اصفاد العشق والهوس(الفصل الثالث الثلاثون)

وإن سألوك عن الإهتمام فقل لهم إنه كلمة السر
التي تفتح القلوب.
فعندما طلب أحدهم من أحد الرسامين أن يرسم صورة لباب القلب ،فرسم قلبا جميلا لكن لم يرسم للباب مقبضا
فسئل عن السبب ……فرد قائلا: أبواب القلوب تفتح من الداخل
وليس من الخارج……….
الذي يبقى في القلب ليس الأقوى..ولا الأجمل ولا الأحب ..
بل الذي يبقى فى القلب هو من لمس في الروح ..شيئا لم يلمسه أحد من قبله……………
القلوب الطيبة كالذهب ..لا تصدأ حتى لو أثقلها التعب…وتعود لبريقها بمجرد كلمة جميلة …ابحث عن القلوب الطيبة من حولك
. سلامآ على من يمتلكون براءة القلوب في زمن عزت فيه المشاعر
سلامآ لقلوب الطيبة الصافية التي تُثمر حُبآ وتعطينا الأمل في الحياة… سلامآ لـمن يملكون جمال الروح وصفاء النية ولا تعرف
قلوبهم سوى الوفاء…
عندما تريد أن تعرف من يستحق أن يستوطن اعماقك؟
انظر إلى من يجعلك تشعر أن خاطرك فوق كل شيء…
توقف عند الأجمل..و ٱحتفظ بها..حتى و لو بذهنك
فالأرواح تحتاج الأنقياء قلبا ،و الأوفياء دهراً.
اقترب جلال وقال : اوعي يا زاد خلينا اشيلها بدل ما تقع في الشارع ..
اومات زاد برأسها وحاولت الانسحاب ..فتمسكت بها وتين ..وهزت راسها بالنفي بهستريه وهتفت: لالا مينفعش !!
حدق بهم إيهم بغضب حارق.. وفتح باب السياره بغضب حارق ..وعاصفه هاوجا تهدد بالانفجار منه واقتلاع الاخضر واليابس ..
اوما جلال وهتف عندما رفضت وتين بهستريه ورعب وغمغم : خلاص يا وتين اهدي ..اسنديها يا زاد يلا اطلعوا !!
اغلق إيهم الباب مره اخري بعنف ..وصدره يعلو ويهبط بنفعال حارق.. وكل ذره منه تغلي كبركان اوشك علي الانفجار ..ضرب رأسه بالمقود بقوه ودموعه تقطر بالم..
وهو يضغط على فكيه بغضب ودار المقود بعنف وانصرف وهو ينظر لها في المراء بقهر لم يعرفه من قبل ..
في شقه بدريه …
فتحت الباب تهم بالخروج حتي تذهب الي المستشفي بعد أن أحضرت الطعام لابنتها ..لكنها قطبت حاجبيها بدهشة عندما وجدت وتين وزاد أمامها.. وخلفهم جلال ..
وهتفت : جري ايه؟! ايه اللي طلعك من المستشفى وانتي تعبانه!!
نظرت لها وتين بحزن وهمسة بصوت ميت : إيهم يا ماما !!
ألقت نفسها بين أحضان والدتها وهي تنحب وتشهق بعنف وحسر علي زوجها وحبيبها وعشقها الذي اضاعته بغباءها وضعفها …
ضمتها بدريه وهي تنظر إلي زاد بحيره.. هزت زاد رأسه بحزن وهمسة : تعالي جوه وهنحكيلك يا خالتي !!
دلفت بدريه بوتين ..وزاد وجلال واغلق الباب خلفه ..
جلست وتين على الأريكة بملامح شاحبة كالموتى وعيون زائغه ..وكأنها خرجت لتوها من قلب العاصفة.. جسدها يرتجف برعشة خفيفة.. وشفتيها ترتجف تحاول أن تستجمع أنفاسها المتقطعة..
اقتربت منها بدريه وهتفت بحده بمزيج بين الخوف والغضب : يعني اللي حصل مكنش حادثه! وانتي يا وتين كنتي قاصده تموتي؟ كنتي عايزه تروحي مني بالبساطة دي!! مفكرتيش ف امك اللي ضيعت عمرها كله عليكي يا بت بطني !!
انتفضت وتين من قوة صوت أمها الصاخب ..وهزت راسها بالنفي.. وهمسة بصوت أجوف خالي من الحياه : لالا مكنش قصدي !!
وقفت زاد مشدوه بما سمعت وتقدمت وقبضت علي ذراع وتين وهزتها بعنف وهتفت بانفعال : انتي بتقولي ايه!! يعني ايه مش قصدك دي؟! انتي بتلعبي بحياتك يا وتين !!ويوم ما تموتي تموتي كافره ليه؟؟ عشان ايه كل ده؟! انتي مستوعبه انتي وصلتي لايه ؟!
حاولت وتين فتح فمها لكن شهقتها خيانتها وهزت راسها بالنفي وهي تنظر لهم بعيون غارقه ف الالم وهتفت بصوت مخنوقه بعبارتها : إنتو متعرفوش!! متعرفوش اللي حصل؟ متعرفوش الكلام اللي قالتهولي؟!
جلست بدريه بجانبها وسندت بيدها علي ركبتها وهتفت بحده : طب احكي! قوليلي قالتلك إيه الارشانه دي خلتك توصلي للحالة دي ؟!
ارتجف جسدها بقوه وكأنها لا تزال عالقة في تلك اللحظة ومتلأت عيناها بالدموع وهي تحكي: قالتلي إني مش أكتر من جسم! جسم أيهم بيفرغ فيه طاقته وبس..
إني مش مراته.. مش مراته بجد!! إنه عمره ما هيختارني شريكة حياته.. إني مجرد لسرير مش أكتر !!
