نار وهدنه

نار وهدنه (الفصل الثالث )

نار وهدنه (الفصل الثالث )

“في آخر الطريق…”

في آخر الطريق، حين تبهت فينا الرغبة، ويخذلنا السير الطويل… لا نعود نطلب المجد، ولا نُصغي لضجيج الانتصارات. كل ما نرجوه في تلك اللحظات المتعبة: قلبٌ هادئ… ورضا لا يُغيّره زمن، ولا تُبدّده خيبة.

كم أتعبتنا الخطى التي لم تفضِ بنا إلى شيء، وكم أوجعتنا الأحلام حين امتدت أكثر مما ينبغي. لم نعد نرغب في العلوّ، بل في النجاة. لم نعد نُطيل التطلّع إلى القمم، بل نبحث عن حافّة هادئة تُشبه السلام.

نريد فقط أن نصبح أولئك الذين تجاوزتهم الأمنيات، فلم يُنهكهم السعي، ولم يُفرّقهم الغد. أن نغفو فوق وسادة القبول، ونستيقظ بقلبٍ خفيف… قلبٍ عبر العاصفة ولم يفقد سلامه.

فيا رب، حين يُنهكنا الركض، وتضيق فينا الأسئلة، اجعلنا من الراضين، لا من الواصلين. فالرّضا وطن… والطمأنينة انتصارٌ لا يُروى في كتاب، بل يُسكب في الأرواح كـ ضوءٍ لا يخبو… 🕊💗

صباحا في شقة عمار

استفاقت ضي على رنين الهاتف الذي مزق سكون الغرفة. ارتجف جسدها المتعب، تململت بتوتر وهي تفتح عينيها المثقلتين بالنعاس، ثم مدت يدها إلى الهاتف وردت بصوت خافت :ألوو؟

جاءها صوت حياة مشرقًا بدهشة: إنتي لسه نايمة يا أختي؟ قومي يا ضي!

قطبت ضي حاجبيها بتثاقل، وهمسة : ليه… هي الساعة كام؟

كانت حياة تعد البيض في المقلي، وقالت برغبة في مشاركتها الصباح: الساعة تسعة، يا ضي… قومي بقى.

تمتمت ضي بنزق: حياة… لسه بدري! أصحى تسعة ليه؟!

استنشقت حياة رائحة البيض الشهية، وهتفت ممازحة:
إنتي هتعملي فيها الأميرة النائمة! قومي يا بت نفطر سوا يلا!

أبعدت ضي الهاتف عن أذنها وصرخت: يا بت وطي صوتك! إنتي اتجننتي؟ لما أصحى هافطر، هو الفطار هيطير يعني؟!

ثم جاء صوت عايدة، حنونًا كنسمة دافئة تخترق جدار الوحشة: ضي، يلا يا بنتي انزلي عشان نفطر… عمار عدى عليا الصبح ووصاني مأسبكيش نايمة كتير . قومي وانزلي يا حبيبتي.

فتحت عيناها قليلاً ونهضت، وقالت بنعاس خافت: حاضر يا طنط… نازلة حالًا…

ضحكت عايدة بحنان وقالت : إنشالله ما أتحرم منك يا قلب طنط.

أغلقت ضي الهاتف وهي تبتسم، رغم التعب، على هذا الدفء العائلي الذي بدأ ينمو حولها. توجهت إلى المرحاض لأداء روتينها الصباحي.

بعد قليل، خرجت من الشقة، تتهادى خطواتها على الدرج المؤدي للطابق الأرضي حيث تسكن عايدة وبطة.. رنت الجرس، وفتحت لها حياة بابتسامة مشاكسة:أخيرًا الأميرة النائمة صحت!

دخلت ضي وهي تهمس بود: بس يا حياة… أنا أول مرة أصحى بدري من غير ما يكون عندي مدرسة.

ضحكت حياة وقالت: كلها كام يوم، والامتحانات هتطبل على دماغنا.

هزت ضي رأسها وقالت في شرود: اسكتي، ما تفكرنيش… أنا ضايعة من وقت ما بابا…

توقفت فجأة، كأن الكلمات خانتها. ارتجف قلبها وهي تستعيد ذلك الشعور الكاسر، القاطع. ما زالت تنكر الفقد رغم كل شيء، توهم نفسها أنه فقط مسافر، فقط تأخر في العودة. لكن الحقيقة كالسكين، كلما حاولت تجاهلها، عادت لتغرس نفسها أعمق.
انقطعت أنفاسها كأن صدرها قد ضاق بالحياة، وعيناها تتأرجحان بين العدم والخوف. خيال والدها يطغى على وعيها، ابتسامته، صوته، لمسته، دفء يده وهي تربت على رأسها حين كانت تتهرب من العالم خلف ظهره…
وها هو الآن…

قبل أن تسقط دموعها، قطعتها بطة مازحة: يا رب نلحق نكمل الفطار قبل ما أبوكي يطربقها على دماغنا!

انطلقت حياة إلى المطبخ، وابتسمت ضي بخفوت. اقتربت منها بطة بوجهها البشوش وضمتها برفق، تربت على ظهرها وقالت : حلوة… حلوة يا ضنايا، بس عايزة تملي حبتين كده.

ضحكت ضي بخجل وهمسة: ميرسي يا طنط.

قهقهت بطة وهتفت : طنط؟! إن شاء الله تنستري يا أختي.

سحبت يدها بلطف وقالت: تعالي… تعالي، دانتي عسل والله.

دخلتا المطبخ، وبدأتا تجهيز الإفطار، وسط ضحكات حياة وابتسامات عايدة ونكات بطة… بدا اليوم كأنه يحمل بعض السكينة… حتى دوى جرس الباب.

قالت ضي بخفة: أنا هفتح.

خطت نحو الباب، وفتحت بثقة هادئة… ثم تجمد كل شيء

كان سلطان يقف أمامها.

يسند كتفه إلى إطار الباب، ينظر لها بنظرة لم تشبه أي شيء رأته من قبل. شعرت بساقيها توشك أن تنهار، وبرودة قاسية تسري في عمودها الفقري.

تجمدت أنفاسها، وهي تستعيد مشاهد الأمس…، وتسللت شهقة رعب من بين شفتيها، وارتدت للوراء بخطوات مرتجفة،
ذلك الوجه… ذلك الجسد الذي ارتسم في ذاكرتها كأنه وحش من الجحيم…
ثم دون تردد دفعت الباب بعنف وأغلقته في وجهه، وركضت مذعورة إلى المطبخ…

خارج الباب، حدق سلطان في الخشب المغلق، عيناه اتسعت بدهشة، ثم زم شفتيه وهتف بضيق: يا بت المجنونة…

ثم بدأ في الطرق بغضب ، وهدر بعنف: افتحي الباب! يا بت افتحي الباب بدل ما أخلعه!

