ناار وهدنه(الفصل الثاني وعشرون)

الفصل ٢٢
إلى كل حواء عرفت طعم الخذلان، ثم نهضت من رمادها كأنها ولدت من جديد…
لا تعشقي يا حواء رجلاً يرفعك إلى السماء حين يوصلكِ، ثم يُسقطكِ إلى سابع أرض حين يغضب.
لا تنخدعي بمن يرى فيكِ أميرة فقط في لحظات الصفو، ثم ينكر ملامحكِ حين تنكسرين.
بل اختاري من يُحبّكِ كما أنتِ… في كل حالاتك. من يحتضن ضعفك، لا يفضحه.
من يفهم معنى قول الله: “مودة ورحمة”… لا غضبًا وقسوة.
اختاري رجلاً لا ينسحب حين تُدمعين، لا يُعاقبك بصمته، لا يُسقطك بغيابه، بل يحتملكِ حين تغضبين، ويُربّت عليكِ حين تعاندين.
اختاري من يغار بعقل… ويُحبّ بجنون،
رجلاً أنيق المشاعر… شريف الخُلق… لا يهرب، ولا يُوجع، ولا يُبدّل قلبه حين يُختبر حبّه.
كان الصمت في المكان أثقل من الموت.
لم يستوعب ياسر الكلمات…
كأنها ارتطمت بعقله ثم سقطت على الأرض تحترق دون أن تطفئ شيئًا من النار اللي اشتعلت داخله
جحظت عيناه، وارتجف فكه،وقبض على طرف الحائط أمامه وكأنها ما تبقى من اتزانه.
ثم شهق شهقة خنقت روحه وهتف بصوت مبحوح:
اغتصاب؟! انت بتقول إيه؟!
لم يجبه الطبيب…فقط نظر إليه بحزن عميق، كأن المأساة أكبر من أي كلام…لكن ياسر لم يحتمل، صرخ من أعماق قلبه: تقي… تقي… أختي أنا !! أختي اتبهدلت كده؟! تقي كانت فين؟ ومين اللي عمل فيها كده؟!
اقترب منه سلطان وهو يرتجف،ومد يده ليمسكه من منكبه، لكن ياسر دفعه بعنف،
تراجع سلطان خطوة، وعيناه غارقه بالذهول والغضب، ثم صرخ ياسر :مين اللي عمل فيها كده يا دكتور؟! انا عايز اشوف اختي يمكن اعرف منها أي حاجه؟! يمكن تقولي أي حاجه!!
أشار الطبيب بهدوء متألم:احنا عملنا بلاغ لما البنت وصلت، والشرطة دلوقتي بتحقق… إحنا عملنا اللازم طبيا، والنزيف تحت السيطره الحمد لله، إنما حالتها النفسيه… متاخره جدا …
رفع ياسر إيده على دماغه، وبدأ يلف في دواير حول نفسه وهو يهذي:اختي يحصل فيها كده … أنا واقف متكتف زي العويل … أنا السبب ازاي معرفتش احميها ازاي ؟!
ثم انهار على الأرض فجأة، وجسده كله يهتز بنوبات بكاء هستيرية…ركع سلطان بجانبه،وتمسك برأسه بين راحتيه ورجه بقوه عنيفه وهدر من بين أسنانه: ياااسر ..ياسررر فوق يا ابن عمي …
نظر له ياسر،بعينين مبللتين، مكسورتين،وقال بصوت مهزوم: أختي يا سلطان… دي أختي يا ابن عمي… شوف حالها إيه؟! شوف ضنا أمي حصل فيه ايه ؟؟
قبض سلطان على يده بقوة، وعيناه تقطران نارًا:قسما بالله يا ياسر… دمعتها ما هتنزل عالأرض.واللي عمل كده…قسم برب الكون ما هيطلع عليها نهار …
أنا هجيبه من قفاه، وهربيه رباية الكلاب…
ثم نهض فجأة وصرخ ناحية الطبيب : عايز اشوفها دلوقتي
هز الطبيب رأسه وأشار للممر: أوضة ٢١٤… بس حاولوا تهدوا نفسكم قبل ما تدخلوا لها… حالتها مش مستقرة.
تحرك سلطان بخطى سريعة،ولم يتبعه سوى صوت ياسر المتكسر،
الذي وقف ببطء ومسح دموعه بكم القميص وهمس:
أنا أخوها… وهاخد حقها… حتى لو هد الأرض كلها.
ثم لحق به…وقبل أن يخطو سلطان داخل الغرفة
خرج صوت ياسر كصرخة من جوف مقبرة: استنا يا سلطان!! استنا ابص عليها لتكون مكشوفه.. كفايه اللي حصل يا أبن عمي!!
استدار له سلطان ،وسبقته دمعته إلى عينيه،وهز راسه بحزن وقال: وانا ستر وغطاء يابن عمي !!
مسح ياسر دموعه براحة يده وهمس بصوت اجوف : عارف يا سلطان …
دلف ياسر إلى الغرفة كمن يسير فوق صفيح مشتعل… خطواته ثقيلة، مشبعة بالخذلان، وروحه تتهاوى تحت ثقل الكارثة التي لم يكن يتخيلها حتى في أسوأ كوابيسه.
رآها. هناك.
تجلس في ركن الغرفة، لا حراك، ملامحها خاوية، عيناها زجاجيتان كأن الموت قد عبر من خلالهما وتركهما مفتوحتين على هاوية لا قاع لها.
كأنها لم تعد تنتمي لهذا العالم… كأنها احترقت وبقي الرماد يتنفس.
انكسر ياسر، تمامًا، حين رآها.واقترب ياسر منها ودموعه تقطر بمرارة رجل تكسرت فيه كل عزة، جثا أمامها، بقلبٍ يتفتت، وهمس بصوت مبحوح، كأن كل حرف منه خرج من تحت ركام جسده: تقي… حبيبتي… ردي عليا، بنتي.
مد يده نحوها، يتوسل لمسة… دفء… إشارة واحدة فقط تخبره أنها ما زالت هنا.
لكنها، فجأة، انتفضت… سحبت يدها بسرعة مذعورة، وتراجعت كما لو أن المسافة بينهما خيانة، وعيناها امتلأتا بذعر لا يعرفه البشر إلا من رأوا الجحيم ونجوا بأجسادهم دون أرواحهم.
لم يتراجع ياسر… نهض، وقد اهتز صوته كوتر ممزق: دانا ياسر! أنا أخوكي يا تقي! دانا اللي هجبلك حقك… هدبح اللي قرب منك… هدبحهم قصاد كل دمعه منك واحد!
لكن ما قاله لم يكن طمأنينة….بل كان النار ذاتها.
فاشتعلت تقي، وانفجرت صرخة من صدرها لا تشبه صرخات البشر… كانت كأنها تنتزع من تحت الأرض، كأن روحها تصرخ من فجوة لا ترى.
أطبقت الغرفة على أنفاسها، وتشنج جسدها، وارتجفت، وبدأت تصرخ بهستيريا، كمن تحترق بداخلها نار لا يطفئها سوى الموت.
جحظت عينا ياسر، وقف مذهولًا، قبل أن يدرك ما يحدث، اندفع سلطان إلى الغرفة كالعاصفة، ركض إليه وصاح: ياسر!!
تمسك ياسر بـ تقي وهو يحاول يهديها، بصوت مكسور :
الحقني يا سلطان… دي بتموت في إيدي… دكتور بسرعه!
خرج سلطان من الغرفة كالسهم، صوته غليظ مبحوح يملأ الرواق: دكتووور! حد ييجي بسرعه! دكتووور!
وفي لحظات، انفتح الباب بعنف، واندفع الطبيب والممرضات، يحاولون السيطرة على انهيارها، حقنوها، ثبتوها، بينما كانت تقي تصرخ كمن يسلخ من روحه.
تراجع ياسر للخلف، حتي اصطدم بالحائط، وكاد يسقط لولا أن سلطان أمسك به، شده بقوة وهو يهدر بصوت كالسوط: شد نفسك! شد نفسك يا ياسر… إحنا مش هينفع نقع دلوقتي! حقها مش هيبات… واللي عمل فيها كده، هتتغسل الأرض بدمه الليله دي!
