نار وهدنه

ناار وهدنه (الفصل الرابع وعشرون)

ناار وهدنه (الفصل الرابع وعشرون)

الفصل ٢٤
لم يسبق لامرأةٍ أن أوصلته إلى هذا الحد…
إلى أن يختنق قلبه قبل أن يختنق عنقه.
لم يكن يعرف من قبلها طعم الانكسار بين يدي أنثى.
لم يعرف امرأةً تنزع عنه سلاحه، وتغلق عليه بوابات مملكته، ثم تتوغل في روحه كأنها السلطانة وهو الأسير.

خلعت عنه كل أقنعته…
وأبقت وجهه عاريًا أمام نفسه.
ذاق معها النار…
ذاب فيها حتى الاحتراق.

ورغم كل ذلك… لم يكرهها.
بل وقف أمامها، محطمًا، كمن يمنح آخر ما تبقّى فيه من كرامة ليقول:
“كوني واثقة يا سيدتي…
لو احبك بعدي رجالٌ كثيرون،
لو كتبون لكي رسائل الشوق،
ولو اغرقونك بوعود العشق.
لكنّكِ…
لن تجدي رجلاً آخر،
يحبك بهذا الصدق…
بهذا الإيمان…
ويعشقك بهذا الانكسار الجميل.

لن تجدي قلبي أبدًا،
لا في الغرب…
ولا في الشرق.”

ارتعشت روجيدا بكل جسدها، وهزت رأسها نفيا صارخا وهي تنتحب بخوف:

Rojda: Leave me alone, you psycho! What are you doing?
روجيدا: اتركني أيها المختل! ماذا تفعل؟

في الخارج، كان إبراهيم قد بدأ يشعر بالقلق، نظر إلى ساعته متسائلًا: لقد تأخرت… ثم تحرك سريعا باتجاه المرحاض.
وما إن اقترب، حتى تجمد في مكانه… كان يسمع صوت نحيب روجيدا المكتوم، يتخلله صوت حاد لرجل يصرخ بغضب:

Stranger: You told me you weren’t going to look for that Egyptian contestant.
الغريب: أنت أخبرتني أنك لن تبحثي عن ذلك المتسابق المصري!

صاحت روجيدا بصوت يائس، والدموع تنهمر من عينيها:

Rojda: Yes, I told you when I lost hope in meeting him. But I did not lie to you, and I told you about my love for him from the first day. But you are crazy and sick!
روجيدا: نعم، قلت لك ذلك عندما فقدت الأمل في لقائه، لكنني لم أكذب عليك. أخبرتك منذ اليوم الأول أنني أحبه… لكنك مجنون ومريض!

وهنا لم يستطع إبراهيم البقاء لحظة أخرى، فاندفع إلى داخل المرحاض مثل العاصفة.
دفع ذلك الشاب بقوة وسحب روجيدا بسرعة إلى صدره، لكن السلاح جرح طرف عنقها أثناء الجذب.

صرخت روجيدا بألم، ثم سقطت على الأرض، بينما جحظت عينا الشاب، وركض هاربا وسط الفوضى.

ركع إبراهيم إلى جانبها، وقبض على الجرح بكفه المرتجف، ثم نزع قميصه ووضعه على الجرح وهتف بصوت ملهوف:

Ibrahim: Calm down, don’t be afraid. It’s just a surface cut.
إبراهيم: اهدئي، لا تخافي… إنه مجرد جرح سطحي.

وضعت روجيدا يدها المرتعشة فوق الجرح، ورفعها إبراهيم بين ذراعيه، ثم ركض بها نحو الأعلى، يصرخ بأعلى صوته: اطلعي علي الشط بسرعه لازم تروح المستشفى بسرعه

ساد المكان حالة من الهرج والذهول، تتصاعد معها الأصوات المرتبكة، وأوامر القبطان، وهمسات الرعب من الضيوف.
وفي لحظات، كان اليخت يشق طريقه نحو الشاطئ بأقصى سرعة…
بينما كانت روجيدا تنزف في حضن إبراهيم، والدماء الساخنة تنسدل على قميصه، كأنها تخط على صدره حكاية حب لا تنسى.

………………………………………
في شقه ياسر الهواري

استيقظت جنات من نومها فجأة، وكأن قلبها انتفض قبل جسدها، مررت يدها على الفراش البارد بجوارها…

نهضت بهلع، ونظرت حولها بدهشة مشوبة بالقلق، ثم نادت بصوت خافت :ياسر؟

لم يأتها رد.
تقدمت بخطوات حذرة في سكون الصباح، حتى وقفت أمام باب المرحاض…
ألصقت أذنها به، وابتلعت لعابها بصعوبة، حين تسللت إلى سمعها أنات نحيب مكتوم، كأن أحدهم يختنق بداخله.

رمشت بعينيها في ذهول: ياسر؟ بيعيط؟!
وضعت يدها على فمها تكتم شهقتها، بينما دموعها تنساب على وجنتيها في صمت خاشع، وهمسة: ارحم برحمتك يا رب…

تنفست بعمق، ومسحت دموعها بكف مرتجف، وفتحت الباب بهدوء، فوجدته جالسا على طرف البانيو، جسده يهتز بانهيار، ووجهه مبلل بدموع رجلٍ تكسرت بداخله الجبال.

اقتربت منه دون صوت، ثم احتضنته بقوة…
كأنها تقول له دون كلمات: ابكي بداخلي، دع قلبك يتكئ على صدري.
تمسك بها بعنف، كمن يغرق في حضن النجاة، وغمغم من بين شهقاته: هموووت بحسرتي يا جنات…

شهقت ووضعت يدها على فمه فورًا وهي تصرخ بصوت مرتعش: بس تف من بقك يا خويا! بعد الشر عنك… إحنا من غيرك مالناش لزمه فالدنيا!

نظر إليها بعينين دامعتين تنضحان قهرًا، وقال بصوت مبحوح: وأنا إيه لزمتي فالدنيا؟ واختي يحصل فيها كده، وأنا معرفتش أحميها؟

ربتت على ظهره برفق، وهمسة بحزن ثابت: مقدر ومكتوب يا ياسر… وربنا أرحم الراحمين. كل وجع وقهر ليه ميعاد وهيعوضها خير، وهتشوف… بس استهدى بالله.

نظر إليها والرجفة تسري على شفتيه، وهمس بصوت ضائع: كلامك بلسم شافي يا بت عمي… قوليلي أعمل إيه؟ أنا تايه، والله العظيم تايه…

وضعت كفها على صدره وهزته برفق: قوم يا خويا… انفض الحزن ده، اتوضى، صلي، وربك هو اللي يطبطب.
إنت مكانك دلوقتي في ضهر أختك… وسند لأبوك.
مش تقعد تعيط في الحمام! أمال تقي تعمل إيه؟

أومأ برأسه، ونهض ببطء، لكن بعزم، وقال بصوت أكثر ثباتا: عندك حق… أختي اتغدر بيها، وده ماينقص منها حاجه…
أنا لازم أقف في ضهرها… وأسندها مهما كان التمن.