اصطدمت ضي بـ حياة في طريقها وقالت:في إيه؟ مفتحيش ليه؟

همسة ضي وهي ترتجف: ده… الهمجي أخوكي… قفلت الباب ف وشه.

جحظت عيني حياة، وهرولت إلى الباب تفتحه وقالت : سلطان، معلش… الهواء قفل الباب!!

دلف سلطان وتمتم بغضب مكبوت، والنار تتراقص في عينيه: الهواء… آه، الهواء اللي اسمه ضي.

عضت حياة شفتها وهمسة: الله يخرب بيتك يا ضي…

دلف سلطان غرفة السفرة حيث يجلس والده وجده وهتف من بين فكيه بغضب: صباح الخير.

  • صباح الخير يا سلطان.
  • صباح النور يا ابني.

جلس وهو يشتعل من الداخل. كان يشعر بأن بينه وبين تلك الفتاة حربا باردة، لكنه لم يقرر بعد بأي سلاح سينهيها… ولكنه الآن يود أن يقتلع راسها العنيد بيديه

همس ساخرا لنفسه: يمكن تهدي… يا بت البدري لما اخلصك من عقلك اللي شبه عقل الاطفال !!

في الخارج، كانت ضي ترتجف وهي تمسك مقبض باب الشقة. أمسكت بها عايدة:؛رايحة فين؟ استني، هنفطر.

هزت رأسها برعب وهمسة: لأ… أنا عايزة أطلع… مش عايزة أفطر… لأ!

نظرت لها عايدة بدهشة وقالت : مالك؟ إيه حصل؟… إنتي خايفة من سلطان؟

أومأت ضي برأسها، وعيناها تلمعان بالدموع: آه… ده قتال قتله…

شهقت بطة وهتفت: إيه اللي بتقولي ده! تفي من بوقك! إنتي اتجننتي؟!

لكن عايدة لكزتها وقالت بضيق: اسكتي، يا بطة… إنتي وسلطان عليها!

سحبت عايدة يد ضي الباردة، تمسكها كأنها تحميها من الخوف ذاته وقالت :تعالي يا ضي، هتقعدي جنبي ومحدش هيبصلك… خلاص؟

جلست ضي إلى طرف الكرسي، تشعر وكأنها سجينة في محكمة مجهولة. نظرات سلطان تخترقها. لم تكن نظرات فقط، بل سهام نار تخترق العظم.

نظرت إلى الطعام أمامها، لكن رائحة الأكل جعلت معدتها تنعقد كأن فيها عقدا من الألم.

وضعت عايده الطعام ف طبق ضي وهتفت بود : كلي يا ضي…

رفعت نظرها لـ عايدة وقالت بصوت مرتعش: مش قادرة… يا طنط.

تدخل عاشور بحنان وقال : في إيه يا بنتي؟ أكلنا مش عاجبك؟

هزت راسها بالنفي وتمسكت بذراع عايده وهمسة بصوت خافت: لا… لا، يا أونكل… الأكل حلو.

قالت حياة بشفقة: أجيبلك حاجة تانية يمكن مش متعودة على حاجات دي يا ضي ؟!

هزت رأسها بالنفي ثم نهضت: أنا عايزة أطلع… مش قادرة آكل.

لكن سلطان لم يحتمل… فهدر صوته كالرعد: اترزعي يا بت كفايه محن ! مش ناقصين دلع يا بت البدري!

شهقت ضي، وتجمعت دموعها، بينما هتف الجد غاضبًا:
جرى إيه يا سلطان؟ البت ضيفتنا! هو إحنا كده بنعامل ضيوفنا؟!

رد سلطان بعنف، عينيه مسلطتان على ضي كأنه يريد اختراقها: أنا ما أكره عليا دلع البنات… بيحرق دمي يا جدي!

سحبتها عايدة وأجلستها من جديد وقالت : عشان اهبل… هو في أحلى من دلع البنات؟

زم شفتيه بغيظ وتمتم: بلا وجع بطن…

مسحت ضي دموعها، لكن عيناها بقيتا معلقه على ملامحه… جسده العريض، عيناه الثاقبتان، عضلات صدره البارزة من فتحة القميص، عروق ذراعيه التي تشق ساعديه وتلمع كأنها تنبض بالغضب…. والندبات المتفرقة في جسده، كأنها تحكي عن حروب لم تعرفها بعد.
كان جسده سجنًا للغضب، ولشيء لا تعرفه… لكنها مع كل لقمة يرفعها لفمه، كانت تشعر بنبض غريب يتسلل لداخلها.
هو لم يكن وسيم فقط… بل يحمل وسامة متوحشة، خامة أولية من الرجولة، فيها شيء يفتن ويخيف في آن واحد.

كأنها تنظر إلى شخصية من رواية خيالية… بطل غامض، مخيف، ومغو في آن واحد …التقط رغيف الخبز ومزقه بأسنانه، كان يأكل بعشوائية واضحة،لكنه ليس مقزز وبين لقمة وأخرى يرشف من الماء

حدقت ضي فيه بخجل، لكن لم تستطع أن تمنع عينيها من التسلل. لحظة واحدة فقط.

لاحظ سلطان ذلك… ابتسامة عبثية ظهرت على طرف شفتيه، لم تدم، لكنها قالت كل شيء، بينما يرمقها من طرف عينه، وبنبرة هادئة، لكنه يعرف كيف يغرسها تحت الجلد: الحرب بدأت يابت البدري !!
…….
في المكتب الرئيسي للمحامي علام المهدي..

المستشار القانوني القديم والمقرب للراحل عثمان البدري، خيم التوتر على الأجواء كأن الجدران تشهد على وجع السنين وثقل المصير.

وقف عمار فجأة، تكاد أضلعه تتفتت من شدة الغضب، وحدق بعينين تغليان:يعني إيه يا متر؟ كده خلاص؟ ملهاش حل؟ اللي اسمه خلف ده هياخد كل حاجة؟ وإحنا هنقف نتفرج؟!

رفع علام عينيه نحو الشاب، وأومأ برأسه نافيًا، وقال بهدوء يحاول به إخماد النيران: لأ طبعًا… هنطعن ف الورق، أنا متأكد إن فيه حاجة غلط.