تمسك ياسر به، وصوته يرتجف من الوجع: اتقهرت… اتقهرت يا سلطان… على عرضنا اللي انداس برجلين ولاد الكلاب…
صفعه سلطان على منكبه بقبضة هادئه ولكن مزلزلة، وعيناه تتوهجان نيرانا وصاح : افهم بقا… اللي تتكسر وهي متكتفة دي شرفها فوق دماغ الكل… غصب عن الدنيا! العرض مش نقطه دم يا ياسر… العرض إنك تحافظ على اللي انهان غصب عنه، مش ترميه وتكمل!
كان الطبيب يفرغ الإبرة الأخيرة، وتقي بدأت تهدأ، أو تخدر… وتنسحب من العالم.
التفت إليهما الطبيب، وجهه متجهم: ياريت تطلعوا بره… حالتها دخلت في انهيار عصبي حاد، ولازم دكتور نفسي يتابعها… الحالة دي مينفعش تسمع صوتكم دلوقتي.
أومأ سلطان بإشارة مختصرة، صوته بارد كالسيف: اعمل اللي لازم… وهات أحسن دكتور في مصر يشوفها دلوقتي… أنا مستني التقرير بنفسى.
أشار له الطبيب بالموافقة، وتحرك سلطان، يجر ياسر الذي أصبح أشبه بجثة تمشي بلا روح.
خرج الاثنان، وسلطان يلف حول نفسه كوحش مسجون يفتش عن باب للهروب أو فرصة للانقضاض… فيما جلس ياسر على الأرض، لا يقوى على الوقوف، ينوح بلا صوت، كمن انتهى.
أخرج سلطان هاتفه، طلب رقم عز، وما إن رد حتى انفجر صوته: عز… انت فين؟!
رد عز فورًا:طالعين على المستشفى…
قاطعه سلطان بصوت غليظ مشبع بنار: لقينا تقي… في مستشفى العام… تعال، دلوقتي حالًا!
اغلق المكالمة بعنف…ثم التفت نحو الرواق، عيناه لا ترى… لكن قلبه يرى مشهد واحد فقط: دم تقي… وحقها، الذي لن يهدأ حتى يرد.
مر الوقت كمن يزحف فوق الجرح بسكاكين من لهب… لحظات معدودة، لكنها بدت وكأنها الدهر كله. ثم انفتح الباب على اتساعه، واندفع داخله عز وعمار، يتبعهما عاشور وخليفة والعتال، وأرواحهم تسبقهم من فرط القلق.
رفع ياسر بصره إليهم بوجه شاحب، ونهض متماسكًا بالكاد، ثم همس لسلطان بصوت مبحوح: أبويا مش هيستحمل، يا سلطان… مش هيتحمل الصدمه دي.
لكن الوقت قد خانه، والكلمات فلتت منه متأخرة؛ إذ سمعه خليفة، فهدر صوته بغتة كالرعد: مش هتستحمل إيه يا ياسر؟! أختك فين؟!
انكسرت ملامح ياسر، نكس رأسه بقهر، وقبل أن يتكلم، كان خليفة قد انقض عليه كالسيف، قبض على ياقة قميصه بعنف يهز الجبال، وهدر بصوت هادر: أختك فين يا ياسر؟! حصل لها إيه؟! اتكلم يا ولااااااااااااه!
أسرع عاشور والعتال إلى تهدئته، وسحبه للخلف كي لا ينفلت ما تبقى من أعصابه…
تجمد عز وعمار في أماكنهم، مذهولين من نظرة ياسر التي تشبه الموت… نظرة لا ندم فيها، لا دفاع، فقط انكسار.
ثم قطعت السكينة الثقيلة، بصوت سلطان…كان صوته لا يحمل حياة… أشبه بصدى خرج من قبر: تقي… اتغدر بيها يا عمي… اتدبحت بالحياة.
رمش خليفة ببطء، كأن الكلمات لم تفهمه بعد. تشنج فكه، ثم غمغم بصوت مهزوز: ليه؟… ليه يا رب؟! ذنبها إيه؟!… وذنبي أنا إيه؟!… ضهري يتكسر علي بنتي ؟!
أمسكه عاشور من منكبيه، وهتف بلهجة تكاد تبكي الحجر: اهدا يا خليفه… بنتك محتاجاك… لو شافتك كده، ممكن تموت روحها … اصلب طولك يا ابن أبويا… شد حيلك!
أومأ له خليفة بتوهان، عيونه فارغة، ولسانه جاف في حلقه، كأن مرارة الدنيا كلها تجمعت فيه.
تراجع العتال خطوة للخلف، وغمغم بصوت باكي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم… مصيبة يا ناس!
اقترب عز وعمار من سلطان، أعينهم ترجف، قهر يتصاعد بين الشهيق والزفير. لكن ما قطع تلك النظرات المرتعشة، هو صوت عاشور حين هتف فجأة: خليفه!… خليفه يا خويااااا!
سقط خليفة فاقد للوعي في أحضان أخيه، فهرع الجميع إليه، تشبثوا بجسده قبل أن يرتطم بالأرض. كان ياسر أول من صرخ: دكتوووور! دكتور يا ناااااس!
اندفع الطبيب ومعه الممرضون، وضعوا جسد خليفة على السرير المتحرك، ثم هرعوا به نحو غرفة الفحص.
وتبقى الرجال واقفين هناك، في الممر… قلوبهم تنهشها القلق، والصمت يلتهم أنفاسهم كذئبٍ متربص.
الوقت مر ثقيلًا… كأن الزمن تحالف مع الألم ليذيقهم كل لحظة مرتين.
حتى خرج الطبيب… فاندفعوا نحوه، وهتف عاشور بصوت مبحوح: أخويا… عامله إيه، يا دكتور؟!
كانوا جميعا يحدقون في فم الطبيب، يترقبون ما سيقول وكأن أرواحهم معلقة بكلمة منه. ثم تنفس الطبيب وقال:
الحمد لله… كانت جلطة دماغية، بس لحقناه في أولها… ربنا يقومه بالسلامة، بإذن الله.
ثم انصرف الطبيب، وترك خلفه وجعا لم ينته بعد.
سقط عاشور على أقرب كرسي، جلس بجانبه العتال، وهمس بدموع خفية: هيقوم يا عاشور… خليفة شديد.
هز عاشور رأسه ببطء، وصوته كأنما يخرج من قاع جرح:
كان شديد… انكسر خلاص.
اقترب سلطان من أبيه، جثا أمامه، وضع يده على ركبته وهمس بنبرة محروقة:ما عاش ولا كان اللي يكسرك… ولا يكسر اللي منك، يابا!
نظر له عاشور، ودموعه تقطر قهرا، ثم غمغم بنبرة كالسيف: تار بنت عمك… في رقبتك، يا سلطان.
أومأ سلطان برأسه، عيونه تشتعل كأنها حمراء من اللهب: ورقبة سلطان الهواري… تسد الدين يا هواري، زيك صح!
ضرب عاشور على فخذه وهدر: دلوقتي… قبل ما عمك يفوق، تكون رقبة اللي مس بنته تحت رجليه… فاهمين؟!
توزعت نظراته عليهم جميعًا… كلهم أومأوا دون تردد.
صرخ سلطان بحده : مش هتشوف حد مننا غير رقابهم تحت رجلينا… ولا هنرحم حد!
ثم استدار سلطان، كأن الأرض تميد تحت قدميه، وكأن كل خطاه تدك التراب دكا، لا يمشي… بل يسير كإعصار ينذر بالخراب.
تصلبت ملامحه، غابت عنها الحياة، ولم يبق فيها إلا نار تتأهب للانفجار… وخلفه، تحرك ياسر، يبتلع القهر كما يبتلع البحر الغارقين،
وسار عز… وفي عينيه وعد لا يغفر… وخلفه عمار، بملامح لا تعرف للرحمة طريق.
أربعة رجال… لا يحملهم الحزن، بل الغضب.
لا يسيرون… بل يندفعون كجنازة تأخرت، أو كقسم انشق عن صدر اللهب.
أربعة أرواح خرجت لتنتقم… لا يهمها القانون، ولا الرحمة، ولا حتى الموت.
كل ما فيهم كان يصرخ: الدم لا يغسل… إلا بالدم!!
………………………………….
في قلب منطقة مقطوعة، لا يمر بها بشر ولا يمر بها ضوء…
توقفت سيارة سلطان أمام بوابة فيلا منعزلة ، كأنها تنبض بالشر من جدرانها،
وخلفه سيارة عز… وصمت يمهد للعاصفة.