ابتسمت من بين دموعها، وربتت على ظهره: يسلم فمك يا خويا… يلا، احلق دقنك، خدلك دش، وأنا هعملك لقمه تاكلها…بقالك يومين مدقتش الزاد…

نظر لها وهز رأسه بيأس: مليش نفس يا جنات…

قابلت يأسه بإصرار الأم، وهزت رأسها: لا، لازم تاكل… عشان خاطري يا ياسر.

ضمها إلى صدره بحنان، وهمس: خاطرك أغلى من روحي… يا بت الأصول.

مررت يدها على ظهره، وهمسة بصوت مغمور بالأمل: كله بأمر الله… هيتصلح، وبكره… تروق وتحلى يا ابن عمي.
…………………………..
في منزل الهواري

في قلب المنزل العتيق، حيث سكن الصمت والحزن في الزوايا وارتسمت الصرامة على وجوه الرجال، دلف سلطان إلى شقة جده، فوجد عمه خليفة، واباه عاشور والجد الكبير الهواري بانتظاره، كأنهم مجلس قضاء أعد لمحاكمته.

تلفت سلطان بنظرةٍ مستفهمة، ثم غمغم دون أن يرفع عينيه عنهم: خير يا جدي؟

أشار له الهواري بيده الممسكة بالعكاز، وصوته يعلو بثقل الزمن: خير يا سلطان… تعالى هنا، اقعد جنبي.

اقترب سلطان وجلس إلى جواره، وكأن بينهما ماض لم يغلق بعد، قال الهواري بنبرة صارمة: هتكتب كتابك ع بت عمك بكره يا سلطان.

نظر عاشور مباشرة في عينيه وهتف: مراتك وافقت؟ ولا لسه؟

أطرق سلطان برأسه، ثم هزه بالنفي وقال بمرارة: لأ… وعمرها ما هتوافق…. هي ما تعرفش اللي حصل لـ تقي… وضي كمان تعبانة، وأي حزن أو صدمة ممكن يموتها…
أنا بحاول أهديها.

نهض من مجلسه، وألقى عليهم بنظرة جريحة وهتف بانفعال مكبوت: أنا اتحملت ظلمكم أول وتاني… بس هي مش هتتحمل… البت ضعيفه… مش هتستحمل هتنهار، وانتو عايزين تحملوها نار اللي حصل.

وقف الهواري غاضبا، وضرب الأرض بعكازه بقوة ارتجت معها أرضية الغرفة، وهدر: ظلم؟ ظلمناك في إيه يا سلطان؟! ده إنت الكبير… الكلمة منك تمشي علي الكل!

نظر له سلطان بعينين يلمع فيهما وجع سنين، وقال بصوت متهدج:ظلمتني لما دخلتني في سكة السلاح والحرام… لما شيلتني شيلة مش شيلتي… كنت صغير، وكنت شايفك قدوة… صدقتك، ومشيت وراك.

صاح عاشور وقد نفد صبره: أنا اللي كبرتك!

رد سلطان بحدة وقهر : مش عايز اكون كبير ! أنا كرهت نفسي…حياتي كلها مقلوبة…بقف علي باب الفرح ومبقدرش أدخل…فرحتي دايما ناقصة… في قلبي سكينة مغروزة، بتفكرني إن نهايتي سودة… ومفيش منها مهرب!

تقدم عاشور بخطوة، وقال بمرارة: يعني إيه يا سلطان؟ بت عمك اتبهدلت واتداست بالرجلين… والسبب مراتك!
اللي عملوا فيها كده كانوا يقصدوا مراتك!

تجمدت ملامح سلطان، واشتعلت عيناه بدهشة وغضب، وهدر بانفعال:يعني لو اللي حصل ده كان جرى لمراتي… كان هيبقى عادي؟عشان مش من لحمكم ودمكم؟
هي مراتي متفرقش معاكم كده؟!

تدخل خليفة أخيرًا، بصوت هادئ لكنه ثابت:لا يا سلطان… مراتك تخصنا، زي أي بت من بناتنا…
واللي حصل حصل…ده مكتوب ومقدر…
بس لو إنت مش قادر تكمل الجوازة…

قاطعه سلطان بسرعة، وصوته يعلو قليلًا: أنا ماقلتش كده…أنا هتجوز تقي، بس بشرطين!

رفع الهواري حاجبه بدهشة، وغمغم بنزق: بتتشرط عشان تستر ع بت عمك؟يا ريتني كنت مت قبل ما اسمع الكلام ده!

اقترب سلطان وجثا أمام جده، وعيناه تشتعل بدمع محبوس، وقال بصوت متحشرج : بعد الشر عنك يا جدي…ولا عاش ولا كان اللي يشرط عليك…
بس لو فعلاً بتحبني، ولو أنا غالي عندك…
ريحني مرة في عمري.

أطرق الهواري برأسه، ثم قال بصوت خافت: عايز إيه يا سلطان؟

نهض سلطان واقفا، وقال بحسم لا رجعة فيه:اولا أنا هتجوز تقي، بس فترة… وبعد كده أطلقها، وهي تتجوز اللي يحبها ويقدرها.
ثانيا أنا هبطل تجارة السلاح… ومش هدخل قرش حرام تاني، لا ليكوا ولا لغيركم.

وثب عاشور والهواري معا، وصاح الاثنان: إنت بتلو دراعنا يا سلطان؟!

هز سلطان رأسه نافيا، وقال بصوت عميق : لا طبعا يا جدي…أنا أصلاً كنت ناوي أبطلها من قبل كل ده…
بس ده القرار الأخير…كفاية بقى…بصوا لحياتنا!
ولا واحد فينا مرتاح… الحرام بينخر في عمرنا زي السوس.

أنهى كلماته بخطوات ثابتة، وخرج، مغلق الباب خلفه…
سكن المجلس، وجلست العيون تفتش عن صواب ضاع في زحام الخطايا.

جلس الهواري وقد أسند رأسه على عصاه، وقال بصوت منهك: سلطان عنده حق… أول مرة أحس إن عيل من أحفادي…ضربني قلم… فوقني.

نظر له عاشور بصمت، بينما نهض خليفة وقال بنبرة تفيض حكمة: ياما قلت… الحرام هيجي ياخد الحلال في وشه…ومحدش سمعني.ودي آخر فرصة…اسمعوا كلام سلطان،وسيبو الواد يشم نفسه…كفاية دم… وكفاية ندم.

أنها كلماته وتحرك الي الخارج ،وأغلق الباب خلفه بعنف لا يقصد به سوى وجعه
هبط خليفة الدرج بخطى ثقيلة، تحمل وطأة عمر بأكمله… ، ثم اتجه مباشرة إلى شقة عايدة، وكأن كل الطرق في قلبه تؤدي الآن إلى ابنته تقي.