رمش عمار بعينيه، كأن الصدمة عطلت منطقه، ثم بلل شفتيه الجافتين وهمس: يعني… مزور يا متر؟

أطرق علام رأسه للحظة، ثم هز راسه بحزن وقال:
للأسف… لأ. الورق سليم من الناحية الشكلية، لكن أكيد فيه ثغرة… أو غلطة. متقلقش، متشيلش هم… ولا توقف حياتك. المحاكم حبالها طويلة، وأنا مش سايبك…

لم يحتمل عمار، فدفع الكرسي خلفه ونهض، وهتف بصوت مجروح بالغضب: حياتي لوحدي؟ دي مش حياتي بس، إحنا كلنا حياتنا وقفت! أخواتي، مستقبلنا، كل حاجة!

نهض علام بدوره، لكن صوته ظل ثابتا، كأنه جبل صامد وسط العاصفة وقال : اهدى يا عمار يا بني. أبوك الله يرحمه كان موصيني عليكم، وأنا مستحيل أخلف وعده. بس اللي محتاجه منك دلوقتي… إنك تهدى، وتثق فيا. هرجعلكم حقكم… وده وعد.

فتح عمار فمه ليجيب، لكن رنين الهاتف اخترق اللحظة. أخرج هاتفه من جيبه، ألقى نظرة على الشاشة، ثم رفع عينيه إلى علام وقال: أنا عارف يا متر… انت مش بس محامي بابا، إنت كنت صاحبه الوحيد، وأنا بثق فيك… هستنى منك أي خبر.

أومأ علام برأسه وهمس بصوت أقرب للدعاء: خليها على الله يا عمار… متقلقش.

صافحه عمار بقوة تليق برجولة مكسورة، ثم خرج من المكتب، يغلي بداخله كما يغلي البركان في جوفه.

جلس علام من جديد، أسند ظهره إلى الكرسي، أغمض عينيه، وتنهد بقهر دفين، ثم غمغم بصوت كاد يختنق:
سامحني يا ابني… مش بإيدي… ولا كان بإيد أبوك. الدوامة اللي اتحطيتوا فيها… مكنش ليها مخرج غير كده !!

في الخارج، ضغط عمار على زر الاتصال في هاتفه، وعندما سمع صوتها، ابتسم رغم الألم وقال :إيه يا قلبي… عاملة إيه؟

لكن صوتها جاءه صارخًا، يفيض عتابًا : قلبك! بجد؟! أنا ليا يومين برن عليك وانت منفضلي! انت مش هتبطل عادتك المهببة دي؟!

ضحك عمار رغم كل ما يعتمل في صدره من نيران وقال بصوت رخيم: اهدي يا بنتي… ظروفي، ربنا اللي عالم بيها.

صرخت بغيظ: أخص عليك! كل ده بيحصل ومتفكرش حتى تكلمني؟!

قطب حاجبيه بدهشة وقال : انتي عرفتي؟

أومأت برأسها ، وارتجف صوتها وقالت : أيوه… ورحت القصر… وملقتش حد… كنت هتجنن! انتو فين يا عمار؟! حتي بابا قلقان عليكم !!

زفر بقوة، وقال: عند واحد صاحبي.

شهقت، وانهمرت دموعها وقالت : ليه يا عمار؟! مالكش بيت عم مفتوح ليكم؟ ليه تروح عند حد غريب؟!

أشار نحو سيارة أجرة مارة، وقال بهدوء: مش غريب… ده سلطان الهواري، انتي عارفاه.

شهقت من جديد، وهتفت بنبرة اختلط فيها الغضب بالخذلان: يا نهار اسود! أنا كنت نفسي تبعد عن البلطجي ده، تقوم تاخد إخواتك وتقعدوا عنده؟! وضي؟! أنا عايزة أشوفها!

تنهد عمار بصبر نافذ وهتف : خلاص يا آية… سلطان مش وحش أوي كده، ده صاحبي من سنين، ووقف جنبي في حاجات كتير، ورأيكم فيه… مش هيغير رأيي.

أغمضت آية عينيها وقالت بقهر: خلاص… انت حر. بس أنا بحذرك… خليك واخد بالك.

هتف بنفاد صبر:كفاية زن بقى يا آية!

صمتت لوهلة، ثم قالت بفتور: ماشي… أنا عايزة أشوف ضي، وأطمن عليها…

بدل الهاتف لأذنه الأخرى، وقال:بعدين. هظبط يوم واجيلك أنا وضي. المكان اللي إحنا فيه… مش هيعجبك.

رفعت حاجبها بدهشة:يعني عاجبك انت وعاجب ضي؟!

أغمض عينيه بيأس وهمس: آية… وبعدين؟

هزت رأسها، ثم قالت وهي تفرك جبينها: براحتك… بس متتأخرش. سلام.

أغلق عمار الهاتف ببطء، وكأن أصابعه تئن من ثقل المكالمة، ثم أغمض عينيه بتعب، وزفر بحرقة، وتمتم ساخرًا وهو يترجل من السياره الاجري :يلعن أبو الزن… على النسوان الزنانة.

………………………………

في قلب حارة الصاغة…

كان النهار قد بدأ يتمدد كسجادة ذهبية فوق أرض الحارة القديمة، تنفض عن جدرانها آثار الليل، وتبعث فيها حياة جديدة.
صوت الباعة المتجولين، ورائحة الفطير البلدي، وقرقعة الأبواب الحديدية للمحال وهي تفتح في تتابع مهيب،
كل شيء يشهد أن هذه الأرض تعرف سلطانًا، لا يمر إلا وتحني له الأرواح قبل الرؤوس.

خرج سلطان من بيته كمن يخرج من قصره، بخطى لا تعرف التردد، تسبقها هيبة لا تشترى،
تسير معه النظرات، ويصمت له الهواء، وكأن حتى الزمن يتأنى حين يخطو.

مر في طريقه على أصحاب المحال، فوقفوا له بالابتسامة والتحية،
كأن الحارة بأكملها تحفظ هيبته عن ظهر قلب، وتخشى زعله كما تخشى خراب الدهر.

هتف أحدهم : صباح الدهب، ياباشا ..

وتمتم آخر وهو يهم بفتح محله : صباح العسل يا كبير!
وهتف اخر : صوت رجليك أمان يا جنرال !