نظر سلطان إلى الفيلا، والشرر يندلع من عينيه كما لو كان بركان على وشك أن ينفجر.
أمال رأسه نحو عمار الجالس جواره، وقال بصوت غليظ كالرعد المكبوت: جاهز؟
أومأ عمار بثبات، وتبدلت المقاعد سريعًا، جلس عمار خلف المقود، بينما جلس سلطان إلى جواره،
فتح باب التابلوه السفلي، وسحب رشاش آليا من تحت أقدامه كمن يسحب وعدا من الجحيم،
ثم هدر والشر يتقطر من نبرته: جاهز يا شقو.
رفع الهاتف إلى أذنه، وغمغم بصوت منخفض، لكنه مشبع بالغضب: جاهزين.
جاءه صوت عز عبر الخط، وكان ينظر نحو ياسر بجانبه وهدر بفحيح حاد: تمام.
تحرك ياسر، وركب في المقعد الخلفي، فتح فتحة السقف، وأخرج نصف جسده منها،
تمسك بسلاح ناري ثقيل وثبته بإحكام، وهتف: يلا يا عز!
اشتعل محرك السيارة…وانطلقت كما لو أنها شيطان انحلت قيوده…
جلس سلطان على حافة باب السياره، نصف جسده خارج السيارة، كأنه فارس من معارك الجحيم،وخلفهم سيارة عز تندفع كالطلقة.
اصطدمت السيارة الأمامية ببوابة الفيلا، دكتها كالعاصفة، وسقط الحديد أرضا كأطلال لا ترثى.
اندفعت السيارتان كوحشين خارجين من قاع الجحيم،
سلطان من اليمين، وياسر من أعلى، يطلقان وابلًا من الرصاص كأن الموت يهلل على أيديهم.
رصاصات تقطع الهواء، تصرخ، تتلوى.
والجثث… تتساقط واحدة تلو الأخرى، كأوراق شجر هلكت في خريف ناري لا يعرف الرحمة.
لم يكن الهجوم…بل كان إعلان ثأر….وكانت كل رصاصة… تقول: الدم يرد بالدم… والوجع يدفن في صدور الموتى.
…………………………………..
داخل الفيلا…
كانت الرائحة تنذر بالموت.
رائحة خانقة، تخالجها نتنة عرق فاسد، وعطن بشري ثقيل… كأن المكان يأبى الحياة، ويزفر بروح قذرة ألفت الدناءة.
نهض خلف من فوق سريره بعينين نصف غائمتين، مد يده يسحب بنطاله بعجلة، ثم صرخ كالثور المذعور:
في إيه يا بهايم؟!
يده تحسست المسدس الموضوع بجوار السرير، وقبل أن يخطو خطوته الأولى نحو الباب،
انفجر الباب بعنف يشق السكون كطلقة جحيم، فارتد خلف خطوة إلى الوراء، والزعر ينهش جسده.
قفز الشاب من السرير وهو يرتجف بجوار الباب…
منكفئ على نفسه، جسده يرتعد، عيناه زائغتان كأنهما لا تبصران، شفتاه تتحركان بكلمات لا تسمع،
كمن أصابه المس، أو فقد عقله تحت وطأة الخوف.
وهو لا يعي شي مما يجري حوله …
ووسط الغبار الكثيف والدخان، ظهرت الوجوه الأربع…
سلطان، عز، عمار، وياسر
تشقوا المكان كالأربعة جحيم خرجوا من عمق الأرض، وجوههم تقطر نارا، عيونهم لا ترى إلا هدفا واحدا:
الدم.
نظر سلطان إلى الشاب المتكور على الأرض باشمئزاز، ثم رفع عينيه إلى خلف، وبدا وكأنه يبصر الجحيم نفسه.
سلطان الهواري… لم يكن بشرا في تلك اللحظة، بل لعنة تمشي على قدمين.
أشار برأسه إلى عز،
تحرك عز بخطى بطيئة، أمسك ملابس الشاب المرمية على الأرض وألقاها في وجهه وهدر :البس يالا…
مد الشاب يده مرتجفة، وهمس ببكاء:هــه… همشي؟ أروح… بــ بيتـــنا؟
نظر إليه عز كأنه يرى الجنون متجسدًا، ثم هدر بغضب:
ده مش طبيعي… ده شكله على الله يا ابن الـوسـخة!
في لمح البصر…
قبض سلطان على شعر خلف من مقدم رأسه، وجذبه بعنف، كأنما يسلخ رأسه من عنقه، ثم هدر بصوت أجش كالرعد:عجلت بموتك يا خنزير يا ابن الـمـ
ثم لطمه بكفه لطمة خرت في أذنه كالزلزال، وسقط خلف أرضا يصرخ من الألم، يتلوى كالدودة المسحوقة.
اندفع ياسر في اللحظة التالية، سحبه من ساقه بقوة سحله بعنف حتى التصق جسده بالأرض،
وسحق عنقه بباطن قدمه، وعيناه تقطران دما قبل الدموع وصرخ : هصفي دمك نقطة نقطة يا ابن الحرام… حطيت راس أختي في الوحل يا ابن الـشـ*
صرخ خلف وهو يختنق من وطأة القدم فوق رقبته، وصاح بجزع: انتو عايزين مني إيه؟! أنا بعدت عنكو… سبوني في حالي!!
انحنى عمار فوقه، كأنما اقترب الموت نفسه…
أمسك رأسه بين راحتيه، وعيناه تشتعلان بشراسة الذئاب الجائعة، ثم صرخ في وجهه:انت عمرك ما هتبعد غير بموتك… انت طاعون يا خلف، بتمشي وراك اللعنة… أي مكان تدخله بتقلبه خراب!
ثم ضرب رأسه في الأرض بقوة… مرة… واثنتين… وثالثة…
حتى علا صراخ خلف كأنما يصرخ معه الحائط، ثم ارتخت أطرافه فجأة… وسال الدم من جبهته، وصمت.
فقد الوعي.
………………………………………
في قلب الحارة…
وفي بيت أطفأت المآسي نوره، كانت ضي ترتجف كطائر مذبوح بين ذراعي عايدة،
بينما حياة تنكمش خلف ظهرها كأنها تتمنى أن تنبت لها أجنحة تهرب بها من العالم بأسره.
القلق ينهش الجدران، والرعب يكسر في العيون.
وفجأة دوى صوت بطة، وهي تضرب فخذيها بكفيها بعنف فاضح:ياااارب ثبت علينا العقل والدين… عشان أنا خلاص… هتجنن من العيال دي!
ثم ضربت كفا بكف، وعيونها تبرق من الغضب:هي دي آخرت الدلع والثقة اللي حطيتها فيهم؟! تروحوا كباريه؟! زي الشـ* و بنات الليل؟!
غمغمت حياة بدموع مرتعشة، صوتها بالكاد يسمع:
ضي ملهاش دعوة… أنا… أنا وتقي اللي غصبنا عليها…
التفتت لها بطة بعينين يتطاير منهما الشرر، وصاحت بحدة:إنتي يا حياة؟! أنا؟! أنا اللي معرفتش أربي؟! استني بس… يلاقي بت عمك… لو سلطان قطع من جتتك نساير، أنا مليش دعوة… ولا هقوله تلاتة التلاتة كام!
شهقت ضي بعنف، وانكفأت على صدر عايدة، وجسدها كله يرتجف كأن زلزال ضربها من الداخل.
أما بطة، فكانت النار تشتعل في صوتها وهي تتابع بنبرة دامعة، مغمغمة بقهر:عيطي يا بت… عيطي على بيتك اللي خربتيه بيدك… بدري بدري!
نشيج ضي المكتوم ازداد وجعا، بينما صاحت عايدة بنفاد صبر، وفي صوتها رجاء:خلاص يا بطة… الرحمة حلوة يا أختي! دول مرعوبين خلقه… لسه عيال!لسه ما شافوش الدنيا، ولا عارفين ولاد الحرام مستنيينهم في أول غلطة!
كفاية بقا… القلب على القلب رحمة يا حبيبتي…
لكن بطة لم تحتمل، هبت واقفة، ولطمت وجنتيها بعنف، وهتفت بدموع تكاد تحرق الأرض:يعني عاجبك اللي حصل؟!كانوا هيضيعوا، ونقعد إحنا بنار قايدة في قلوبنا!