فتح الباب بعجلة وهتف بصوت أجش: تقى فين يا حجة؟

نهضت عايدة من مجلسها، وقد ارتبكت ملامحها بين القلق والدهشة:جوه يا حج… بس مش عارفة نايمة ولا صاحية.

أومأ برأسه دون أن يعلق، واتجه نحو غرفة تقي، يجر أنفاسه كمن يقتحم وجعه.

فتح الباب بهدوء وأغلقه خلفه، فوجد حياة تجلس إلى جوار تقي، تضم رأسها في حجرها، تهمس لها بكلمات غير مسموعة، وتربت على شعرها بحنان الأمهات.

اقترب خليفة من الفراش، جلس على طرفه، وغمغم بصوت مكسور: إزيك النهارده يا بنتي؟

رفعت تقى عينيها إليه… نظرة حزينة، مشوشة، لا تقاوم ولا تفصح.
اقترب منها وفتح ذراعيه، فضمها إليه بقوة، كأنما يحتضن جرحا لا يريد له أن ينزف أكثر.

نهضت حياة وقالت برقة: هعملك فنجان قهوة يا عمي…

أومأ لها دون أن يلتفت، وخرجت بهدوء تاركة خلفها الصمت المنكسر يملأ الغرفة.

ربت خليفة على ظهر تقي بحنو أبوي، وقال:شدي حيلك يا بنتي… أنا عارف اللي حصل يكسر الضهر، بس إنتي مالكش ذنب، يا روح أبوكي.
واللي مد إيده عليكي… أدفن، ودمه في رقبتنا… أخوكي غسل إيده بدمه خلاص.

ظلت تقي صامتة، نظرتها غارقة في حزن لا يحتمل، فضمها خليفة أكثر، ثم همس بجوار أذنها: بكره… كتب كتابك علي سلطان يا تقى.

شهقت تقى من بين ضلوعها، وكتمت نفسها في صدره، ثم انفجرت صرخة ممزقة خرجت من جوفها كأنها نزعت من قلبها، صرخة اخترقت الجدران وأشعلت الرعب في السكون.

فتح باب الغرفة فجأة، ودخل ياسر مسرعًا، وقد حضر للتو، وعيناه تبحثان عن تفسير: في إيه؟ مالها بتصرخ كده يا با؟!

تمتم خليفة بنبرة مبللة بالدمع وهو يهدهدها: اهدى يا ابني… مفيش حاجه، سيبها تطلع اللي في قلبها.

اقترب ياسر منها، ومد ذراعيه، فسحبها من حضن أبيه بلطف، وضمها لصدره، وقال بصوت دافئ، فيه كل الحنية والحنان:اهدي يا بِت قلبي… إنتي ست البنات يا تقى، وهتفضلي تاج راسي ورأس الكل يا قلبي…

شهقت باكية، وتمسكت بقميصه، كأنها تتشبث بالأمان الوحيد المتبقي…مسح على شعرها برقة وهمس: وحياتك… خدتلك حقك تلات ومتلت…قصاد كل دمعة نزلت منك…راح راجل يا بِت أبوي، مسحناهم من علي وش الأرض.

نهض خليفة وكأن مهمته انتهت، ثم قال بنبرة حاسمة:
بكره كتب كتاب أختك علي سلطان… حضر نفسك.

نظر له ياسر بدهشة، وكأن قلبه لم يستوعب الصدمة، وتمتم: إزاي؟

أومأ خليفة برأسه، ونظر إلى تقي نظرة تحمل العزم والرضا، وقال: ده اللي حصل.سلطان طلبها… وأنا، وجدك، وعمك… كلنا موافقين.

دار خليفة مغادرا الغرفة، يردد كلمات ثقيلة يعلوها الحسرة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…

ظلت تقي ساكنة في حضن أخيها، تنشج أنفاسها بصوت متهدج، فربت ياسر على رأسها وقال: سلطان راجل، يا تقى…ومحدش هيصونك زيه…أنا عارف إنك بتحبي راجح… بس…

شهقت تقي بنحيب حاد، وهزت رأسها بالنفي بحسره ، كأنما لا تريد لاسم راجح أن يذكر.

ربت ياسر على شعرها وقال بحزن صادق: راجح بيحبك بس مش هيقدر يتحمل اللي حصل…وإنتي وهو هتعيشوا في عذاب…سلطان… أنسب ليكي دلوقتي من أي حد…
اسمعي مني، يا بِت أبوي… أنا عايز مصلحتك.

أغمضت تقي عينيها، وسكنت… لكن الحزن ثقيل.
ثقيل كالموت، يسكن صدرها، يغلف قلبها، ولا يزال… لا يزال في العين دمعة، وفي القلب جرح مفتوح.

…………………………………….
في شقة سلطان الهواري

دلف سلطان إلى الشقة التي كانت تنبض يوما بروحها، فوجدها خاوية كصدره… خطواته المثقلة قادته نحو باب غرفة النوم.

تردد لحظة، ثم مد يده يدق الباب بخفة، وصوته يخرج مخنوق: ضي…

في الداخل، كانت ضي تتكور على نفسها فوق الفراش، ودموعها بللت الوسادة حتى غرقت. مسحت وجهها بكف مرتعشة، ونهضت بخدر، ثم فتحت الباب.

ظهرت له شاحبة، كأن الحياة نزحت من وجنتيها، وعيونها تورمت كأنها بكت دهرا.

نظر لها سلطان، وبلع لعابه بتنهيدة ثقيلة من قلبه، ثم قال بصوت هامس متوجع : ضي…

لم تحتمل رؤيته، ولا احتملت الجفاء بينهما… اقتربت منه وارتمت في حضنه بقوة، ودموعها تتسابق على كتفه وهمسة: سلطان… ليه؟ ليه سبتني كل ده؟

تجمد جسده، كأنها أحيت كل وجعه، لكنه مجبر يكمل طريقه الي النهايه .. ثم تنحنح وهمس بصوت متحشرج: ضي… كتب الكتاب بكره.

شهقت شهقة كأن أحدهم طعنها، تراجعت للوراء بخوف ورعب، حتى اصطدم ظهرها بالحائط.
صاحت بصوت يرتجف : بكره؟!

أومأ برأسه، وصوته ينزف ألما: آه… بس زي ما قلتلك… فترة وهطلقها.

هزت رأسها بالنفي بعنف، وصرخت بنشيج يخلع القلب:
طيب… هتتجوزها ليه؟! يعني إنت بتعاقبني؟ بتنتقم منى ؟ ليه يا سلطان؟!

رفع صوته بقهر انفجر منه دفعة واحدة:مفيش عقاب يساوي الغلطة اللي عملتيها يا ضي!

صاحت به بهستيريا وهي ترتعش: لاااا… اللي إنت بتعمله ده أكبر عقاب! حرام عليك يا سلطان… أنا بحبك! عاقبني بأي حاجة… بس ما تكونش لغيري… أنا مش هقدر أعيش وأنت في حضن واحدة تانية!