وسلطان لا يرد إلا بإيماءة بالكاد تلحظ، وابتسامة واثقة لا تغادر ركن فمه الأيسر.

دخل إلى محله، ذاك الذي لا تخطئه عين في أول السوق،
واجهته يلمع فيها الذهب كأن الشمس نفسها تعاقدت على البقاء هناك،
وفي الداخل كان راجح وياسر منحنين على دفاتر الحساب،

اقترب سلطان من الكرسي الخشبي الثقيل، وجذبه نحوه بيده، ولفه، وجلس عليه بالعكس،
ثم سحب من جيبه سيجارته، وأشعلها بثبات، ساحب أول نفس كأن فيه إجابة عن كل ما فقد وهتف : إيه الأخبار؟

رفع راجح رأسه وقال بتهكم خفيف: يا أخي ارحم نفسك… حشيش من أول النهار؟!

ضحك ياسر وقال: هو سلطان يشرب سجاير فاضية يا راجح؟ إنت بتنسي ولا إيه؟

مط سلطان شفته وقال بإشارة باردة: قوله يابا ..

ثم نظر إلى الاثنين بنظرة لا تحتمل المراوغة وغمغم : عملتوا إيه؟

رد راجح :كله تمام… مفيش غلطة، والمرة اللي فاتت خلاص اتحفرت، ما بقاش ليها أي وجود.

نفث سلطان دخان سيجارته ببطء، ثم رماه تحت قدمه وسحقه، وقال: اشطا… بس أنا مش بحب الغلط، لا صغير ولا كبير. فاهمين؟

اوما ياسر وقال: فاهمين… انت عارف يا جنرال الزلة هنا بتكلف كتير… ورقابنا مش لعبة.

مد سلطان إيده وخبطه خبطة خفيفة على منكبه وقال:
إحاااا… يا عم إنت بتكلم كده ؟! نسيت نفسك؟ إنت بتشتغل مع مين ياض ؟ ده أحنا لو زعلنا، السوق كله يقف حداد!

ضحك راجح وقال: والله أنا ما بخاف غير من سكاتك ده يا جنرال… يخوفني أكتر من الصوت العالي!

دلف بريزة، وهو يحمل إرجيلة بزجاجة خضراء لامعة وقال :أول ما شفتك يا جنرال، عرفت إنك طالب نفس كده يعدل اليوم!

أخذها منه سلطان وقال : كفاءة ياض
وسحب منها نفسًا ثقيلًا، وقال وهو يرمقهم بنظرة عميقة: أنا مسافر بكرة.

هتف ياسر استغرب : مسافر؟! لوحدك؟!

اوما له وغمزه سلطان وقال: لا مع راجح …
هارش يا جدع…

ضحك ياسر وقال: هارش طبعا ..يعني نولع الفحم ونقعد نستناك بقا!!

نظر سلطان بعيدًا، وغلف صوته نغمة لم يفهموها للوهلة الأولى وقال : اه… أنا بس عايز الفيران تطلع من جحورها… الجو بقى ممل، وأنا زهقت !!
…………………………………….

في شقة عز الهواري…

كان ضوء الصباح يتسلل من خلف الستائر، ينفض عن الغرف سكون الليل، ويبث فيها حياة خفيفة متعثرة بين ضحك طفل وصرخة أم منهكة…

استفاق عز على صوت فوضى مألوفة، تحمل في صخبها بهجة الحياة التي لم يعتدها يومًا قبل هذه العائلة الصغيرة.

ركض مالك في أرجاء الشقة، ضاحكًا، عاري الجسد إلا من لباسه الداخلي، بينما تلهث خلفه عليا محاولة الإمساك به، صائحة بنبرة امتزج فيها الغضب بالحنان:يا بني تعال، ادخل الحمام تستحمى! هتفضل طول النهار تجري كده بلبوس؟!

أطلق مالك ضحكة بريئة، تشبه زقزقة عصافير في حضن فوضى: أنا مش عايز أستحمى! هو كل يوم يعني؟! إنتي مش بتزهقي يا عليا؟!

توقف صوتها فجأة، وحدقت فيه بدهشة وغضب: يا قليل الأدب! عليا يا مالك؟! طيب أنا مخصماك!

جلست على الأريكة، وأسندت رأسها إلى يدها، متظاهرة بالحزن، فيما تقدم منها مالك بخطوات خجولة، مسح على يدها الصغيرة بيده الطفولية، وهمس بأسى: لا يا ماما… أنا مش بحب أزعلك، أنا آسف.

رفعت رأسها ببطء وهمسة، وكأنها تختبر صدقه:ليه؟

دار بعينيه، رفع كتفيه في براءة، وهمس: صبرني يا رب… بقلك مش بحب أزعلك!

رفعت حاجبها، وقالت متمتمة: صبرني يا رب! كده يا مالك؟!

رمش بعينيه مرتين، وهز رأسه وهو يبتسم في خبث طفولي: طب خلاص… عشان ماما… يا مزة!

شهقت عليا، وقبضت على ذراعه، وهزته بعنف مصطنع وهي تصيح: بتقول إيه يا لا؟!

ضحك بصوت مرتفع وهتف: إيه؟! ماهو عز بيقولك كده… هو عز أحسن مني يعني؟!

صرخت من الصدمة، وبينما هو يفر هاربًا، اصطدم بساق والده، الخارج لتوه من غرفة النوم، ما زال يحمل على وجهه آثار النوم، تمسك الطفل بساقه في ارتباك، وهمس متحشرج الصوت: حاسب… يا ابن الكلب، هتوقع على وش أمك!

ضحك مالك، وتراجع إلى الخلف وهو يهتف بدهشة: وش أمي إزاي يعني يا عز؟!

جاء صوت عليا من خلفه، حادًا ساخرًا: بس شوف الأسئلة اللي مش بتخلص! أنا تعبت… وانتو، ما شاء الله، الفولت عندكم عالي وأنا ضغطي هو اللي عالي!

وضع عز يده على أذنه، وغمغم كأنما يصارع صوتها:
بس إيه إذاعة وانفجرت في وش أمي! اهدوا.

ضحك مالك وهتف: وانت برضو وش أمك؟! أمال وشك إيه… إجازة؟!

أمسكه عز من خاصرته، ورفعه لأعلى كأنه دمية خفيفة:
ولا… لم لسانك ده وعدي يومك! أخوك فين؟

أشار مالك إلى أحد الأبواب:نايم لسه.”

هزه عز في عبث، وسأله:وانت إيه صحاك يا حلتها؟!