والبت تقي من امبارح مالهاش أثر! قلبي مولع عليها يا عايدة!
نهضت عايدة بسرعة، وتمسكت بها، وضمتها كمن يحاول أن يطفئ بها نارًا، وقالت ببكاء صادق: بس كفاية… حرام عليكِ الندب ده…ربك كبير، يا أختي…روحي يا بطة… اتوضي وصلي وقولي يارب!
هزت بطة رأسها بتعب، ثم غمغمت بصوت مخنوق:
البِت فيها حاجة، يا عايدة…أنا قلبي حاسس…
حتى أمها… أمها جاتلي لما عيني غفلت خمس دقايق قبل الفجر…قالتلي الحقي تقي يا فاطمة…”
نظرت إليها عايدة بدهشة، وقشعر بدنها وبلعت ريقها بصعوبة، ثم همسة:لا يا أختي…ده بس عشان إنتي قلقانة عليها…دلوقتي… دلوقتي تلاقيهم داخلين علينا بيها وزي الفل…
وضعت بطة يدها على صدرها، تحاول أن تلتقط أنفاسها، وقالت والدموع تغالبها: يارب… يارب يا عايدة…
أما ضي، فقد كانت منكمشة كأنها ستذوب…نحيبها مرعب، يكتمه صدر عايدة،
وحياة لا تنبس بكلمة، فقط كانت تمسك بأنفاسها،
بينما الذنب ينهش في صدرها كذئب جائع… ولا خلاص.
…………………………………………
في فيلا خلف الحناوي…
شهقة مذعورة شقت سكون الصمت ،
استفاق خلف على رشقة ماء بارد سقطت فوق وجهه كصفعة من الجحيم،
فتح عينيه بتثاقل مذعور، وبدأ يتلفت حوله، يتنفس بصعوبة وكأن الهواء صار سماً،
حاول تحريك ذراعيه… فارتطم بجدران القيد.
صاح بخوف هستيري:لأ… لأ… فكوني! انتو بتعملوا إيه؟!
أنفه التقط الرائحة أولًا…
رائحة الجاز… ثقيلة، خانقة، تنذر بما لا يقال.
هتف بارتجاف: إيه ده؟! إنتو ناويين تعملوا إيه؟!
اقترب منه سلطان ببطء قاتل،
رفع ساقه بثبات، ووضعها على حافة السرير، وأسند ذراعه على ركبته، ثم تمتم بصوت كأنه حكم بالإعدام:
ده جاز… أسود زيك بالظبط…بس ممكن نوفر عود الكبريت… لو اتكلمت.
تأرجح صوت خلف بين التوسل والهلع: اتكلم؟! أقول إيه؟! أنا… أنا مش فاهم حاجة!
ابتسم سلطان ابتسامة باردة، وسحب سكينا صغيرة من خلف ظهره….غرسها ببطء لا رحمة فيه في ساق خلف،
بينما ياسر أمسك بشعره وقرب وجهه من الجرح…
صرخ خلف صرخة فجرت جدران الفيلا، وياسر يهدر بكل ما في قلبه من نار:انطــــق يا علـ*! إحنا خلاص عارفين إنك ما لمستهاش وملكش فيه… بس مين من رجالتك اللي شبهك؟! مين الحيوان اللي عملها؟!
صاح خلف بالألم: مش من رجالتي! أنا ماليش دعوة… ارحموني بقى!!
اقترب عز، قبض على ساقه الثانية، وثناها بعنف حتى سمع صوت طقطقة العظام…صرخة خلف كانت هذه المرة أشبه بوحش يذبح حيا…
وصاح : أقسم بالله! مانا ولا رجالتي!شوفوا مين معديكم يا ولاد الهواري! يمكن… يمكن حنفي ورجالته!
أخرج سلطان السكين من ساقه ببطء،
ثم أعاد غرسها مرة أخرى، صارخا :أبوك لي أبو حنفي؟
يا ولاد الحرام… يا أنجاس!
فقد خلف وعيه لحظة، ثم عاد يصرخ كالمجنون…
لكن ياسر لم يرحمه، دفع قطعة قماش مشبعه بالجاز داخل فمه، ثم انحنى عليه وهو يلهث: هدوقك نفحة من جهنم… قبل ما تروحها، يا ابن المرة المومس!
أكيد اللي خلفتك ما كانتش حرة!
أشار سلطان إلى عز،
فأشعل الأخير سيجارته بهدوء يقتل الأعصاب، ثم ألقى بالولاعة على الأرض…
قال ببرود: يلا… أولع يا ابن المـ*.
وفي لحظة، اشتعلت الغرفة…الجاز التهم الأثاث، الجدران، السقف…والنار تلتف حول السرير كحية جائعة تحاصر فريستها…جحظت عينا خلف، وتخبط، وصرخ، وتوسل… ولا مجيب.
ربت سلطان على منكب ياسر وقال بجمود: مالي عين فيه؟خلي نارك تبرد، ياخويا.
نظر له ياسر والنار تنعكس في عينيه، كما لو أنه أحد شياطين الجحيم،وهمس بصوت مبحوح: عمرها ما هتبرد…غير لما اعلق اللي اتجرأ ولمس أختي…
زي الدبيحة… ومن غير راس…عشان حتى محدش يعرفهوش.
ربت عز على منكبه، وتمتم: هيحصل يا ياسر… هيحصل.
وفي تلك اللحظة، عاد عمار، يحمل ملفات ومستندات،
أشار إلى سلطان قائلاً: كله تمام… الورق كله معايا. يلا بينا.
أومأ سلطان برأسه،
ثم تراجعوا جميعا نحو الشرفة، قفزوا إلى الحديقة،
والنار خلفهم تبتلع الفيلا ببطء…
كأنها تنتقم من كل لحظة دناءة ونجاسة كانت تحت هذا السقف.
ركبوا السيارات…وانطلقت القافلة، كأن إعصارًا من النار خرج من باطن الأرض…
لا يتوقف حتى يقتلع الأخضر واليابس… من الجذور.
………………………………………
مخزن حنفي الرشاش
سكون كثيف، كأنه استعداد الموت لالتقاط أنفاسه، خيم على المكان…
قبل أن ينشق عن انفجار مدو أتى من بوابة المخزن،
اندفعت سيارة سلطان كقذيفة حية، تعقبها سيارة عز،
تسحق الحديد والبشر، تطيح بكل ما يعترض طريقها كأنها ثأر متحرك، لا يعرف الرحمة ولا التوقف.
في الطابق العلوي من المخزن،
قفز حنفي من خلف مكتبه على صوت الاصطدام المدوي،
اتجه إلى الشرفة الحديدية التي تطل على الأرضية السفلية…وجحظت عيناه،
السيارة الفارهة التي كانت مفخرة المخزن… سحقت أسفل عجلات سيارة سلطان،المخزن انقلب جحيمًا،
جثث رجاله تملأ الأرض، والرصاص لا يزال يتردد صداه كضربات الطبول في جنازة دموية.
ارتد حنفي إلى الخلف كمن لسعته النار، سحب سلاحه من درج مكتبه، وهتف بفحيح كالأفعى: لسه ما حرمتش ياابن الهواري؟!أنا هجيب أجلك بــ إيدي…!
لكن قبل أن يلمح حتى مدخل الغرفة، ذراع فولاذية التفت حول عنقه من الخلف، فوهة مسدس باردة التصقت بجانب رأسه،
وصوت مألوف تمتم عند أذنه ببرود قاتل: أششش… ولا حرف.
تجمد حنفي مكانه، ارتجف جسده ، تدحرجت عيناه في كل اتجاه… وتمتم بصوت متلعثم : جرا إيه يا سلطان؟!
أنا بعدت عنك… وكافي خير شري.
ضحك سلطان بسخرية خافتة، ثم همس عند أذنه:
انت شر… شر سايب…وعمر الخير ما سكنك في يوم.
وصاحبك قبل ما يتشوى… قال كل حاجة..
شهقت عينا حنفي واتسعتا عن آخرهما، لكن قبل أن ينبس، دفعه سلطان بغلظة، فتدحرج على الدرج الحديدي كخرقة ممزقة،ليستقر جسده أرضا، يتناثر الدم من أنفه وجانب رأسه.
