين بالحب، ومسحت على شعره برقة وقالت: حبيبي… بابا مرهق شوية، متضايق كده شوية وهيروق. وإحنا بقى لازم نخلي البيت هادي، عشان يروق على رواقة.

أومأت الصغير برأسه بفهم يفوق سنه، وقال: طيب… نروح نلعب مع حياه بعيد، عشان ما نعملش دوشة هنا.

هزت عليا رأسها بالنفي وهمسة بابتسامة حزينة: لأ يا روحي، ماينفعش… ماينفعش يحس إننا سايبينه لوحده. لما يكون زعلان، لازم نحس بيه، ونوريه إن قلبنا معاه… ماينفعش نروق من غير ما هو يروق.

هز مالك  رأسه بجدية وقال: ماشي يا ماما، هنقعد في أوضتنا لحد ما بابا يبقى مبسوط وييجي يلعب معانا.

ابتسمت عليا وقلبها يرتجف، ثم سكبت العصير في كوبين، وقدمت أحدهما لابنها ، وقالت: برافو عليك يا روحي… خد العصير ده، وقول لـ مازن  يجي ياخد العصير بتاعه …

أخذ مالك الكوب، وغادر، بينما تحركت عليا بهدوء نحو غرفة عز…

دلفت، وأغلقت الباب خلفها، واقتربت منه بخطى ناعمة، ثم ناولته الكوب وهمسة:أحلى كوباية عصير… لأحلى راجل في الدنيا.

أمسك عز بالكوب، ونظر إليها نظرة ممتنة، وهمس بصوت
حاني:تسلم إيدك يا قلبي.

جلست إلى جواره، تراقبه وهو يرتشف العصير، وقالت برقة: بالهنا والشفا يا عمري.

وما إن انتهى من آخر رشفة، حتى وضع الكوب جانبا، وهمس: حلو قوي يا عليا.

اقتربت منه، ومسحت قطرة من العصير علقت بشاربه، ثم تذوقتها على طرف لسانها، وهمسة بخفة: حلوة أوي.

نظر إليها بدهشة، وكأن جرأتها تحييه من سباته، وقال بابتسامة مذهولة: حلو… بجد؟!

أومأت برأسها، تناولت الكوب منه، واقتربت أكثر وهمسة بدلع: آه… اشرب آخر بوق كده، اوع طعمه يفوتك!!

رفع الكوب وارتشف آخر ما تبقى، ثم عاد بنظره إليها… فاقتربت أكثر، طبعت قبلة ناعمة على شفته،وامتصت شفتيه، ثم مررت لسانها بلطف على شاربه، تلعق بقايا العصير العالقة.

أغمض عز عينيه بذهول… لم يصدق أن هذه زوجته! نظر إليها، بلل شفتيه، وهمس بنبرة مدهوشة: إنتي بقيتي خطر… يا بت!

ضحكت عليا بخفوت، وقالت بنعومة: عشانك…

اقترب منها، كما لو أنه يعود لوطن فقده منذ زمن. رفع وجهها بكفيه المرتجفه، ونظر إلى عينيها نظرة رجل يعلم جيدا أن هذه اللحظة لا تتكرر.

ثم طبع قبلة فوق شفتيها، قبلة لم تكن جريئة… ولم تكن خجولة، بل كانت تنهيدة من عاشق تاه كثيرًا، حتى عاد إلى صدرها.

ثم مال بها إلى الفراش،

يسكب فيها كل شوقه، كل خوفه، وكل ما لم يعرف قوله. غرق فيها… وكأنها طوق النجاة الذي ينقذه من أعماق حزنه، دون أن يطلب شيئًا… سوى أن تبقى.
………………………………………

في شقة سلطان الهواري…

كان الليل يزحف ببطء ثقيل، كأن الهموم التي أثقلت روح سلطان أبطأت حتى دقات الزمن….

دلف إلى البيت بخطى بطيئة، يحمل فوق كتفيه ما يشبه ثقل العالم بأسره….