هز مالك رأسه، ورد بصوت ناعس: حلتها.

رفع عز حاجبه في دهشة: مين؟!

قهقه الطفل وقال: ماما… اللي أنا حلتها!

أنزله عز وهو يخفي ضحكته بصعوبة: روح البس، يالا… لتاخد برد!

أومأ الصغير برأسه وركض إلى الداخل، وفي تلك اللحظة خرجت عليا من المطبخ، تمسك فوطة بيدها، وهي تهتف:
لم لسانك يا عز قدام العيال! العيال هتنحرف… الواد بيقولي يا مزة!

ضحك عز ضحكة واثقة، وغمغم: عيل بيفهم… زي أبوه!

اقترب منها، طبع قبلة على وجنتها وهمس: هو في أمز منك؟!

ثم سرق منها قبلة أخرى، وقال بعبث: ده الواحد جاله حموضة من كتر المزمزة!

ضحكت بخفوت، وغمغمت: عز… الولد صاحي! بلاش فضايح… عيب كده.

ضمها إليه، ومرر يده على ظهرها برقة مدروسة، وهمس:
ما هو مسيره هيعرف كل حاجة يا بت!

قهقهت، ولكن شهقتها فجأة مع صوت مالك من الداخل:
إيه يا ناس! راعوا الطفولة بقا!!

ضحك عز وهتف:امشي يا لا! إنت الطفولة بره عنك… دانت سوابق يا روح أمك!

……………………………………………..

في أحد شوارع حاره الصاغه

كان الجو يميل إلى الدفء، والضوضاء تسري من كل اتجاه، تتسلل من النوافذ، ومن فتحات الأرواح المتعبة التي تبحث عن نسمة راحة.
وقف علي أمام بناية متوسطة الحال، يتأمل الطلاء المتقشر والأبواب المتهالكة، ثم استجمع هدوءه، وصعد درجات السلم المؤدي إلى البوابة.
دلف إلى الداخل بخطوات رزينة، وبصوت خفيض مملوء بالاحترام، هتف : السلام عليكم يا ريس.

رفع حارس العقار رأسه من فوق طاولة خشبية عتيقة، ورد مرحبًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلاً يا بيه، اتفضل… اامر.

مد علي يده وصافحه بود، ثم غمغم: كنت بس عايز أسأل… لو فيه شقة فاضية… إيجار قديم أو جديد، أي حاجة.

هز الحارس رأسه آسفًا وقال:لا والله، كل الشقق هنا تمليك، ما فيش حاجة للإيجار.

أومأ علي بتفهم، وأخرج من جيبه بعض النقود، دسها في كف الرجل وقال بابتسامة هادئة: طب بص… شكلك وشك سمح، وأنا واثق إنك هتخدمني… لو عرفت أي حاجة، شقة صغيرة حتى، كلمني. ده رقمي.

أخذ الحارس النقود دون تردد، وهز رأسه بإيجاب وهو يضعها في جيبه: سيبها على الله… أول ما توقع عيني على حاجة، هتلاقيني رنيت عليك ، يا بيه.

أخرج علي هاتفه وغمغم: قول رقمك وأنا هرن عليك علطول.

تبادلا الأرقام بسرعة، ثم ودعه علي وانصرف.
سار على الرصيف الضيق، يعبث بهاتفه، مستغرقًا في رسائل البحث، إلى أن شق سكون الشارع صوت فتاة يعلو بالصراخ الحاد، كأنه طلقة رصاص اخترقت أذنه:

  • لا يا عينيا! لو انت مصطبح بأي نيلة؟! ودماغك ضربت؟! أنا فايقة أوي… وهشوقك، ولا حد فارق معايا!

رفع علي رأسه بفزع، يتتبع مصدر الصوت، فوجد فتاة شابة تقف أمام محل ذهب صغير، تمسك سترتة رجل مسن، تهزه بعنف، ونظراتها تقذف نارًا.

صاح الرجل في فزع وهو يحاول انتزاع سترته: ليه كده يا ست نوسة؟! أنا شاري… هو أنا قلت حاجة غلط؟!

شهقت نوسه، وهتفت بحدة وسخرية قاتلة:انت كلك على بعضك غلط! شاري ايه يا شايب يا عايب؟! أعمل بيك إيه؟ أعلقلك المحاليل؟! دانت راجلك وجهنم!

استطاع الرجل انتزاع سترته أخيرًا، وغمغم محرجًا:
قالولي هتندم… وأنا مفهمتش. خلاص يا ست نوسة، اعتبريني بهزر… اعتبريني عيل وغلط!

صفقت بيديها بتهكم وهتفت:آهو انت اللي قلتها… عيل وغلط! وأنا مش هتجوز عيل، يعني لو شفت وشك هنا تاني، يابا!

أدار الرجل ظهره سريعًا، يركض كما لو أنه يفر من وحش كاسر، مرددًا: لا هنا ولا هناك… دانتي حقنة!

صرخت خلفه، وهي تلوح بيدها: ايوه امشي… قبل ما أشوقك! وخسارة يحسبوك عليا نفر!

توقف علي مذهولًا، يتابع المشهد كما لو أنه مشهد مسرحي عبثي.
نظر إلى الفتاة بدهشة، تمتم لنفسه: إيه البت دي…؟!

التفتت إليه بسرعة، نظرتها حادة ومباشرة، ويدها على خصرها، وهتفت: عايز إيه انت كمان؟!

رفع علي كفيه في استسلام، وهز رأسه وقال بهدوه المعتاد:أبدًا يا آنسة… أنا ماشي على طول، والله.

رفعت حاجبها وسخرت:على طول ولا على عرض؟! المهم وريني عرض كتافك… مش ناقصة نحنحة هي يا أخويا!

عقد علي حاجبه، ورد ببراءة حقيقية: نحنحة؟! يعني إيه؟ أنا مش فاهم…

زفرت بضيق، وصاحت: يا لهوي… ده أنا لسه هشرح! هو إحنا هنبتدي من أول السطر ولا إيه؟!

ظل علي يحدق فيها بدهشة، لا يفهم شيئًا مما تقوله، لكنها في عينيه كانت أشبه بمعادلة مستحيلة… فتاة ملامحها بريئة، لكن لسانها أشبه بسيف.

تحرك من مكانه وهو يشيعها بنظرات مشوشة، وهتف داخل نفسه ما تلك الفتاة الصاخبة؟! ملامحها تنبض بطفولة لم تمس… لكن لسانها كأنه عاش ألف حرب!