قبل أن ينهض، وضع ياسر قدمه على عنقه، وضغط بثقل قهره: عايز اسـم اللي قرب من أختي… يا ابن الحرام.
تلوى حنفي تحت قدمه، يتنفس بصعوبة،
ثم تمتم بتوسل: معرفش… والله ما اعرف.
أنا ماليش دعوة… محدش منهم قرب منها!
في لحظة خاطفة،
سحب عز خنجرا من خصره، وغرزه في كتف حنفي دون تردد….صرخة خرجت من حلق حنفي كأنها صعود روحه.
وصاح : كلابك فين؟!!هقطعك حتة حتة… وارمي لحمك للكلاب، لحد ما تتكلـــم!!
اقترب سلطان، عيونه تنضح نيرانًا لا تهدأ، وغرس خنجره بأسفل ظهر حنفي، الذي انهار يصرخ ويختنق من الألم.
تمتم سلطان بنبرة مرعبة : مش هديك الضربة اللي تريحك… هخليك لا طايل موت… ولا عايش.
سحب ياسر جسد حنفي بعنف، وضربه على أنفه بظهر كفه، ثم قذفه إلى الحائط المجاور، ليرتطم الجسد المنهك بشدة ويسقط أرضا كخرقة محترقة….هدير صوت ياسر ملأ المكان:انطــــق… يا ابن المرة!!
ارتج المخزن كله من صرخته، وحنفي يتخبط على الأرض، الدماء تنزف من كل موضع في جسده.
اقترب عمار،
وقف أمامه، نظر إليه شزرًا، ثم تمتم كمن يعلن النهاية: شكلك مش هتيجي غير بـ ده…
رفع الرشاش الآلي في وجهه،وأطلق وابل من الرصاص حول رأسه، الرصاص مر من جانبيه كأن الموت يلعب به،
وصرخ حنفي ، صرخ حتى انفجر صوته بالفزع: هقـــول!
هقـــــول… ارحمـــوني!!
رفع عمار السلاح للأعلى بهدوء.
أشار حنفي بأصبع مرتعش نحو أحد الأغطية الملقاة في الزاوية المظلمة… وهمس بأنفاس متهالكة، كأنها آخر ما تبقى له: هــنا… هما هــنا…
أومأ سلطان إلى عز، فتحركا معا نحو الغطاء المعدني المهترئ في زاوية المخزن، رفعاه ببطء قاتل…
لتخرج منه شهقة فزع ثلاثية،ثلاثة رجال تراجعوا على أعقابهم، يتشبثون ببعضهم كأنهم قطعة واحدة،
وجوههم مزيج من الذعر والرجاء، لكن لا مفر.
سحب سلطان أحدهم كخرقة قذرة، وقذفه تحت قدمي ياسر بقسوة، فعل عز الشيء ذاته بالثاني،
ثم ألقى الثالث فوق جسديهما، ليصبحوا كومة مرتجفة تنتظر الجلد.وقف ياسر…أوداجه تكاد تنفجر من شدة الغضب،
وعروقه تنبض كأنها على وشك التمزق، عيناه زائغتان، تغليان…كأن ما أمامهم ليس إنسانًا، بل غضب متجسد على هيئة رجل…. خلع الحزام من خصره، لف طرفه على كفه، ولوح بالجزء المعدني في الهواء،
ثم هوى به على أجسادهم كما يهوى القصاص على رقاب من لا يستحق الحياة.
صرخوا… صرخات مزقت صمت المخزن، وصلت عنان السماء : ملناش دعوة! احنا كنا بننفذ أوامر المعلم حنفي!
بس مقربناش منها، مش احنا… ارحمنا!!
لكن غضب ياسر لم يكن بشرا، بل لعنة ثائرة وصرخ :
ملكوش دعوة؟ أنا هقطع جثثكم نساير… يا وِلاد الحـــرام!!
ارتجت أجسادهم…كل من تجرأ أن يزحف مبتعدًا،
وجد سلطان كجدار حديد يقف أمامه،
يركله في صدره، فيعيده تحت قدمي ياسر من جديد،
كأنهم في ساحة عقاب لا نجاة منها. جلده فوق جلده، صرخات فوق صرخات، حتى صارت أصواتهم أنين خافت، كأنهم يحتضرون على مهل.
سقط ياسر على ركبتيه، ينحب بصوت مكتوم،
كأن النيران خرجت من قلبه، لكنها أحرقت روحه معه.
اقترب منه سلطان، ضمه إلى صدره بقوة…همس بصوت متحشرج والدمع في عينيه: حقك عليا… يا ابن عمي.
وقف عز وعمار،
عيونهما تومض كالجمر، حبيسة دموع لا تجد طريقا للخروج،
واااه من قهر الرجال إذا خنق، كاد يحطم القلوب.
تشبث ياسر بصدر سلطان،وتمتم بصوت مبحوح:
لسه عيله يا سلطان… استحملت كل ده ازاي؟
نزلت دمعة من سلطان، باردة كنصل خنجر،
ثم قال: ده مش وقته يا ياسر… كلنا لازم نقف جمبها دلوقتي…
لكن صوته انقطع فجأة، حين لمح من طرف عينه جسد حنفي يزحف في الظلام، يتسلل كالثعبان المذعور، يبحث عن مخرج.
سحب سلطان سلاحه، وأطلق عدة طلقات نارية،
اخترقت جسد حنفي وأسقطته أرضا، يتخبط وسط بركة من الدماء.
نهض ياسر، عينه تقطر نارًا، سحب أحد الرجال من قدمه،
وسحله على الأرض نحو الخارج كجثة لاقيمة لها،
عز تبعه بسحب الثاني،
عمار أمسك الثالث كحقيبة ثقيلة من العار.
قذفوهم جميعًا داخل صندوق السيارة،
وأُغلق الباب الحديدي خلفهم بعنف.
ثم…انطلقت السيارات كالإعصار، كأنهم أربع نيازك احترقت قلوبهم، وأقسموا أن لا يهدأ لهم جمر
حتى تقطع رؤوس الخونة وتسلم الدماء.
……………………………………….
في المستشفى…
خيم صمت ثقيل على ردهة المستشفى،
وفي أحد الأركان جلس عاشور الهواري، يحدق في شاشة هاتفه بحنق ، ثم أغلقه ببطء ونفخ بأنفاس محملة بالضيق، كأن صدره سجن لا يفتح.
رمقه العتال بدهشة وهمس: قفلت التلفون ليه يا عاشور؟
أجاب عاشور بنزق مرير، دون أن يلتفت: نسوان زنانه يا عتال… واخدينها رن رن، وأنا لساني نشف عن الكلام.
ربت العتال على فخذه بتفهم وقال:وهم برضه… قلوبهم مولعة. عايزين يطمنوا.
لمعت عينا عاشور، ليس من البكاء وحده، بل من القهر الممزوج بالعار…قال بصوت متهكم يغلفه الرماد: هيطمنوا؟ ولّا يولعوا الدنيا علينا؟ويفضحونا في الحارة؟بعد ما كنا أسيادها، نبقى سيرة بتتقال في القهاوي؟أقولهم إيه؟ البت ضاعت؟ وعرضنا اتمرمغ في الوحل؟!
هز العتال رأسه بأسى، وربت على منكبه بحنو الرجال وقال: ما تقولش كده يا عاشور… عرضنا متصان.
اللي اتدبحت وهي متكتفة… ما تتحاسبش.
صوت متهدج، آت من عتبة الوجع، شق الهواء: يسلم فمك يا عمي…
استدار عاشور والعتال معًا، فإذا بسلطان وعز وياسر وعمار، يدخلون كأنهم عادوا من جبهة حرب،
وجوههم ليست هي التي رحلت…
بل وجوه حفرتها النار، وطبعت عليها العهد والدم.
نظر عاشور في أعينهم وهتف، وصوته يتهدج: حصل؟
اقترب سلطان، مد كفه المغطاة بالدماء، وغمغم: غسلت إيدي بدمهم… يابا…اتدبحوا…والدبح فيهم… حلال.
خطا ياسر خطوة للأمام، صوته منكسر لكنه ثابت:
أبويا… فاق؟
أومأ عاشور برأسه وقال: فاق… بس مقدرتش أدخل له.
أومأ ياسر، وتحرك نحو الغرفة،دفع الباب ببطء،
ثم دلف وأغلقه خلفه، وكأن بينه وبين العالم باب لن يفتح ثانية.