أغمض عينيه بقهر، وكأن حروفها تسلخه حيا، ثم همس بصوت مخنوق: ولا أنا كنت هقدر أتحمل لو حصلك حاجه…بس لازم تتعلمي، يا ضي…تفكري ألف مرة قبل أي خطوة…لولا تهورك، ما كانش كل ده حصل.

خفضت ضي رأسها، وكتمت شهقتها بكفها، تنزف بصمت ونحيب لا يحتمل.
تراجع سلطان خطوة للوراء، كأن كل حائط بينه وبينها ارتفع فجأة، ثم استدار وخرج من الشقة دون أن يلتفت.

وقف أمام الباب، يتنفس بصعوبة، وصدره يضيق كأن الهواء لا يسع غضبه ولا حزنه.

أخرج هاتفه، وضغط رقم مألوف… رفع الهاتف إلى أذنه، فسمع الجملة التي فاقمت وحدته : الهاتف الذي طلبته غير متاح…

أغمض عينيه، وكأن الحياة كلها صرخت فيه..

همس لنفسه بقهر: اتأخرت… أوي.

فتح الرسائل، كتب كلمات قصيرة كأنها طعنة في قلبه، أرسلها ثم أطفأ الهاتف، ووضعه في جيبه.

نزل الدرج بخطوات غاضبة، كأن كل سلمة تحت قدميه تحمل لعنة لا مفر منها.

…………………………………
اليوم التالي

كانت الحارة تضج بالحركة… رجال يحملون مقاعد وأجهزة صوت، وأطفال يركضون بين الفوانيس والزينة، ونسوة يقمن بتوزيع الصحون والمشروبات…
الكل منشغل، والدهشة تطغى على العيون.

اقتربت عايدة بخطى مترددة من سلطان ، الذي جلس على مقعد خشبي  في مدخل البيت، يطالع الأرض كأنها تخفي سرّا لا يريد البوح به…
كان يسند خده إلى كفه، غارقا في شروده، والحزن يتكئ على ملامحه الثقيلة.

جلست عايدة أمامه، وضمت يدها إلى صدرها، ثم قالت بصوت خافت فيه رجاء:ما تفهمني يا ابني… إيه اللي بيحصل ده؟

رفع سلطان عينيه نحوها بجمود، ثم تنحنح وقال ببرود متعمد: هتجوز… مالها تقي؟ بت عمي وهتصوني. مش أحسن من اللي بتمشي على كيفها ومطلعة ميتين أهلي من يوم ما دخلت بيها؟

رفعت عايدة حاجبها بدهشة وهتفت: بس يا سلطان… إنت بتحب ضي! وعمرك ما شفت غيرها!

ضحك ضحكة ساخرة مغموسة بالمرارة، ثم أردف:
والحب طلع على مفيش…خليني أتجوز بعقلي أحسن!

نهض فجأة، كأن لا طاقة له بالبقاء في هذا الحوار، وهتف: هروح أشوف الرجالة والتحضيرات!

وانصرف بخطوات ثقيلة، يده تعبث بجيبه والهم يثقل كتفيه.

اقتربت بطه من عايدة، وهي تنظر في ظهر سلطان بحسره وغمغمت بدموع :الموضوع ده في إنى يا أختي؟

أشارت لها عايده بيدها كأنها تلفظ الحيرة من صدرها:
علمي علمك…

نظرت بطه حولها، تبحث عن شيء بعينين فضوليتين ثم قالت: البت حياة فين؟

ردت عايدة وهي تشير برأسها لأعلى: طلعت لي ضي… البت راحت واحدة وجات واحدة من امبارح!

تنهدت عايده وهزت رأسها بأسى: كتر خيرها، دي لسه عروسة… يقوم يتجوز عليها؟

مصت بطه شفتيها وقالت: يا أختي… شي أهون من شي!
أنا قلت هيطلقها… الحمد لله، جات على قد يتجوز تاني!

نظرت لها عايدة بدهشة واستنكار وقالت: المهم البت تقي… خلصت؟

أومأت بطه برأسها وأجابت: آه، ولبست!
بس والله زعلانه عليها … اتظلمت، لا فستان فرح، ولا شقة مفروشة جديدة…
ليه السربعة دي؟

رفعت عايدة حاجبها وغمغمت بتنهيدة عميقة:والله ما عارفة يا أختي…آدي الله… وآدي حكمته.

وبقي الاثنتين تتبادلان النظرات، بينما أصوات الفرح الزائف ترتفع من خلفهما، تختلط بالمجهول الموجع الذي ينتظر الجميع في الليلة القادمة…

…………………………………….
في شقه سلطان الهواري

غامت الغرفة بسكون ثقيل، لا يكسره إلا صوت أنفاس ضي المتقطعة، جلست على طرف الفراش كمن فقد كل أسباب الاتزان..

كانت عيناها محمرتين من البكاء، متورمتين كأن الدمع قرر ألا يغادرهما يوما، وشعرها انسكب على كتفيها بلا ترتيب، كمرآة لفوضى داخلها لا تهدأ.

الغيرة كانت تنهشها كوحش جائع، تنغرس في قلبها وتضرب على كل نبض فيه، وصورة سلطان مع تقي تقسم الا تغادر مخيلتها لحظة، كأنها محفورة في جدار عقلها بقسوة لا رحمة فيها.

دفع باب الغرفة في هدوء، ودخل عمار وعلي، تتشابك نظراتهما بين الحذر والحزن، وقد أثقلتهما معرفة ما تحمله تلك الأخت الصغيرة من وجع لا يحتمل.

اقترب عمار منها أولًا، وجثا على ركبتيه أمامها، مد يده نحو ركبتها بخفة، وهمس بصوت هادئ دافئ:
اهدي يا ضي… اسمعيني بس دقيقه، طيب؟

هزت رأسها بعنف، وصرخت بانفجار ألم: مش عايزه أسمع يا عمار ! هو هيكتب كتابه ع واحدة تانية… يبقى خلاص مابقاش بيحبني! بعد ما خلاني احبه يعمل فيا كده !!

اقترب علي بخطى محسوبة، وجلس إلى جوارها على طرف الفراش، صوته أتى أكثر اتزانا، وكأنه يخشى أن ينهار ما تبقى منها:يا ضي افهمي… الجوازة دي مش زي ما انتي فاهمه، دي للمصلحة… سلطان مش بيحب تقى، وده مش جواز بجد.

رفعت وجهها إليهما، وقد امتلأت نظرتها بالخذلان، عيناها تلمعان بالدمع كأنها على وشك الانفجار: يعني علشان المصلحة يكتبها على اسمه؟! تبقى مراته؟! وأنا أبقى إيه؟! هو ده حبه؟!

خفض عمار بصره للحظة، وكأنه يستجمع ما تبقى من قوته، ثم قال بصوت منخفض يعتصره الصدق: ضي… سلطان بيعمل كده علشان يحميها ويحميكي … ليه مش شايفه ده؟!