اقترب من باب غرفة النوم، فارتجفت أوصاله حين التقط سمعه صوت نحيب خافت يصدر من الداخل. أغمض عينيه بقهر يكسر الصخر، وهمس بوجع:
ليه بتصعبيها كده يا ضي؟… ليه مش قادرة تصبري لحد ما نخلص من البلاوي اللي جريتك فيها غصب عني؟

دفع الباب ببطء ودخل، وقف لحظة يتأمل جسدها الهزيل المسجى فوق الفراش….

في يومين فقط، نحل جسدها كأنها فقدت وزنها وأمانها دفعة واحدة….

شعر بوخزة حادة في صدره، وتقدم نحوها….
كانت مستلقية على بطنها، تدفن وجهها في الوسادة، تبكي بصمت موجع.

جلس على طرف السرير، مرر كفه برقة فوق شعرها المبعثر، وهمس بصوت مشبع بالحنان: ضي…”

ارتجف جسدها تحت لمسته، واشتد نحيبها…
مد يده، وسحبها برفق من ذراعها، حتى اجلسها فوق ساقيه وضمها إلى صدره… حضن دافئ، حنون، مشحون بالحنين والاحتياج وهمس : كفاية… أبوس إيدك، يا حبيبي… ورب العزة أنا بين نارين!!

تمسكت بقميصه، ودفنت وجهها في عنقه، تبكي بحرقة وغمغمت : وأنا حاسة إني جوا النار نفسها يا سلطان.

مسح على شعرها برفق، وصوته خرج أجش، مكسور، لكنه حنون:أنا بعمل كل حاجة تتخيليها أو حتى ما تتخيليها… عشانك إنتي، وبس.

طبع قبلة طويلة على كتفها، ثم أمسك بكفها المرتجف بين راحتيه، وهمس: بصيلي يا ضي… ضي، بصيلي.

لكنها لم ترفع عينيها… انكمشت أكثر في حضنه، فمال برأسه على كتفها، وصوته خرج متهدجا: أنا غلطت… غلطت لما سيبتك نارك تاكلك لوحدك. بس وربي العزة، ما سبتك، ولا يوم هسيبك.

رفعت عينيها نحوه ببطء، ملامحها ممزقة بين العتاب والانكسار، وهمسة:هتتجوز… هتبقى جنب بنت تانية… وإنت قولتلي عمرك ما هتعمل كده.

مد يده، مسح دمعة تسللت من وجنتيها، وقال بصوت موجوع: ومش هعمل… الجوازة دي مش جوازة يا ضي، دي ورقة… خطوة محسوبة عشان نخلص من حاجات كتير… وحيات ضي عيني ، ما هشوف غيرك، ولا قلبي يعرف حضن غير حضنك.

قالت بصوت مخنوق، لا يكاد يسمع: بس أنا… أنا وجعاني قلبي بيتقطع… وخايفة… خايفة أخسرك يا سلطان.

اقترب أكثر، شبك كفها بين يديه، ووضع جبينه على راحة يدها، وقال بصوت مشبع بالصدق: إنتي عمري اللي ابتدى بيك… وكل خطوة بخطيها، بخطيها عشان نكمل سوا… مش هتخسريني، لأنك كسبتيني من أول لحظة شوفتك فيها… والجوازة دي؟ دي عشانك، مش ضدك. ده آخر سطر فـ كتاب الصبر، وبعده… نكتب حكايتنا من الأول، إحنا الاتنين، من غير وجع.

سكنت، وقلبها يرتجف تحت جلدة صدرها، بينما رفع وجهه ونظر في عينيها نظرة تذيب الجليد، وقال بنبرة رجولة دافئة: عايزك تثقي فيا، زي أول مرة حضنتك فيها… وزي ما قلتلك زمان إنتي في أماني… ولسه، والله، في أماني… ولسه مراتي… ولسه حلمي اللي بحلم أعيشه كل يوم معاكي…

ارتجفت شفتيها، ما بين التصديق والخذلان، فقال وهو يطبع قبلة على أطراف أصابعها المرتجفة: أنا بحبك… وبحبك أوي… وبكرا؟ هتشوفي بنفسك إنك كنتي وهتفضلي مراتي الوحيدة… لحد آخر نفس في قلبي.