اقترب من السرير، وتطلع إلى وجه والده الذي خفت وهجه،ثم قال بصوت خافت: جبت حق أختي يابا…
رفع خليفة عينيه بضعف، ورأى يد ابنه… غارقة في الدماء…رفعها ياسر أمامه وقال: شربت من دمهم… والله يابا…شربت من دمهم.
اهتز جسد خليفة… انفجرت دموعه، رفع يده المرتعشة،
وقبض على كف ياسر كأنه يمسك بالحياة ذاتها.
ألقى ياسر رأسه على صدر أبيه،وانفجر بنحيب حاد، خنقه حتى صار أنينه موجعا:حقك عليا يابا…
سامحني.
ولم يعد هناك صوت…سوى بكاء ياسر المكتوم،
وشهقات خليفة المتتالية،كأنهما يغسلان روحهما بدموع الرجولة المجروحة…وكأن دماء الجناة مازالت لا تكفي لتطهر الحريق الذي شب في قلب الأب والابن معا.
مر وقت قصير،
وخرج ياسر من غرفة والده، يمسك به كمن يسند روحه لا جسده.
كان خليفة الهواري يسير متكئا على ذراع ابنه، شاحب الوجه، يتنفس كمن أُعيد من بئر مظلم.
ما إن رآه عاشور حتى نهض وهتف بقلق: رايح فين يا أخويا؟!
غمغم خليفة بصوت مبحوح، تهاوى منه كل سلطان:
هروح بيتي يا عاشور… أنا عمري ما حبيت المستشفيات… ولا رقدتها.
اقترب سلطان، قبض على ذراع عمه، ووضعها فوق منكبه بثبات، وقال: يلا يا عمي…إنت زي الفل. بلا مستشفى بلا وجع قلب.
أومأ خليفة برأسه وأخذ يخطو بثقل، ثم نظر لياسر، بعين مبللة، وقال:هات أختك يا ياسر… يا ابني.
هز ياسر رأسه بالإيجاب، وغادر بخطوات مثقلة.
اتجه إلى دورة المياه، فتح الصنبور، وغسل يده التي ما زالت تقطر دما… دما حارا لم يبرد بعد.
تأمل السيل الأحمر وهو يتسلل من أصابعه نحو الحوض،
وكأن الذنب لا يغسل،وكأن دم الرجال لن يعيد الطفلة التي ضاعت.
ومضت أمامه ضحكة تقي… ووجهها البريء الذي سقط ميتا في لحظة لا عدالة فيها.
أغلق الماء، ومسح دموعه بكم قميصه وتنفس ببطء… ثم خرج.
اتجه إلى غرفة شقيقته ،فتح الباب بخفة، فرآها شبه غائبة عن الوعي،تحدق في العدم بعينين مفتوحتين… ولا تريان،ودموعها تنزلق كأنها تسقط من عالم آخر.
اقترب منها، قبل جبهتها، فسقطت دمعة منها كأنها روح انسحبت، مسحها بكفه الذي اعتاد أن يمسح غبار الشارع… لكنه الآن يمسح بقايا الطفولة المذبوحة.
حملها بين ذراعيه، وكأنها قطعة من روحه…وحين وصل باب الغرفة، التقى بعين الطبيب الذي صدم من المشهد:
إنت واخدها على فين يا أستاذ؟!
أجابه ياسر، دون أن يتوقف: هتكمل علاجها في البيت.
هز الطبيب رأسه، محاولًا التوضيح: بس ده مينفعش… أختك ما نطقتش بكلمه من ساعتها، ده انهيار نفسي ممكن يكون مأثر على نطقها… لازم تفضل تحت الملاحظة.
نظر ياسر إلى تقي،
إلى جسدها المسجى في حضنه كأنها شبح فتاه…
وعينين تحدقان في الفراغ بلا ارتداد.
قال بحزن حاسم: هنجب لها الدكاترة والرعاية وكل حاجة محتاجاها… في البيت بس مش هتفضل هنا.
رفع الطبيب يده محاولًا الاعتراض،
لكن القرار كان قد خرج من الباب قبل الكلمات.
وصل إلى السيارة. فتح عز الباب الخلفي.
وضع ياسر تقي إلى جوار والدها.
ضمها خليفة إلى صدره كأنها نعش دافئ يحتضنه…
وكأن حضنه ما عاد يطلب حياة، بل يحاول منع الموت من أن يبتلعها كاملة.
صعد ياسر وعز، وانطلقت السيارة كطلقة نار…
وخلفهم، لم يتبق من تقي الهواري سوى رماد.
في وقت قصير توقفت السيارة أمام منزل الهواري.
ترجل الرجال، وحمل ياسر تقي بين ذراعيه كأنها آخر ما يملكه من الدنيا…صعد بها درجات السلم إلى شقة عايدة.
فتح سلطان الباب….دلف ياسر بخطوات مثقلة بالخذلان.
وما إن وقعت أعين بطه وعايدة على تقي، حتى اندفعتا بنحيب يشق القلب.
صرخت بطه، ودموعها تبلل وجهها: يا بنتي مالها؟ يا ولاد… إيه اللي حصل؟!
اقتربت عايدة، وراحت تربت على وجه تقي المرتخي كأنها لا تحمل عظاما:ردي عليا يا بنتي… مالها يا ياسر؟
تلعثم ياسر وقال، محاولًا ترتيب الكلمات: أصل اللي حصل…
لكن سلطان قاطعه بنفاد صبر، وبصوته الخشن:بنات مايعة يا دودو…راحوا كباريه الهوانم، ولما ولاد الحرام هجموا علي المكان…العيال ضاعوا في الرجلين.
بس الحمد لله… ربنا ستر… بس تقي اتخضت…
خديها في حضنك وهديها…
نظرت عايدة إليهم، لم تفهم كل شيء، لكن فهمت الوجع،
واحتضنت تقي بقوة، وقالت والدموع تنهمر:الحمد لله يا حبيبتي…قدر ولطف.
ارتجف جسد تقي بين ذراعيها، وأغلقت عينيها…
كأنها تسلمت نفسها أخيرًا لحضن الأمان،
بعدما صارت الحياة قاسية جدا… والفرار منها أحن من البقاء.
……………………………………..
في شقه ياسر الهواري
دارت جنات حول نفسها تنتظر ياسر كمن يترقب طيفا لا يعود…
أرهقها القلق، وهدها السكون الذي طال،
غفت على الأريكة وهي تمسك بهاتفها… عيناها نصف مفتوحتين كأنها تحرس الليل من الانهيار.
دوى صوت مفتاح يدور في القفل، ثم انفتح الباب بهدوء مريب،ودلف ياسر الهواري بخطوات بطيئة… لا تشبه المشي، بل سقوط متكرر دون صوت.
أغلق الباب خلفه وكأنه أغلق على الدنيا كلها،
وعيناه المشتعلتان بالخذلان جالت في أرجاء الشقة كمن يفتش عن أثر حياة… فلم يجد.
لحظة واحدة…وتكسر داخله كل شيء…اختنق الهواء في صدره، وانفجرت الدموع من عينيه كأنها نار مذابة،
ثم سقط على الأرض، يصرخ من قاع قلبه، صرخة لم تكن مجرد ألم…كانت سقوط كاملاً لآخر عمود في روحه.
قفزت جنات من نومها مفزوعة،
وهرولت إليه، ثم شهقت حين رأته ممددًا على الأرض كجثة فقدت القدرة على الحراك.
انحنت عليه، قلبها ينتفض، وصاحت بدموع مفزوعة:
ياسر! فيك إيه؟ مالك؟!
حاولت رفعه…لكن جسده كان متخشبا، ثقيلاً، لا يستجيب…جلست إلى جواره، واحتضنته بقوة،
فتمسك بها كغريق يتشبث بخشبة مكسورة،
ودفن وجهه في صدرها، وانفجرت صرخاته بين ضلوعها كأن روحه تتمزق في صوت.
خرجت جنة وجودي من الغرفة وهما تنتحبان،
وتمسك كل منهما بالأخرى،صرخت جودي بوجه أمها:
في إيه يا ماما؟! بابا ماله؟!
التفتت جنات إليهما، كأنها تذكرتهما للتو.
دمعتا الطفلتين كانتا آخر ما ينقص المشهد كي يكتمل الجحيم.