نظرت إليه بعينين تغليان، كل كلمة تشعل نيران أكبر:
اه يعني زي ما اتجوزني ؟! زي ما كان عايز يتسندني ويحميني ويمكن يحبها برضو ؟! ليه كل مرة أنا اللي بدفع التمن؟!

ساد الصمت للحظة، ثم تنهد علي وقال بصوت حاسم لكنه هادئ: أنا كنت زمان بضيق من سلطان، وكنت فاكر إنه مينفعش ليكي … بس والله، أنا اللي ماكنتش فاهمه… دلوقتي بقيت شايف، وعارف ومتأكد إنه بيحبك، ومفيش حد هيحبك زيه.

رفعت ضي رأسها فجأة، كأنما صفعتها كلماته، نظرت له بدهشة ممزوجة بخيبة: حتى إنت يا علي؟! إنت اللي كنت دايما في صفي… حتى إنت بتدافع عنه؟!

أومأ علي برأسه، وحدق في عينيها دون مواربة: أيوه… لأني شفت الحقيقة…سلطان مش بيعمل كده وهو مرتاح، ده بيتقطع جواه، بس بيحاول يرضي الكل ويحمي الناس اللي بيحبهم… وعلى راسهم انتي، يا ضي.

شهقت ضي شهقة مبحوحة، وقد تهاوت بقايا جلدها السميك:بس أنا مش قادرة! مش قادرة أتخيل إن في بنت تانية تبقى مراته… تبقى علي اسمه غيري… مش قادرة يا علي، مش قادرة!

مد عمار يده من جديد، أمسك بكفها المرتجف، وقال بصوت خافت يحاول أن يحتوي انهيارها: ضي، افهمي… سلطان مش هيبص لتقى، ولا هيمد إيده ليها… الجوازة دي علي الورقة، وهتنتهي… بس هو… قلبه… ليكي إنتي، وبس.

سحبت يدها سريعا، كأن لمسة الحديث تحرقها، ودفنت وجهها بين كفيها، تاركة العبرات تنزل في صمت، صمت أقسى من كل صراخ.

اقترب علي أكثر، وهمس أخيرًا: وجعك على راسنا من فوق يا ضي… بس لو بتحبيه بجد، استحملي شوية… صدقيني، سلطان راجعلك، وأكتر مما تتخيلي.

خفتت الأنفاس، وسكنت الكلمات، وبقيت ضي في مكانها… تبكي، بصوت لا يسمع، ووجع لا يرى، لكنهما كانا يملآن الغرفة حتى آخر جدار فيها…

……………………………….
في المساء…

ارتجت أركان البيت الكبير بأهازيج الفرح، نحرت الذبائح، وعلت الزغاريد في السماء كأنها طيور بيضاء ترفرف بأجنحة البهجة. أُشعلت الأنوار في كل زاوية، وتلألأت المصابيح على جدران القصر كأنها نجوم صغيرة تحتفل على طريقتها. كانت الليلة تبدو كأنها خلقت للفرح وحده… ولكن خلف هذا البهاء، كان هناك ما يتسلل في الحزن ظل، ثقيل، غامض… يوشك أن يبتلع كل شيء.

في بهو المنزل ……..

اقترب ياسر من سلطان بخطوات سريعة متوترة، وانحنى وهمسة عاجلة عند أذنه: تعال معايا بسرعة.
رمقه سلطان بنظرة دهشة، لكن عيني ياسر كانتا تحملان ما يكفي من التوتر والرجاء لإقناعه بالقيام فورًا، دون سؤال.
تحرك خلفه، وقبل أن يعبر عتبة الباب،
ارتدت قدمه بعنف، بفعل صفعة!
ضربة قوية انطبعت على جانب وجهه، فتأرجح للحظ  وسمع صوتا كالسيف يشهر في وجهه: طلعت خسيس!

رفع سلطان رأسه ببط، وحرارة الضربة ما زالت تشوي بشرته.
نظر الي راجح أمامه، جسده يتشنج كمن يوشك على الانفجار، عيناه تحترقان.
صرخ راجح، صوته يمزق الهواء: انت يا سلطان! تدبحني بسكينة تلمه كده ليه؟! أنا عملتلك إيه؟!… دانت أكتر واحد عارف اللي في قلبي!

كان الصوت كافيا لتجذب كل الأنظار… تجمع الحاضرون من كل الجهات، يتهامسون، يحدقون، كأن الفرح توقف في لحظة.

استدار سلطان بحدة، وصاح نحو عز بنفاد صبر: كل واحد يشوف شغله! بتتفرجوا على إيه؟!

رد عز بسرعة وهو يدفع الناس بعيدًا : يلا يا جدعان الفرح بره مش في المدخل!

ثم أشار لأحد الفتية وهتف : عالي السماعات على الآخر يابا، ما نسمعش نفسنا!

أستدار سلطان، إلى راجح، يقاوم الحريق في عينيه، وقال بصوت متحشرج: عارفك غشيم… بس ماكنتش أعرف إنك غبي كده للدرجادي.

لكن راجح لم يعد يملك سوى الغضب، أخرج سلاحه بيد مرتجفة، شد أجزائه كأنه يشد عزمه، وهدر كالرعد: ملقتش غير تقي يا سلطان؟!

هنا، اندفع ياسر وعمار نحوه، تشبثا بذراعيه ورفعا السلاح للأعلى…وصرخ ياسر بعنف: بس يا راجح! إنت مش فاهم حاجه!

صرخ راجح كانه لا يسمع ولا يعقل: أفهم إيه؟! صاحبي وأخويا يطمع في حب عمري؟!… وهي توافق! زي أي واحده شـ—

لم يكمل كمم عمار فمه بعنف وهو يصرخ به: اخرس بقى! اخرس بدل ما تندم! روحك كلها لو دفعتها مش هتكفي تغطي الغلط اللي هتقوله!

دفعه سلطان بجسده في لحظة انفجار كاتم، وهدر بصوت كالفحيح: اطلعوا فوق!

وبلا نقاش، سحب ياسر وعمار راجح بعنف، بينما عمار يظل كاتما فمه بكل قوته، وصعودهم كأنه يجر جثة هائجة.
صعدوا درجات السلم على عجل، حتى بلغوا أول شقة فارغة، فتح ياسر الباب بعنف، ودفعا راجح إلى الداخل، تبعهما سلطان، وأُغلق الباب خلفهم…

والهواء في الخارج ما زال راكدا، مشبع بالأسئلة، والخوف، والغضب المحموم.

في الشقة…….

اندلق الصمت كجرح مفتوح…
كأن الجدران لم تعد قادرة على احتمال مزيد من الأسرار،
وكأن الهواء نفسه بات ضيقا على الغضب المحتبس.
تلاحقت الأنفاس ، وتشابكت النظرات كحد السكاكين،
إلى أن انطلقت الرصاصة الأولى…من فم راجح.

رفع سلاحه في وجه سلطان ويده قابضة عليه كأنها تمسك بثأر الكون كله وهو يقف أمامه كالبركان… ،
وعيناه تتوهجان كجمرتين تأكلان الظلام.