سندت جبينها على جبينه، ودموعها تسيل بصمت… لم تعد تصرخ، لكن صوت البكاء كان لا يزال في عينيها.
وهو، ظل ممسكا بكفها كأنها الحياة ذاتها بين يديه.

وبينما صدق قلبها شيئًا من كلماته، وخفت وطأة الشك في روحها المنهكة، تسلل الأمان إلى صدرها الهش كنسمة دافئة، كأنها أخيرًا استسلمت لعينيه… فانهارت دموعها في صمت، دافئة، لا تشكو، لا تصرخ، بل تستسلم.

لكنّ الطمأنينة لم تعش طويلًا.

صرخة حادة، مزلزلة، شقت جدار السكون، طعنت قلب الليل، فانفجرت أركان البيت كأن الأرض انشقت عن عذابها، وارتجت الجدران بذهول مفزع.

قفز سلطان من مكانه كمن لدغته النار، ورمق ضي بنظرة خاطفة ووضعها على الفراش وهتف بسرعة: استني… استني يا ضي، هشوف في إيه!

لكنها تشبثت بذراعه بجزع طفلة فجعت من نومها:
أنا خايفة يا سلطان! هو في إيه؟! في إيه بيحصل؟!

ربت على وجنتها المرتجف، وصوته يرتعش: متخافيش يا روحي… متخافيش. أنا معاكي، ما تخافيش…

سحب نفسه من بين ذراعيها رغم دموعها، وانطلق يركض نحو الطابق السفلي، خطواته كانت كسقوط، كأنه يركض نحو مجهول مظلم يبتلعه في كل خطوة.

توقف عند باب شقة عايدة فاختنق الهواء في صدره…
المشهد أمامه كان كابوسا فادحا:

كانت تقى واقفة وسط الغرفة، يداها ترتجف، تمسك بسكين حادة كمن يستعد للذبح، وعايدة و بطة يحاولن الإمساك بها، وحياة تصرخ صراخا يمزق الأحبال الصوتية.

في لحظة، دخل عمار وعلي من بوابة المنزل، وجوههم مصدومة، والذعر متلبس في كل نظرة.

رفع سلطان يده بأمر صامت، فأطاعوا…
تراجعوا دون اعتراض، كأن الرعب نفسه جثا على صدورهم.

تقدم سلطان بخطى بطيئة، كل عضلة في جسده ترتعش، وكل صوت داخله يصرخ، لكنه كبت كل شيء.

قال بصوت عال، حازم: سبوها.

تراجعت عايدة وبطة، كأن النار لامست أطرافهن.
أما تقى، فرفعت السكين في وجهه، وذراعها ترتجف، ودموعها تسيل كجمر من الروح، وصاحت بهيستيريا:
متقربش… أوعى… أوعى تقرب!

تجمدت قدماه، ورغم خفقان قلبه وارتعاش أطرافه، رفع كفه في استسلام، وصوته خرج كأنه يواسي موتا وشيكا:
مش هقرب… مش هقرب، بس هتكلم من بعيد. أبوس إيدك يا تقى، بلاش! إنتي مغلطيش، والله مغلطيش! ليه تعملي كده في نفسك؟ ليه؟

في الخلف، تسلل عمار وعلي من الشرفة بصمت قاتل، خطوة بعد خطوة، كأن الهواء يخشى أن ينبهها.

لكن سلطان لم يبعد عينيه عن تقي ، عينيه تغلفت بالدموع وهو يهمس لها بخشوع القلب المكسور: تقى… ده أنا، سلطان… أخوكي يا حبيبتي…

هزت رأسها بيأس، ضحكة محطمة خرجت من فمها وهي تبكي: معرفش… معرفش! محدش يقرب… أنا هريحكم… هريح نفسي منكو… وهبدأ بيا… أولكم!

ورفعت يدها لأعلى، لحظة انفجار….لكن قبل أن تهوي السكين، قبض عمار على يدها، صرخت تقى كمن قطع عنها الهواء، وعلي خطف السكين من يدها وألقاها بعيدًا.

في اللحظة التالية، اندفع سلطان بجنون، سحبها إلى صدره، كأنه يحتضن النار ويمنعها من أن تلتهم كل شيء.