قالت بجزع:خدي أختك يا جودي وروحوا لخالتكو حياة… أو روحوا العبوا مع ولاد عم عز، يلا يا حبيبتي.
أومأت جودي برأسها وسحبت شقيقتها، وأغلقت الباب خلفها.
وعادت جنات تحتضن زوجها كأنها تلم شتاته في صدرها،
وهمسة ببكاء مرير:مالك يا ياسر؟! إيه اللي حصل؟ مش كنتو لقيتو تقي؟ مش كانت بخير؟!
شدها إليه أكثر،كأن في حضنها نجاة لم يصلها بعد،
وانفجر بنحيب رجولي لا يحتمل: كسروني يا جنات…
ضيعوا تقي…وضاع معاها كل حاجة… كل حاجة!
شهقت جنات،
سقطت دموعها دفعة واحدة كأن قلبها انشق،
وهمسة بصوت مخنوق: يا مصيبتي… يا تقي…
غمغم ياسر كمن يعترف وهو يتعذب:قلبي مولع يا جنات…شربت من دمهم…بس بردو…قلبي ما هديش!
مش عارف أعمل إيه…عشان النار اللي في قلبي تهدي
ضمته جنات بقلب أم قبل أن تكون زوجة،
ربتت على ظهره بحنان، وهمسة: ربنا كبير يا حبيبي…
قادر يبرد قلوبنا…تقي اتغدر بيها، ملهيش ذنب في دنية سودا زي دي.
دفن وجهه في صدرها أكثر، كمن يحتمي من العالم كله،
وقال بصوت خافت محترق: عارف…وده اللي قاتلني يا جنات…البت راحت،روحه ماتت،وجسمها بس هو اللي عايش…ميت.
حاولت جنات النهوض،وسحبته معها،
همسة وهي تجره بعزم: قوم… قوم يا حبيبي…
ربنا ما يحرمنيش من ضهرك أبدًا…شد حيلك…
إنت اللي قولت بنفسك… شربت من دمهم… يعني جبت حقها…والجرح حامي؟! قوم يا ياسر.
نهض معها بصعوبة،
خطواته كانت ثقيلة كأن الأرض تشده،ودلفا معا إلى غرفة النوم،سقط على الفراش كمن يسقط في قبر،
وأغمض عينيه…لم يكن ينام،كان يهرب من وجع لا يطاق.
وقفت جنات إلى جواره، تنظر إليه ودموعها تتساقط بلا صوت.وضعت كفها على فمها تكتم شهقتها،
رفعت عينيها إلى السقف، وغمرت كلماتها السماء برجاء خافت: ارحم برحمتك… يا رب…
…………………………………….
في منزل الهواري
دفع سلطان الهواري باب الغرفة بقوة كادت تخلعه من مفصله،
اهتزت جدران المكان كأنها ارتعدت من زئيره القادم.
قفزت حياة من مكانها بذعر،واندست خلف الخزانة كطفلة مذنبة،جسدها يرتعش، ونبضها يسبق أنفاسها.
صاحت بانهيار، وهي تهز رأسها كمن يتوسل الحياة ذاتها:
والله العظيم مكنش قصدي كل ده… والله ما كان قصدي!
لكن صوته اندلع كالصاعقة،عيناه تشتعلان نارًا… خليطٌ مسموم من الغضب والقهر والخذلان: قصرت في إيه؟!
إحنا قصرنا في إيه؟!فين اللي ناقصكوا؟! فين؟!!
إزاي تمشوا من دماغكم؟!إزاي تسلموا نفسكم لولاد الكلاب؟!يدوسوا علينا بجزمتهم…ويكسرونا !
تقلصت حياة في مكانها، التصقت بالحائط كأنها تبحث عن مخرج لا وجود له،وانهارت باكية، تهتف برجاء مشقوق: إحنا غلطنا… بس والله ما كنا نعرف… ما كنا نعرف!!
اندفع نحوها وسحبها من ذراعها بعنف، يده تقبض كمن يخنق وجعه،صوته خرج ممزقا، لكن مكبوتًا كأن كل شيء بداخله على حافة الانفجار:واديكوا عرفتوا… ودفعتوا تمن معرفتكم غالي… غالي أوي يا حياة…
أومأت برأسها بانهيار، شهقاتها تعلو، وأعصابها تنهار:
أيوه! كنا هنموت! عشينا رعب محدش عاشه! كفايه يا سلطان… أبوس إيدك… ارحمنا…
دفعها بقسوة فتعثرت وسقطت على الحائط،
وكاد جسدها ينهار…لكنه أمسكها قبل السقوط،
وبعاصفة لا تحتمل…زأر بصوت خلخل السقف: مرحمتوناش ليه؟! رميتوا نفسكم في قلب النار ليه؟!
إحنا خناكو؟! إحنا سبنا ضهركو؟!ولا إحنا اللي مقصرين؟!!
ثم انتفض…وأفلتها من يده،وسقطت منه كدمية منكسرة،
نظر إليها بعين مشتعلة،وانفجرت الكلمات من فمه كقسم قاتل:من دلوقتي… رجلك متعتبش باب البيت!
بدل ما أقسم برب العزة… هدفنك بالحيا!
فاهمة؟!
هزت رأسها برعب، شفتاها ترتجفان: حاضر… حاضر…
استدار مغادرًا، لكنها همسة بصوت متردد، متشظ بالحزن:
ضي…ضي مكنتش عايزه تروح…إحنا اللي غصبنا عليها…
وهي كانت ماشية… لما حصل اللي حصل…
توقف لحظة،رمقها من فوق منكبه،
وصوته خرج خافت… مبحوح… مكسور: مش كفاية.
وخرج…
أغلق الباب بعنف كأنما أغلق معها باب رحم لم يعد مأوى.
سقطت حياة على الأرض، تنهار كليا، صوت شهقاتها المخنوقة يتردد في الجدران…
كأن الحزن نفسه كان ينوح على تلك التي لم تعرف كيف تحمي قلب أختها.
……………………………………….
شقة سلطان الهواري
أسندت ضي جبهتها المرتجفة إلى باب الشقة من الداخل، وضغطت أذنها عليه كمن يبحث عن صوت أمان وسط ضجيج الذنب. شهقاتها المتقطعة كانت تختلط بأنفاسها المرتعشة، وجسدها النحيل يتهالك شيئًا فشيئًا، كأنها أُفرغت من الروح.
عضت شفتها السفلى، وقبضت على معدتها التي اشتعلت بالألم، كأن التوتر يعتصر أحشاءها بقسوة.
وفجأة… دوى وقع أقدام خلف الباب.
شهقت ضي بعنف، وجحظت عيناها كمن رأى شبحا في وضح النهار، وتراجعت خطوتين إلى الوراء. وما إن فتح الباب وظهر سلطان بعينيه المتقدتين، حتى صرخت كطفلة مذعورة وركضت إلى الداخل.
لكنها لم تر السجادة الملتوية، فتعثرت وسقطت أرضا بقوة، ارتطم جسدها بخشونة بالأرض، وانطلقت منها شهقة ألم مكتومة كأنها طعنت دون صوت.
تحرك سلطان نحوها، وصاح بصوت مخنوق: حاسبي!!
انحنى بجوارها ، ورفعها برفق تتخلله نيران الغضب والخوف. كانت بين ذراعيه كزهرة ذابلة في عاصفة. تمسكت بقميصه بأنامل مرتعشة، وصرخت ببكاء مختنق:
أنا آسفة يا سلطان… والله العظيم آسفة!
احتواها للحظة، ثم وضعها على الأريكة بهدوء مصطنع، ونهض يحاول لجم العاصفة داخله. مدت يدها تمسك بكفه، تتوسل بنشيج موجوع: أرجوك… سامحني، مش هزعلك تاني، ولا هطلب حاجة تاني، والله العظيم بس سامحني المرة دي!
لكنه سحب يده فجأة، وصاح بانكسار أكبر من الغضب:
بس إيه؟! بعد إيه؟! انتي متخيلة كنت هبقى إيه لو حصلك حاجة؟! فاهمة؟!
ركع أمامها، تمسك بذراعيها كمن يتعلق بحافة نجاة، وصاح بعينين يتوهج فيهما الدمع:إزاي تكسرِي وعدك معايا؟! وعدتيني تاخدي بالك من نفسك… وأنا؟! أنا عشانك دخلت النار برجليا! روحي كانت في رقبتك، وضيعتيها!