وصاح بصوت خرج من بين أسنانه كهدير العاصفة:  أنا حالف… اللي ياخد تقي مني، هينام في

قبره قبل ما يحلم ينام جنبها.

لم يحرك سلطان ساكنا. لم يتراجع، لم يتكلم، فقط واجه النار بعينين من حديد.
اندفع ياسر لم يتحمل المشهد، اندفع نحوهما كمن يحاول إنقاذ حياة،ووقف بينهم ،ودفع راجح بعنف، وكسر صوته   الهواء: كفاية يا راجح! متزودش الطين بلا… انت متعرفش حاجه!

التفت راجح إليه، ونظراته لا تزال تنزف…لكنها لم تكن دموعا، بل دما مشتعل ..وخرج صوته كأن حنجرته تنفث الحريق: طين؟! هو فيه أكتر من كده طين يا ياسر؟
طول الوقت بتعشمني… وتديني أمل…وفي الآخر تمد إيدك… وتخلع قلبي…وترميه في أوسخ مزبله؟!

صرخ ياسر كمن يلفظ سنوات من الوجع: اغتصبوها يا راجح…تقي…اتدبحت بالحياة!

توقف الزمان… تجمد الهواء .. وسكتت الحيطان
وحتى نبض راجح… خمد للحظة.

سقط السلاح من يده،
لكن الصوت الذي أحدثه لم يكن سقوط قطعة حديد،
بل سقوط رجل… كان يحمل العالم على كتفيه وانهار.

تراجع خطوتين…كأن الأرض تهرب من تحت قدميه،
كأن أنفاسه تتحول إلى دخان خانق، تراجع للخلف يحاول سحب أنفاسه بصعوبه وهو يسعل كأنه يلفظ قلبه من بين ضلوعه ..خرج صوته من حلق مجرح: مين؟… مـ… مين؟ وليه؟ ليه تقي؟ ليه؟ داسوا على روحي كده ليه؟

اقترب عمار، أسنده بذراع ثقيلة، وصوت مجروح:
سلطان كان مستنيك، يا راجح…حاولنا نوصلك…
كان هيكتب عليها، لحد ما ترجع.

لكن راجح لم يكن يسمع…كان يغرق…وفي لحظة، انفجر.

دفع عمار بقوة، وانقض على سلطان، قبض على ياقة قميصه،وانفجرت الكلمات من صدره كوحش مكسور:
مين؟! قولي مين؟! وامتى؟ وانتو كنتوا فيييبببن؟!

أجابه سلطان، بوجه مطفأ، وعينين كأنهما رأتا الجحيم:
في اليوم اللي كلمتك فيه…وبعتك اسكندريه تستلم الورق.

لحظة واحدة… لكنها كانت بطول الحياة.

جحظت عينا راجح، واتسع فمه كأن روحه تخرج منه بالفعل،ثم صرخ، صرخة خبطت في الجدران وكسرتها:
“دانا كنت ماشي وراهم! كنت شايفهم…لحد ما كلمتني!
وقلتلي روح اسكندريه! يعني لو مكنتش سمعت كلامك…
كنت لحقتها! كنت أنقذتها!

قبض علي عنق سلطان وانفجرت الكلمات منه كالرصاص:
رميت نفسي في النار عشانك يا صاحبي…كنت بموت كل لحظة عشان الورق يوصل…حميته بروحي…بس هنا؟
روحي انداست…اتكسرت… وانتو كنتوا فين؟!

ثم… سقط… وكان ركبتيه خانته، انفجر بالبكاء كطفل فقد في الزحام، كان يتلوا كأن العالم ضاق عليه ويصرخ : يا تقي… يا عمري…آااااه… آه يا بنت عمري… عملوا فيكي اي ولاد الكلب…

انحنى ياسر بجانبه، ضمه في حضنه، صوته يرتجف:
امسك نفسك يا راجح…محدش حاسس بحاجه…
كل حاجه متكتمه.

رفع راجح رأسه ببطء،عيناه مشقوقتان كالنصل،
وقابض على قميصه، وصرخ: ما يحسوا؟ ولا يولعوا!
وهي…هي يا ياسر…حاسه بإيه؟أنا قلبي بيتقطع،
يبقى هي حاسه بايه ؟ وبعد كل ده…
تغصبوا عليها تتجوز سلطان؟!

تقدم سلطان في صمت قاتم… وجهه جامد كالحجر،
أخرج سلاحه ببطء، ومده إلى راجح وقال:خده…وفرغه في قلبي…أو في دماغي… لو ده يريحك… طلما شايف اني انا السبب !!

أخذ راجح السلاح…لكن يداه لم تعرفا كيف تضغط.
رفع السلاح، ثم فجر المرآة… وتحطم الزجاج
كان الصوت كأن أرواحهم كلها تصدعت.

عاد إلى سلطان، قبض على عنقه،وصرخ، والدم يغلي في عروقه: مين؟! مين يا سلطان؟!

تمسك به سلطان وصرخته خرجت كالقنبلة: اللي عمل كده…أكلوه الديابه… وهو صاحي!

ثم خيم الصمت.

نظر له سلطان…كأنه لم يكن يرى الحاضر… بل كان يشاهد المشهد…كأنه لم ينته بعد.

…………… فلاش باك …………………..

كانت الشمس في طريقها للموت،
والأرض الصحراوية ممتدة كجثة ممدودة في العراء،
لا شيء فيها سوى الرمل… والسكوت الثقيل.

توقفت السيارتان على حافة الخلاء،
واحدة رباعية فارهة، والثانية نقل مغلقة، تخفي ما بداخلها كتوابيت الموتى.

ترجل سلطان من السيارة الأولى، يرافقه ياسر، عز، وعمار.
أما سائق سيارة النقل، فهبط بخفة، وهتف بصوت جاف:
تمام يا جنرال.

رمقه سلطان بنظرة حادة، وقال بصوت منخفض كالسكين: جاهز؟

أومأ السائق دون تردد: جاهز يا باشا.

أشار سلطان إلى عز وياسر، فتحا صندوق السيارة الخلفي،وبدآ بسحب الرجال الثلاثة واحدًا تلو الآخر.

قبض عز على عنق أولهم، أخرجه بعنف، وطرحه أرضا.
أما ياسر، فانتزع الثاني كما تنتزع الجثث من القبور،
بينما سحب عمار الثالث من قدمه، وسحله على الرمل دون رحمة.

وقف الأربعة فوقهم،
كأنهم ملائكة الموت، ينتظرون الأمر بقبض الأرواح.

أشار سلطان نحو السائق،
فتقدم الأخير، وفتح باب الصندوق الحديدي الخلفي…

وفجأة، انطلقت منه ذئاب رمادية ضخمة، كأنها خرجت من بوابة الجحيم ذاته.

زمجر أحد الرجال الثلاثة، وجحظت عيناه،
وبدا الآخر يزحف على الرمال كمن يحاول الهرب من الموت،
أما الثالث… فقد تجمدت أصابعه وابتلع صوته صدمة الرعب.