ضمها بقوة، يربت على ظهرها، وهي تصرخ وتنتحب وتنهار وغمغم : بس… بس… يا قلب أخوكي… أنا معاكي، والله معاكي.

همسة كأنها تغرق: كسروني يا سلطان… كسروني وحرقوا قلبي…

ثم انهارت بين ذراعيه، فاقدة الوعي، وكأنها أغمضت كل وجعها معه.

حملها سلطان، والدموع على خده تتساقط بلا إرادة، قلبه ممزق، وكتفيه مثقلين بوجع عمره كله.

دخل بها إلى غرفتها، ووضعها على الفراش كأنه يضع جزءا من روحه المذبوحة.

في تلك اللحظة…وقفت ضي على باب الشقة، شهقة محبوسة على أطراف أنفاسها.

رأت كل شيء.

رأت سلطان يحمل تقى بين ذراعيه، يحتضنها، يحميها، يخبئها من العالم… وكأنه لا يوجد سواها.

وفي قلب ضي، انطفأ شيء عزيز.

تراجعت بخطوات مذهولة، وعيناها تغرق بالذهول، شهقة انغرست في صدرها ولم تخرج، هزت رأسها بقهر، بنفي عاجز… كأنها تبعد عنها كابوسا لا يريد أن يرحل.

ثم ركضت…
ركضت كأنها تهرب من وجع لا اسم له.

دلفت إلى شقتها، أغلقت الباب بقوة، واستندت إليه، تهوي إلى الأرض بلا مقاومة.

سقطت…
تحتضن صدرها، كأنها تحمي قلبا هشا تحطم… وتكتم شهقتها بكل ما بقي فيها من كرامة.

لكن الصرخة خرجت…من عينيها، من رعشة جسدها، من قلبها….كأن قلبها… احترق ولم يبق منه سوى الرماد.

…………………………………….
في أحد اليخوت الفاخرة،

كانت السماء الصافية تنعكس على صفحة النيل الهادئة، تعكس بريق الشمس المتناثر على وجه الماء. كانت روجيدا تقف بالقرب من الدرابزين، تنظر إلى الأفق البعيد بعينين لامعتين كالاطفال، حين اقترب منها إبراهيم يحمل كأس عصير بيده.
Ibrahim: Do you like the place?
إبراهيم: هل يعجبك المكان؟

نظرت روجيدا حولها بخفة، ثم التفتت إليه بابتسامة هادئة.
Rojda: Of course, I loved Cairo very much.
روجيدا: بالتأكيد، أنا أحببت القاهرة جدًا.

مد إبراهيم يده نحوها بكأس عصير ، وقد بدا عليه الاهتمام.

Ibrahim: Have you visited Egypt before?
إبراهيم: هل زرت مصر من قبل؟

هزت روجيدا رأسها نفيا، وردت بابتسامة ساحرة.

Rojda: No, this is the first time.
روجيدا: لا، هذه أول مرة.

أومأ برأسه بينما ارتشف من كأسه رشفته التالية، ثم قال بتأمل:

Ibrahim: How long have you been here and why did you come alone?
إبراهيم: منذ متى وأنتي هنا؟ وهل اتيت بمفردك؟

وضعت روجيدا كأسالعصير برفق على الطاولة أمامها، ثم أجابت:

Rojda: Two weeks ago. I came with my mom.
روجيدا: منذ أسبوعين. أتيت مع والدتي.

أومأ برأسه مجددًا، وقال بهدوء:

Ibrahim: Tourism.
إبراهيم: سياحة.

أومأت هي الأخرى برأسها وقالت:

Rojda: Yes, tourism and some private work.
روجيدا: نعم، سياحة وبعض العمل الخاص بأمي.

ثم، في حركة مباغتة مفعمة بالحيوية، أمسكت بيده وسحبته وهي تقول:

Rojda: Enough talk, let’s dance, Ibrahim.
روجيدا: يكفي حديثًا… هيا نرقص يا إبراهيم.