صرخت ضي بنحيب حاد، وألقت نفسها على صدره:
آسفة… آسفة يا حبيبي… مش هكررها… عمرها ما هتحصل تاني!
في لحظة انفعال، قبض على خصرها وجذبها إليه، أمسك بشعرها بقوه ورفع وجهها الغارق في الدموع وصرخ :
إنتي لعنة… نقطة ضعفي اللي مش عارف أهرب منها.
لكن صوته خفت فجأة…عندما شحب وجه ضي، اتسعت عيناها، ووضعت يدها على بطنها، ثم تأوهت من ألم اعتصر جسدها : آآه…
شهقت وانطلقت راكضة نحو الحمام تضع يدها على فمها، ثم انبعث صوت تقيؤ حاد من الداخل.
تجمد سلطان في مكانه، كأن بردا جليدي اجتاح قلبه. اقترب من الباب، وطرقه بعنف : ضي… ضي إنتي كويسة؟
لم تأت سوى أصوات تقيؤ ونشيج خافت.
فتح الباب بهدوء، فوجدها جاثية أرضا، منهكة، شاحبة، وعيناها دامعتان. جثا أمامها وضمها إلى صدره بقوة، وهمس بنبرة مكسورة: بس … خلاص يا ضي… تعالي قومي.
رفعت عينيها، همسة بصوت واهن:ماكنتش عايزة أزعلك… والله ما كنت أعرف اللي هيحصل.
ضمها أكثر، قبل رأسها، وقال بوجع:حرام عليكي… أنا قلبي مات من الخوف والرعب اللي عشته.
ساد بينهما صمت مشحون… لم يكن فراغ، بل هدنة مؤقتة، صرخة حب مكبوتة تحت رماد الانهيار.
ارتجفت بين ذراعيه كعصفور مبتل، تنكمش من الألم والإرهاق. كان ينظر إليها بعينين غارقتين في الذنب والخوف، كأن كلماته كانت أشد وطأة من كل ما حدث.
رفعها من الأرض، حملها إلى الحوض، غسل وجهها بالماء البارد، جففه بمنشفة قطنية، ثم قبل جبينها قبلة اعتذار. حملها من جديد، وسار بها إلى غرفة النوم كمن يحمل قلبه بيديه.
مددها فوق السرير، جلس جوارها، وأعطاه ظهره وهمس:
ليه زعلي هين عندك؟ أنا بفكر في كل كلمة قبل ما أقولها، عشان ما تجرحكيش… حتى من غير قصد.
هزّت رأسها بالنفي، والدموع تغمر وجهها: لا، والله ما كان هين… أنا اللي غلطانة، ومشيت ورا كلامهم من غير عقل.
نظر لها واقترب منها أكثر، وأجلسها بين ذراعيه، احتضنها كأنها كل عالمه:مش قادر أتخيل لو حصلك حاجة… أنا قلبي اتحرق، وعدت عليا ساعات وأنا مش عارف انتي فين، ولا حصلك إيه.
أجهشت بالبكاء، دفنت وجهها في عنقه:مش هزعلك تاني… والله ما هزعلك، إنت أغلى حاجة في حياتي. لما بتقسى عليا، الدنيا بتسود في عيني.
شدها إليه، وغطاها بالبطانية، ثم تمدد بجوارها، يحتضنها بكل دفء قلبه. أغمض عينيه كأنّه يصلي صمتا أن تهدأ.
همس لها: أنا يمكن بعرفش أطبطب، بس بحبك… وعمري ما عرفت أكرهك. إنتي بتحركي كل حاجة جوايا، حتى اللي مات… بيرجع يحيا لما بشوفك.
رفعت رأسها، مسحت دموعها، همسة: يعني سامحتني؟
ابتسم ابتسامة باهتة، قبل أطراف أناملها، وقال: قلبي سامحك قبل ما تغلطي… بس عقلي؟ لسه… انتي لعبتي بالنار، وحرقتي قلبي.
زاد نحيبها، وتمسكت به أكثر: عشان خاطري سامحني بعقلك كمان… أنا مش هسيب حضنك أبدًا. ده مكاني، ومش هخرج منه إلا للموت.
ضمها إليه أكثر، سكنت أنفاسها في حضنه، وهدأ كل شيء.
لم تعد هناك نار… بل هدنة دافئة، تخبره أنه ما زال حيا… لأنها ما زالت هنا.
…………………………………………..
في صباح اليوم التالي…
استيقظ سلطان على صوت خافت يتسلل من خلف الستائر، خيوط الشمس تداعب ملامح ضي النائمة بين ذراعيه، وجفناها لا يزالان مثقلين ببقايا بكاء الليلة الماضية.
تأملها لحظة، وكأن العالم اختصر في هذا الوجه الصغير المسالم. مد يده، مرر أنامله على خصلات شعرها برفق، ثم طبع قبلة خفيفة على جبينها، أقرب للرجاء منه للحب.
ونهض عن السرير بتأن، خائفا أن يوقظها أو يوقظ ذلك الهدوء المؤقت الذي كاد أن يشفى ليله.
ارتدى ملابسه بصمت، تنفس بعمق، وخرج من الغرفة بخطوات ثابتة، كأن شيئا ما بداخله قد حسم.
وحين نزل الدرج إلى الدور الثالث، وقبل أن يطرق باب الشقة، سمع الصوت العميق القوي الذي لا يخطئه:
تعال أنا هنا يا سلطان… انا كنت مستنيك !!
توقف سلطان للحظة. استدار بهدوء، ودخل شقة الهواري الكبير. كان المجلس واسعا، مهيبا كما عهد دائمًا، وجده يجلس فيه بكامل وقاره، عصاه إلى جانبه، وعيونه ثابتة صارمة لا تهتز.
وقف سلطان أمامه، كتفه مشدود، وصدره مضطرب:
خيرر يا جدي ..أأمر، يا هواري.
رفع الهواري الكبير عينيه نحوه، وقال بجملة حاسمة لا تحمل نقاشا، وكأنها حكم صدر من فوق عرش لا يرد:إنت لازم تتجوز تقي.
كأن الكلمات خرجت من فم القدر نفسه، فقطعت الصمت، وجلدت السكون بسوط مباغت.
وفي ذات اللحظة…كانت ضي قد وصلت إلى نهاية الدرج، توقفت أمام الشقة، تريد فقط أن تودعه، أن تبتسم له، أن تبدأ صباحهما بكلمة دافئة…لكنها… سمعت.
“لازم تتجوز تقي.”
توقفت أنفاسها.
اتسعت عيناها، وجف حلقها، وتجمدت قدمها فوق البلاط البارد.ارتجف بداخلها شيء هش، شيء بالكاد بدأ يتعافى من طعنات الأمس.
نظرت إلى ظهره، تنتظر… تنتظر أن يعترض، أن يرفض، أن يرد الكلمة إلى فم قائلها….لكن سلطان… صمت.
واقفٌ كما هو، ملامحه جامده كصخر ، وصدره صامت، كأن الصدمة ليست جديدة عليه، وكأنه… وافق، أو ربما كان يعلم …
رفت رموش ضي، وارتجف قلبها بعنف.
شهقة صغيرة أفلتت من صدرها، شهقة من لم تستطع أن تمنع الانكسار.
استدار سلطان بسرعة، التقت عيناه بعينيها، مصدومة… مكسورة… تنزف دون دم وغمغم بصوت حاد : ضي…
نظرت إليه بعيون يملؤها الذهول والخذلان والذعر:
يعني إيه… لازم تتجوز تقي؟!
لكنها كانت قد بدأت تتراجع.
خطوة، ثم أخرى… كأن الأرض انكمشت تحت قدميها.
ثم اتسعت المسافة… ليس فقط بين الأجساد، بل بين القلوب.
المسافة التي قد لا يجبرها اعتذار، ولا تداويها نية حسنة.
باااارت طويل اهوا ياسكاكر عاوزه اشوف التفاعل بالفوت والكومنتات حقيقي رغم تعبي مقدرتش ازعلكو اتمني التفاعل يتظبط
ساحره القلم ساره احمد 🖋️
❤️❤️❤️
😘😘🥰🥰🥰🥰
في قلبي ابداع ❤️🥰🥰🥰😘