أمسك سلطان بالسلاسل الحديدية التي تقيد الذئابين،
وقبض عليها بيده الغليظة، وهدر بصوت لا يشبه صوت البشر:مين فيكم… يا ولاد المـ*… اللي قرب من بت عمي؟!

حاول أحدهم التماسك، لكن الكلمات خرجت منه كالعفن:
اقسم بالله أنا ما جيت جمبها… احنا… احنا خطفناها بالغلط، كنا فاكرينها

توقف عن الكلام،
حين لمح وجه سلطان وقد احمرت ملامحه كأن الشيطان نفسه تلبسه…قال سلطان بصوت بارد كالموت: كنتم فاكرينها مين؟كنتم فاكرينها مراتي؟

هز الرجل رأسه بعنف، وصوته خرج متحشرجا: كنا بننفذ أوامر خلف وحنفي ..ولما شافها حنفي، قال مش هي، وقلنا نسيبها… تمشي وخلاص…

تقدم ياسر، قبض على عنقه، وزأر كوحش ينفجر من قفصه: انت هتشتغلنا يا عر* يعني ايه سبتوها؟!

صرخ الآخر، باكيا: احنا كنا عايزين نرجعها… بس ريكو…
عينه زاغت عليها… هو اللي…

بدأ ريكو يصرخ بهستريه وهو يحاول الزحف والهرب :
الحقوني يا ناس!

رمى ياسر الرجل من يده كمن يرمي القمامة،
وهتف بنار مشتعلة: هشرب من دمك يا ابن المرة!؟

لكن سلطان أشار بيده، وخرج صوته أمرا لا يرد:
استنى يا ياسر.

ثم أفلت سلطان السلاسل من قبضته، وانطلقت الذئاب كطلقات شيطانية، تشق طريقها نحو ريكو، الذي بالكاد لحق أن يلتفت، حتى دوى صوت سلطان، كالرعد في قلب الصحراء: هتهرب فين؟ قطعوه!
مش عايز يفضل منه حتة ماسكة في التانية!

كونت حول ريكو حلقة من الذئاب، كأن الجحيم قد انغلق عليه….زحف فوق الرمل، جسده يتلوى، وصرخاته تدفن في صدره قبل أن تنفجر.

ثم انقض الذئب الأول، غرز أنيابه في فخذه،
وانتزع قطعة لحم صارخة، كأنها تنتزع من عظم حي.

ثم لحقه الآخر، وغرس أنيابه في بطنه،
يشق أحشاءه كما تفتح ثمرة ناضجة أمام سكين مسمومة.

تناثرت الدماء، تطايرت الصرخات، وتلون الرمل بأحمر قاتم، كأن الأرض تشرب ثأرها.

أما الرجلان الآخران، فكانت وجوههما بيضاء كالرماد.
صرخ أحدهما حتى لفظ أنفاسه…كأن قلبه خان جسده وسقط ميتا في مكانه… من الرعب ..

أما الآخر، فركض… ركض كمن يفر من قعر الجحيم،
لكن ياسر لم يمنحه فرصة…قبض عليه من عنقه،
سحبه بعنف كمن ينتزع الشوك من الحلق،
ثم استل سكينه من خاصرته، وغرسها في صدره، وهو يهدر: هخليك تحس بالنار اللي جوانا!

تلوت شفتا الرجل برجاء، وعيناه تشربان الدموع:
ملمستهاش…
والنبي ما لمستها، وحياة أمي…

لكن سلطان اقترب، عيونه تشع شررا.
جثا على الأرض بجانبه،
وشق ظهره من أعلى الرقبة حتى أسفل العمود الفقري،
وهمس بصوت قاتم كالغصة: ما منعتوش ليه؟
ليه سبته يعمل كده؟ليه سبته يدوس على روحنا وانت ساكت؟!

حينها، غرس ياسر يده داخل صدره، كأنه يبحث عن شيء ضائع منذ الأزل. ثم أخرج قلبه النابض بيده ،
ورفعه أمام وجهه، وصرخ: كان المفروض تحس بينا…
بس قلبك طلع حجر!

ولم يملك الجسد أن يتحمل أكثر…سقط بلا صوت، بلا روح.

أما عمار، فتراجع للخلف، وركع بجوار السيارة،
ثم بدأ يتقيأ بعنف، كأن ما رآه لم تستطع روحه احتماله.

اقترب عز، ربت على ظهره، ناوله زجاجة ماء، وقال بصوت ثقيل: العرض دم…والدم مبيتردش غير بالدم يا صاحبي.

صفر سلطان، فركضت الذئاب إليه…اقتربت كأنها أولاده،
تمسحت فيه، لعقت يده، وكأنها تنتظر مكافأة.

ربت على رؤوسهم، وقال: عاش يا صُياح…عاش يا ضاري.

أعادهم للسيارة، أغلق الباب خلفهم، ثم صرخ: بلال!

اقترب الرجل، وهتف مطيعا: أوامر يا جنرال؟

أشار سلطان للجثث والأشلاء وغمغم :ادفنوا الرمم دي.

اوما الراجل وهتف : أوامرك يا جنرال!!

صعد الرجال السياره ..وغادروا الصحراء…
ووراءهم، لم يتبق من الذئاب إلا البصمات…
ومن البشر إلا اللحم المهروس بالرمل.

………………. عودة ………………..

ساد الصمت ثوان، كأن الهواء نفسه توقف عن التنفس.

جلسوا جميعا، بأنفاس متقطعة، والايدي لا زالت تحمل رائحة الدم…
نظر سلطان إلى الأرض لحظة، ثم رفع عينيه نحو راجح،
وصوته خرج محملا بالحسرة: غدروا… وخدوا جزاهم.

رفع راجح رأسه، وعيناه تشتعلان بلون الدم،
وغمغم بصوت كأنه قادم من بئر قهر لا قاع له: كان المفروض سناني أنا إلا تقطعهم …أنا أولى من سنان الديابة يا سلطان.

أطرق ياسر رأسه، وخرج صوته بصعوبة، كأن كل حرف يسحب من قلبه: مهما عملنا… النار دي مش هتبرد.
كل مرة أبص في عيون تقي.. أحس بخنجر مزروع في قلبي.

أغمض راجح عينيه، وانفجرت دموعه،
لكنها لم تكن دموعا، بل لهب يشوي وجنته قبل قلبه،
وقال والأنين يخنق صوته: وأنا في إسكندرية…
كنت متراقب …كانوا ماشيين ورايا، بس عملت المستحيل،وزغت منهم وسلمت الورق للباشا.
بعدها ضربوا علينا نار، بس الباشا لحقني وقتلهم،
وقاللي اقعد كام يوم لحد ما أأمنلك الطريق.