أدار ظهره ومضى في طريقه، بينما قلبه يردد دون وعي:
نوسة…؟!

………………………………………

في شقة عاشور الهواري

كان الهدوء خدعة، والسكينة مؤامرة مؤقتة.
جلست ضي إلى جوار حياة، تتظاهر بالتركيز، بينما قلبها يرتجف بانقباض خفي لا تعرف له سبب
كانت حياة تقلب صفحات الكتاب بعصبية، كأنها تبحث عن معلومة بين السطور قد تنقذها من الضياع.
ثم أغلقته فجأة، بأنفاس ضيقة، وقالت بضحكة هشة:
بحاول أمسك طرف الخيط، بس المعلومه مش بتيجي يا ضي.

رمقتها ضي بدهشة، نصف فزع ونصف سخرية، وهتفت:
إيه اللي بتعمليه ده؟ إنتي هبله يا حياة؟

أطلقت حياة ضحكة خفيفة وقالت: والله مش عارفه، بس جاتلي فكره… أنا مش بعرف إذاكر وأنا جعانه. تيجي نعمل أكل؟

هزت ضي رأسها بيأس، وكأنها ترى الجنون يتجسد أمامها، وغمغمت: إنتي اتجننتي يا حياة… يا حرام.

لكن حياة لم تبال، وأكملت:طيب نطلب كريب؟! أنا نفسي أطلب كريب.

وضعت ضي يدها على رأسها كأنها تتوسل إلى السماء أن تنقذها، وقالت بضيق: يا دماغي… يا حياة… أبوس إيدك سبيني إذاكر والنبي!

مطت حياة شفتيها وقالت بغيظ طفولي: ذاكري يا ست الدكتوره… إيه البت دي!

ثم… دق جرس الهاتف.

رنت نغمة الاتصال، كأنها تدق على جدران صدر ضي ارتبكت للحظة ثم أجابت وهي تضغط زر المكبر:
سامر! عامل إيه؟

جاء صوت سامر من الطرف الآخر حائرًا، مليئًا بالدهشة والقلق: ضي! إنتي فين يا بيبي؟! رحت القصر ملقتش حد!

شهقت حياة من وقع الكلمة، وهتفت مدهوشة:بيبي؟!بيبي إزاي يعني؟!

رفعت ضي يدها لإسكاتها، ثم نهضت واتجهت إلى الشرفة.

وقفت ضي، تنظر إلى السماء الخانقة فوقها، كأنها تبحث عن مخرج وهمي وقالت : زي ما بقولك كده ياسامر… إحنا مشينا من القصر. مش عارفه ليه… ولا إزاي…أنا مش فاهمه حاجه والمنطقة هنا مش مريحه ابدا وانا مخنوقه …

قال سامر بإصرار: طيب ايه رايك … تيجي عندنا؟! ماما هتفرح بيكي أوي! أنا هكلمك عمار وقوله ..

لمعت عينا ضي بحنين، وقالت : ياريت … ياريت يا سامر… نفسي أرجع لحياتي… وطنط وحشتني، وإنت كمان… أنا محتاجلك اوي

لكن لم تكتمل الجملة.

في ثانية واحدة، تغير كل شيء.

يد قوية انتزعت الهاتف من أذنها كمن ينتزع الروح.
وهدر بصوت غليظ، رعدي، خرج كوحش من أعماق الأرض : وحيات أمك… محتاجه ف إيه يا بت البدري؟! الشقة اتهدت على دماغك؟! تطلعي تلوكي في البلكونة والخلق رايحه جايه؟!

شهقت ضي ووضعت يدها على صدره، تصيح بدموع مرتعشة: إنت بتعمل إيه؟! هتوقف قلبي يا أخي! ليه انت مرعب كده؟! حرام عليك!

لكن لم يكن يرى سوى دمائه التي تغلي، وعقله الذي ينفجر.
وصوت سامر لا يزال يتردد من الهاتف: ضي؟ ضي؟! إنتي فين يا حبيبتي؟!

رفع سلطان الهاتف إلى فمه كمن يحمل سلاحا قاتلًا، وهدر: عايز إيه يا خـ؟! مترنش ع الرقم ده تاني بدل ما أجيبك متعلق وأفشخك ف أفكارك يا ابن المـ!!

جحظت عينا ضي وصاحت بغضب ممزوج بالذهول:
إنت سافل! بتشتمه كده ليه؟! هو عملك إيه؟! هات التلفون!

حاول القبض على يدها لكنها تراجعت بزعر وركضت الي الداخل
هز رأسه بجنون.. وقفز بخفه داخل الشرفه ..وركض خلفها ..
صاحت ضي برعب وهي تتمسك بـ عايده : الحقيني يا طنط هيقتلني !!
شهقت عايده بفزع وهتفت: في ايه؟!

اندفع سلطان يحرق الأرض تحت خطواته وقبض على يدها وصاح بغضب: إنتي لسه شوفتي سفالة؟! إنتي يطلع منك الردح ده؟! عمار إزاي سايبك كده؟!

حاولت ضي سحب يدها وهي تبكي: إنت تقصد إيه؟! يا همجي! يا قليل الأدب!

اندفعت عايده تحاول الفصل بينهم ، وهتفت وهي تحاول سحب ضي:في إيه يا بني؟! سيبها! هتكسر إيدها!

أفلت سلطان يدها ببطء، لكن النار لا تزال في عينيه وصاح : واقفه بمنظرها ده؟! في البلكونة؟! وتلوك في التلفون؟! وكمان مع عيل ملزق زي وشها؟!

صرخت ضي والغضب يأكل ملامحها: وإنت مالك؟! وهو مش عيل! ده المدرس بتاعي، وصاحب عمار، وباباه محامي بابا… وكل إخواتي عارفين إني بكلمه! ومالكش دعوه! يا همجي!

فقد سلطان صبره، وحاول سحب خصلة من شعرها بعنف، وصاح: وحيات أمك! هو كل الرصه دي عشان تكلميه؟! وانتي لابسه القصير ده؟! دانتي محتاجه تتربي من أول وجديد!

صرخت عايده وهي تدفعه من صدره الصخري : القلب على القلب رحمة يابني ! ميصحش كده يا سلطان!

لكن ضي لم تصمت… دموعها تحولت إلى لهب.

رفعت أحد الفازت ، وألقته في وجهه وهي تصرخ: همجي! بلطجي! ابعد عني بقى!