ابتسم إبراهيم، وأومأ برأسه موافقا، ثم ترك كأسه وسحبها برفق إلى ساحة الرقص. بدأت الموسيقى تعزف لحنا هادئًا، وبدأت أجسادهما تنسجم مع الإيقاع، في رقصة لا تماثلها صخب نظراتهما العميقة.

نظَر إليها بشغف وهمس:

Ibrahim: Rojda, I feel very attracted to you. I cannot control my feelings with you.
إبراهيم: روجيدا، أنا أشعر بانجذاب كبير إليك… لا أستطيع السيطرة على مشاعري معك.

رفعت روجيدا رأسها، ونظرت إليه بملء عينيها، وهمسة بصوت خافت دافئ:

Rojda: Me too, Ibrahim. I used to follow all the races you participate in on YouTube, and I was looking forward to seeing you. I was very happy when my mother told me she had to visit Egypt for some work, and I insisted on coming with her.
روجيدا: أنا أيضا يا إبراهيم. كنت أتابع كل السباقات التي تشارك فيها على اليوتيوب، وكنت أتطلع لرؤيتك. وسعدت كثيرا عندما أخبرتني أمي بأنها ستزور مصر لإنهاء بعض الأعمال، فأصررت على المجيء معها.

ابتسم إبراهيم بجانب فمه، نظرة عبث مرسومة على وجهه، واقترب منها وهمس:

Ibrahim: I understand that you fell in love with me before we met, beautiful.
إبراهيم: أفهم إذا أنك وقعت في حبي قبل أن نلتقي، أيتها الجميلة.

ضحكت روجيدا بخفة، ثم لفت ذراعيها حول عنقه، وهمسة بصوت يقطر أنوثة:

Rojda: Yes, Ibrahim. I love you very much.
روجيدا: نعم يا إبراهيم، أنا أحبك كثيرًا.

ضمها إبراهيم إلى صدره بقوة، شد عليها، وواصل الرقص معها بصمت ودفء، كما لو أن جسدهما وحده يحكي ما عجز عنه اللسان.

انتهت الرقصة، فعادا إلى الطاولة. جلست روجيدا، ثم نظرت إليه وقالت بابتسامة رقيقة:

Rojda: I’m going to the bathroom.
روجيدا: سأذهب إلى المرحاض يا إبراهيم.

أومأ برأسه، وأشار نحو الجهة اليمنى من الساحة:

Ibrahim: From here, Rojda.
إبراهيم: من هنا، يا روجيدا.

أومأت روجيدا برأسها بخفة، ثم تحركت نحو المرحاض بخطى رشيقة لا تعلم ما ينتظرها… هناك، على مقربة من زاوية اليخت، كانت عيون خبيثة تراقبها بحقد دفين. نهض صاحبها متربصا، وألقى سيجارته في النيل كأنه يقطع آخر خيط من صبره.

دلفت روجيدا إلى المرحاض، ووقف ذلك الحقير يتربص خلف الباب، ينتظر لحظته، يترصد أنفاسها كما يترقب المفترس فريسته.

مرت لحظات قصيرة، خرجت بعدها روجيدا ووقفت أمام المرآة تصلح خصلات شعرها، فلم تكد تلتقط أنفاسها، حتى شهقت شهقة مرعوبة…
إذ قبض ذلك الشاب العنيف على شعرها بعنف، وسحبها للخلف بينما ضغط بسلاح أبيض على عنقها، وهمس بفحيح شيطاني:

Stranger: Hello dear, you thought I would let you go so easily after you took advantage of me.
الغريب: مرحبا عزيزتي، كنتِ تظنين أنني سأتركك تذهبين بهذه البساطة بعد أستغلالك لي ؟

4.4 7 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
5 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Salma Mohamed
Salma Mohamed
11 أيام

❤️❤️❤️❤️

Nedaa
Nedaa
11 أيام

تحفة ❤️❤️

Sara
Sara
11 أيام

❤️❤️❤️

ام تسنيم
ام تسنيم
11 أيام

جمدان ساره احمد ساحرة القلم 🥰❤️

ام تسنيم
ام تسنيم
11 أيام

بالتوفيق يا سوسو 🫂❤️🥰🥰