تنفس راجح بصعوبة، كأن صدره لا يتسع للألم،
وتابع بصوت متكسر: كنت فاكر الباشا عمل فيا معروف…
لم أنقذ حياتي…وأنا مش عارف ايه اللي مستنيني…
مكنتش اعرف ان روحي اتدبحت قبلي.
يا ريتني مت…يا ريت رصاصة الرحمه كانت ريحتني من العذاب ده.

ثم همس… كأنه يحدث نفسه: كنت فاكر إن نصيبي من التعب خلص…ما عرفش إن لسه ليا نصيب في المرار.

في لحظةٍ خاطفة، نهض سلطان، وسحب راجح من ذراعه بعنف،وصاح به بعين تبرق بالشرر: قوم!
اصلب طولك! لو مش هتقدر تداوي، انسحب من أولها… أحسن.

هز راجح رأسه ببطء، لكن سلطان لم يتوقف: أنا حطيت نفسي ومراتي على سن السكين…
استنيتك، واتحملت، وخليت الكل ساكت،عشانك…
وعشان تقي.

هنا، رفع ياسر حاجبيه بدهشة، وقال: إيه الكلام ده يا سلطان؟!مش هينفع … تقي أولى بيها ابن عمها.

صرخ راجح فجأة، بصوت أفزع الجميع: تقي مش معيوبه! مش مستنية ابن عم يشيل عار عنها!
اللي بيحبها بجد… هو اللي أولى بيها،
وإن حكمت… هدخل حرب مع الدنيا كلها عشانها!
وهخدها غصب عنكوا كلكوا.

اقترب سلطان،ربت على منكبه، وقال بهدوء: راجح…

لكن راجح قطعه، ونظراته لا تعرف سوى الغضب: لا!
مش هسمع كلامك تاني يا سلطان…من زمان بتقولي اصبر… وكنت بسمعك….بس خلاص…دلوقتي… لا أبوي يهمني، ولا أبوها، ولا أي حد… غير هي.

ظل سلطان ينظر إليه لحظة، ثم أومأ برأسه، وقال: حقك… تعال معايا.

تحرك سلطان إلى الخارج،وتبعه الجميع… بينهم خطوات… وبين الخطوات،حرب قلوب لم تنته بعد.
…………………………………….

هبطوا جميعا إلى الطابق السفلي،
والأنوار تنسكب على وجوههم كأنها بشائر سماوية تهبط على قلوب عطشى للفرح.

اقتربوا من طاولة المأذون،
وكان خليفة واقفا، يقلب أوراقه بتوتر لا يخفى،
ولما لمحهم، رفع رأسه بدهشة وهمس بصوت مبحوح:
يلا يا سلطان… كتب الكتاب مستنيك.

التفت سلطان إلى راجح، ثم مال برأسه إشارة،
فأومأ راجح وسار نحو الطاولة، خطواته ساكنة ظاهرا،
لكنها كانت تثور من الداخل كسيل لا يروض.

جلس أمام خليفة، ومد راجح يده بثبات وقال بنبرة تشق الصمت: تقى… مكتوبة لراجح من فوق سبع سماوات يا عمي.

سكن كل شيء للحظة.
نظر خليفة في عينيه، ثم إلى كفه الممتدة،
كأنه يقيس إن كانت هذه اللحظة حقيقية أم من بقايا الحلم.

وفجأة نهض العتال،
ونظر نحو راجح، ونبرة الكبرياء تتطاير من عينيه،
وصاح بصوت يخرس الهمس: انس اللي فات، يا خليفة يا أخويا…ومهر ست البنات مليون جنيه!

أدار الهواري رأسه نحو عاشور ..الذي أشار له بهدوء،
ثم نظر إلى سلطان، فرد سلطان بإيماءة واثقة، وقال بصرامة: مد إيدك، يا عمي…راجح بيحب بتنا، وأولى بيها من أي حد.

ربت ياسر على كتف أبيه،وهمس بابتسامة دافئة : اتكل على الله يا حاج… خير البر عاجله.

مد خليفة يده المرتجفة، فوق يد راجح الثابتة،
وبدأ المأذون مراسم الزواج.

انفجر الفرح … وارتفعت الزغاريد ، ورقصت القلوب قبل الأجساد.
سلطان، ياسر، عز…كل منهم أخرج سلاحه، وأطلق الرصاص في الهواء،كأنهم يودعوا كل حزن فتك بهم

أنهى المأذون بدعاء صادق هز القلوب:
بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير.

في لحظة،
سحب عمار المنديل الأبيض  ولوح به عاليا، وصرخ:
مبروك يا صاحبي!مبروك عليك حب عمرك!

ضحك راجح، وهو يبكي من شدة الفرح،
وضم عمار إليه، وهمس بصوت مخنوق من شدة التأثر:
الله يبارك فيك… عقبالك يا شقو.

أقبل سلطان، ضمه إلى صدره، وصاح بفرح:
مبروك يا صاحبي!

تمسّك راجح به، وهمس بالبكاء: أنا… أنا اتجوزت تقى، يا سلطان…

هز سلطان رأسه بتأكيد .. وربت ياسر على منكبه وضحك: اتجوزتها يا ابن المحظوظة!

خطفه عز من بينهم، وهتف :والله… وهرفعك، يا راجح!

وحملوه جميعا… رفعوه فوق رؤوسهم، وضحكاتهم الرجولية تهز جدران المكان، كأن الفرح نفسه لبسهم… وشالهم لفوق.

مر الوقت…وبدأ الفرح الشعبي،الرقص، والمزيكا، والزغاريط، والقلوب كانت ترقص قبل الأجساد.

لكن… بين الضحك والفرح  اقترب علي من عمار،
عنينيه نار، وصدره مكبوت.

أشار له للاعلي ، واتسعت عينا عمار كأن شبحا تسلل أمامه.

تحرك بسرعة، بخطوات مرتبكة، وجهه شاحب،
كأن الدم جف في عروقه… وصل عند سلطان،
وهمس بصوت مهزوز، كأن الحروف تتكسر بين شفتيه:
ضي… ضي مش في البيت. وووووووووووووووووو.

عارفه اني بتأخر عليكم بس والله غصب عني حقيقي تعبانه شويه وكمان ملتزمة معاكم بالراويه الحجز نستحمل بعض بس وباذن لله هعوضكم

متنسوش التفاعل ي حلوين بالفوت والكومنتات

ساحره القلم ساره احمد 🖋️

4.1 20 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
7 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
ندي
ندي
12 أيام

تووووووووحفة♥️🔥

Zahra
Zahra
12 أيام

ابداع ساحرة القلم ملوش مثيل 💗🔥

Salma Mohamed
Salma Mohamed
11 أيام

تحفه تسلم ايدك ❤️

ام عبد الرحمن
ام عبد الرحمن
11 أيام

ابداع كل عاده يا ساره

ام تسنيم
ام تسنيم
11 أيام

ابداع ياحبيبتي ❤️🥰

ام تسنيم
ام تسنيم
11 أيام

ابداعك يا حبيبتي قلبي ❤️

Imen kraoua
Imen kraoua
9 أيام

💗💗💗💗💗