انحنى سلطان لتفادي الضربة، وهتفت عايده: يانهار اسود! اهربي يا ضي!

ركضت ضي إلى الاعلي وعايده تتشبث بسلطان، تتوسل:
أبوس إيدك، دي عيله يا حبيبي… معلش… ضغطت عليها، وانصرفت بهبل… عشان خاطري عديها!

لكن السلطان كأنه عاصفة لا تهدأ وهدر: أعدي إيه؟! دي بتضربني ف وشي! دي فاجرة يا عايده!

ربتت عايده على صدره وهتفت : أهدي… يا ضنايا… عمار صاحبك يزعل لو سمع كده… يا ابني دي مخنوقه.

زفر سلطان بغيظ، ثم قال ببطء :خلاص… هعديها المرة دي. بس لو البت دي طلعت البلكونة تاني… هطلع ميتن أهلها واحد واحد.

ثم استدار وأخرج سيجارته، وأشعلها، يتنفس دخانها كأنه يتنفس نيرانه، وقال بغيظ خافت: أشوفها… وأشوف حرقة الدم!

خرجت حياه وغمغمت بضحكه خافته : ده بيقولها بيبي يا عايده
جحظت عينين عايده واشاره لها بحنق وتمتمت : اشششش يلا تنشكي

نظر لها سلطان برفعت حاجب والنار تشتعل في عينيه وصاح: بيبي ماشي يا نغه أنا هفرجك يا بت البدري ..
…………………………………
في اليوم التالي…

في أحد الكافيهات الهادئة التي تنفث رائحة البن الحادة ممزوجة بصوت الأغاني الخافتة، جلس عمار إلى طاولة في أقصى الركن، شاردا في شاشة هاتفه، يقلبه بأنامل متوترة، فيما لم تفلح فصول الصبر المتتالية في تهدئة توتره. ألقى نظرة خاطفة إلى الباب الزجاجي، ثم زفر بضيق وغمغم ساخطا:اتاخرتي إيه بس يا آية؟! كل مرة نفس القصة!

عبث بهاتفه من جديد، ورفعه إلى أذنه وكأنه على وشك الاتصال، لكن قبل أن يضغط، انفتح الباب بقوة، واندفعت آية بخطوات مسرعة، تلهث كأنها كانت تجري من الزمن، ولوحت له بيدها وهي تلهج:أنا آسفة… آسفة يا قلبي، حقك عليا، بس والله الدنيا كانت زحمة موت، وانت مصمم على المعاد ده! وإنت عارف الزحمة ف الشغل عاملة إزاي في الوقت ده!

أنزل عمار الهاتف من أذنه، ونهض من مجلسه، وتقدم نحوها، دون أن ينبس بكلمة، فقط جذبها إلى حضنه كما لو كان يضمها ليخفيها عن هذا العالم الصاخب، وهمس في أذنها بصوت رخيم دافئ:خلاص… اهدي، محصلش حاجة يا حبيبتي.

مرغت وجهها في عنقه، تشبثت به كمن وجد ملاذه وسط العاصفة، وهمسة بصوت متحشرج:وحشتني… وحشتني أوي يا عمار.

مرر يده فوق شعرها بحنان بالغ، وقال بنبرة مليئة بالشوق:وانتي أكتر… وحشتيني فوق ما تتخيلي، يا قلبي.

انسحبت من بين ذراعيه برقة، ثم سحبته من يده نحو الطاولة وهتفت:تعال نقعد… عندي كلام كتير نفسي أقوله، ونفسي أسمعه منك.

جلس بجانبها، لكنه لم ينظر في عينيها، كان كمن يحمل هما أثقل من جسده، تنهد ببطء، ثم قال بصوت مبحوح:
مش عارف يا آية… مش قادر أفهم اللي بيحصل… فجأة نكتشف إن بابا عليه ديون بمبالغ خرافية، وباع كل حاجة قبل ما يموت… باعها لواحد اسمه خلف! مع إنه كان شريكه ف مصنع الحديد … بس اللي محيرني… إيه دخل خلف في كل أملاكنا؟!

مدت آية يدها، وأحكمت قبضتها على يده المرتجفة، وضغطت عليها بحنان وصدق، وهمسة:حبيبي اهدا، وروق على نفسك… إنت مش لوحدك، إحنا كلنا معاك… أنا واخواتك، إحنا ملناش غيرك، وكل حاجة هتتصلح… وقلبي بيقولي إن في حاجة غلط… أونكل عثمان عمره ما كان ياخد قرار زي ده من غير ما يبلغكم… أكيد في حاجة مش مفهومة!

رفع حاجبه وغمغم بشرود:هو ده نفس إحساسي… في حاجة مش طبيعية، بتحصل ورا ضهرنا… بس مش قادر أمسك خيط واضح.

ثم مرر يده في شعره بعنف، وكأن الغضب داخله يتحول إلى نار تلتهم سكينته، وتمتم وهو يعض على أسنانه:
هتجنن يا آية… لو أبويا ما باعش حاجة، وخلف ده نصاب… يبقى أنا فشلت، فشلت أحافظ على شقى وتعب أبويا… كل اللي بناه، راح! هقابله إزاي؟ هقوله إيه لما أقف قدامه؟ ابنك الكبير ضيع كل اللي تعبته فيه؟ حتى إخواتي مش عارف أحميهم…

رفعت يدها بحنان وربتت على وجنته، وقالت برقة تقطع القلب:اهدى… اهدى عشان خاطري… أول مرة أشوفك كده، قلبك تقيل بالحزن أوي.

هز رأسه ببطء وقال:
عشان أول مرة أحس إني قليل الحيلة… مش عارف أعمل حاجة، ولا حتى آخد قرار…

هزت آية رأسها بالنفي، ودمعة سالت من عينها دون أن تشعر، ثم همسة بإصرار وعزم: لا… ما تقولش كده… إحنا ما بنستسلمش… وهنفضل نطالب بحقنا، لحد آخر لحظة، وعمرنا ما هنيأس… وأنا عمري ما هسيبك، حتى لو مفيش حاجة رجعت… نبدأ من الأول، نبدأ من تحت الصفر، بس نبدأ سوا.

نظر لها بدهشة، وكأن كلامها أعاد له الروح، ثم تمتم بخفوت:
يعني… تقبلي تتجوزيني، حتى لو ماقدرتش أرجع أي حاجة؟ حتى لو مستوى حياتي اتغير

مسحت بيدها على وجنته، ثم ابتسمت من بين دموعها وقالت:
مفيش أي حاجة تفرق بينا… لا مستوى، ولا فلوس، ولا حتى الدنيا كلها… أنا مستعدة أعيش معاك في أي حتة… فـ أي ظرف… المهم أكون جنبك.

اقترب منها، مسح دموعها بأنامله، وقال بشغف صادق:
ربنا يخليكي ليا… يا قلبي… أنا بحبك أوي يا آية.

وضعت يدها فوق يده، نظرت له بعينين ممتلئتين بالعشق واليقين، وقالت بصوت واثق خافت:
وأنا بموت فيك يا ميرو… وهفضل جمبك لحد الدنيا متضحك لينا تاني وهنرجع حقنا …
……………………………..
في الحاره

غادر سلطان الهواري المنزل، كعادته لا يسبقه سوى ظلال من مهابة وصمت مهيب. صعد إلى سيارته بخطى الواثق، وانطلقت العجلات كأنها تستجيب لأمر لا يرد.

توقف أمام أحد المحلات ، أطفأ المحرك ببطء، ثم هتف بصوته الجهوري: عزز!

رفع عز رأسه من داخل المحل، لمح سلطان واقف ،ترك القلم وخرج بخفة وهتف : حبيبي… نويت بقا؟!

أومأ سلطان برأسه، وعيناه لا تفارقان الأفق: آه… هغيب كام يوم. فتح عينك كويس… ولو حصل أي هزة، كلمني. وشوفلي العـ** ده فين…

شد عز على قبضته، ورد بثقة: متشيلش هم… وخلي بالك من سكتك، يا شقو.

اعتدل في وقفته، وزمجر بصوت هادر، يهز جدران الحارة:يا رااااجح!

خرج راجح من المحل المجاور كأنه طرد من رحم النيران، ورد وهو يعدل وضعه: أنا هو يا ريس!

اقترب عز، ربت على صدره، وهتف بصرامة لا تخلو من الحنان:فتح عينك ياض… وبلاش حشيش… وحياة أبوك، لحد ما ترجعوا.

هز راجح رأسه في استسلام، وتمتم بخبث ساخر:
يابا … أوع بس. ريحة الحشيش اللي ف سجارة سلطان سطلت الحارة كلها!

انفجر عز ضاحكا ، بينما فتح راجح باب السيارة، وصعد بجوار سلطان، الذي انطلق بالسيارة بسرعة، وغمغم بصوته العميق:أمنت يا عضم…

رد راجح، وهو يطالع هاتفه المحمول: تمام… وصلت كمان، يا جنرال.

لم ينظر له سلطان فقط قال بكلمة نزلت كالرصاصة:
لما نشوف آخرتها مع ولاد المـ*؟؟
………………………….

مساءا ف الحاره

كانت السكينة تلف الحارة… حتى شق صمتها صوت المحركات.

دلفت ثلاث سيارات دفع رباعي، تصرخ بالقوة، تصفع الأرض بعجلاتها، واصطفت أمام منزل سلطان الهواري بصخبٍ متعمد، وهيمنة متعمدة، وجنون.

ترجل من السيارات رجال… لا، ليسوا رجالًا، بل وحوش في هيئة بشر… وجوههم جامدة، باردة، عيونهم مشبعة بالشر، وكأنهم خرجوا من جحيم خاص لا يعرف الرحمة.

تراجع الأهالي، ارتجف الهواء، واختبأت الأرواح خلف الأبواب والنوافذ.

ثم ترجل خلف…خطاه بطيئة… ثقيلة… مشبعة بسم قاتل.
لا يصرخ، لا يهاجم، لكنه… يزرع الموت في الأرض كلما خطا.

نهض عمار، عز، وياسر وإبراهيم من أماكنهم، أجسادهم مشدودة، عيونهم تقدح شررًا.
اقترب خلف منهم، وتسلل صوته الساخر، الخبيث: لينا نصيب نتقابل تاني… يا ولاد البدري !!

قطب عمار حاجبيه، وهتف بحنق مكبوت:انت عايز إيه؟ مش خدت اللي انت عايزه؟! سبنالك كل حاجه… عايز إيه تاني؟!

هز خلف رأسه ببطء، ورد بصوت ميت: ليه العدوانية دي يا عمار؟… أنا جاي أطالب بحقي، زي أي راجل صاحب حق.

اندفع عز بخطوة غاضبة، وصاح: حق إيه يا راجل يا ناقص؟! انت اتجننت في نفوخ أمك؟!

تدخل عمار سريعًا، وأمسك بعز من ذراعه، وهو يهتف:
اهدى يا عز ! ده راجل زي التعبان… ما يتجرحش، بس يداس!

غمغم ياسر بدوره: اصبر… اصبر، يا عز…

نظر خلف إليهم ببرود قاطع، وتمتم بسخرية: اهدى يا شبح… منك له.

أخرج من جيبه شيكًا، رفعه بهدوء قاتل وأشار إلى عمار:
المحاسبين حسبوا ديون أبوك… الأملاك والأصول… ما كفتش… فاضل مليون دولار.

اقترب إبراهيم، وهتف بغضب: انت اكيد معتوه أملاك ابونا كلها مكفتش دي ثروتنا معدي المليار دولار يا نصاب

تمسك به عمار صاح بنفاذ صبر: بله واشرب ميته… احنا محلتناش حاجه!

صاح إبراهيم محتقنًا: روح اشتكي! واللي مضى على الشيك… الله يرحمه!

ابتسم خلف ابتسامة سامة: مين قال؟ انت كنت المدير التنفيذي يا عمار… لو رئيس مجلس الاداره مات، المدير لسه عايش… ولا إيه؟!

زمجر عز:هو رم جتت والسلام يا رمه انت ؟!
لكن خلف تجاهلهم، اقترب أكثر، وقال بنبرة خبيثة: أنا مش طالب غير حقي… مليون دولار… أو… أعتبرهم مهر لأختك.

سقطت الكلمات عليهم وعلى الأرض كالصاعقة.
توقف الزمن وانحبس الهواء

شهقت ضي في الشرفة، وهي تقف خلف حياة، وعايدة، وبطة… وارتجف قلبها ، وانهمرت دموعها ، وتجمد جسدها من وقع الكلمات…. وهي تشعر أن تلك المره لا مفر سجنها أو سجن شقيقه

يتبع

ساحره القلم ساره احمد

5 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Salma Mohamed
Salma Mohamed
12 أيام

❤️❤️❤️❤️❤️