تجمدت بدرية في مكانها بصدمه وشعرت كأن قلبها يعتصر بالم حاد.. وشهقت زاد بذهول وهتفت بعصبية:
إيه الكلام ده !! إنتي سمعتي ده وسكتي ما ضربتهاش ليه في وشها ؟ ما كسرتيش البيت علي دماغها ليه ؟!
انهارت دموعها على وجنتيها وهي تتابع بصوت مختنق: ورتني صورة!! صورة أيهم مع واحدة دكتورة مشهور ومكتوب فوقها خطوبة الدكتور أيهم أبو الفضل على الدكتورة حنين عز الدين ..
شهقت بدرية وصكت صدرها وكأن قلبها توقف للحظة حدقت زاد بها بذهول وكأن عقلها لم يستوعب بعد وصرخت بجنون : إييييه الجنان ده ؟!
أكملت وتين وكأنها غارقه ف ذكريات تعيد إحياء الالم بداخلها وهمسة بضعف : قالتلي لما يجي يختار زوجة تشرفه مش هتكون واحدة زيي.. قالت إني فاشلة حتي مختيش شهادتي ..وماليش شخصية.. وكله كوم وإني مريضة نفسية كوم لوحده …قالت إني مكاني مش جنب ايهم مكاني مستشفى المجانين !!
اختنق صوتها ف اخر جملتها كأن الألم قد تغلغل بداخلها لدرجة أنها لم تعد تشعر بشيء، وشهقت بعنف ودفنت وجهها في كفها .. وانفجرت ببكاء مرير بكاء يخترق القلب ويفتته ..
سحبتها بدريه وهي تنحب وتشهق بعنف.. وضمتها بحضنها وهي لم تعد قادره علي التحكم في نفسها وصاحت بانفعال : وإنتي صدقتيها!! صدقتيها ورحتي ترمي نفسك تحت عربية.. كان عقلك فين يا وتين؟ دي ست حقودة شيطانة.. كانت عايزة تدمرك كانت عايزة توصلك للي حصل ده .. إزاي يا بت؟ إزاي تخلي العيبها تمشي عليكي!!
ارتجفت وتين بين أحضان والدتها وهي تتمسك بها وتنحب بهستريه ..
زرعت زاد الغرفه ذهابا وإياب بانفعال وهي تعض أصابعها بغضب حارق وصاحت بغل : أنا لو كنت مكانك كنت مسحت بيها الأرض ..دي مش بني آدمة.. دي واحدة وسخة! مقرفة .. قلبها حجر! مش معقول وإنتي غبية غبية.. عشان تخلي كلامها يأثر فيكي !!
اقتربت منها وصاحت بغضب: ازاي تصدقي أن إيهم اللي بموت ف تراب رجليكي بيص لوحده غيرك؟ ازاي انتي مش بتشوفي بيبصلك ازاي!! ده قلبه كان هيوقف من خوفه عليكي يا شيخه حرام عليكي بجد !!
اقترب جلال وقبض على ذراع زاد وشدها إليه واجبرها علي التراجع.. وغمغم بهدوء صارم : كفايه يا زاد كفايه !!
التفت إلي بدريه وهتف بحزم : وانتي كمان يا امي كفايه كده ..أنا فاهم خوفكم عليها.. وزعلكم منها.. بس بلاش نزيد عليها ! هي اصلا مدمرة ..كفايه اللي هي فيه ..هتبقوا انتو وهما عليها !!
هزت زاد رأسها وتراجعت للخلف بحزن .. ومسحت بدريه علي شعر وتين بقلب مفتور وهتفت : عندك حق يا ضنايا عندك حق!!
نظر جلال الي وتين واقترب منها ..وجثي أرضا أمامها ورفع وجهها برفق ومسح دموعها بحنان.. وتمتم بصوت دافئ : إنتي كنتي في لحظة ضعف!! وده بيحصل لينا كلنا .. بيحصل لأي حد! حتى أقوى الناس..
بس المهم إنك رجعتي علي اخر لحظه.. المهم إنك هنا دلوقتي.. وإنك ما استسلمتيش يا وتين !!
ارتجفت وتين بين يديه وشعرت كأن كلماته تهدهد روحها الممزقة ..لكنها لم تملك سوى أن تهمس بصوت باكي :أيهم فاكر إني رميت نفسي قصاد العربية… فاكر إني حاولت أنتحر عشان ابعد عنه.. هو مش مصدق إني !!
قاطعتها بدري بحيره مغلفه بالحزن : وإنتي ليه مقولتيش!! ليه مردتيش؟ ليه سيبتيه فاهم غلط كنتي تفهميه يا بنتي؟!
نظرت لهم وهمسة بضعف : ما يوم ما فقت وانا بحاول أقوله.. بس هو مكنش بيديني فرصه ..ولما وجهني بالجواب كنت حاسه اني خلاص مستاهلش حتي ابرر..
أنا استاهلش ايهم يا ماما !!
أغمضت بدريّة عينيها بقهر واحتضنت ابنتها فجأة بقوة بقسوة وكأنها تريد أن تعيدها إلى داخلها.. إلى رحمها…
إلى مكان لا يستطيع أحد أن يؤذيها فيه…
وهمسة بصوت مقهور : غبية !! غبية بس بنتي وأنا مش هسيبك تتكسري تاني فاهمة ..مش هسيبك!!
اقتربت زاد ومسحت دموعها بغضب وهمسة بانفعال لكن بصوت هادئ هذه المرة: إيهم بيحبك يا وتين ..وانا مش هسكت غير لما يفهم اللي حصل ويرجعلك يا قلبي !!
ربت جلال ع راسها وقال: انتي دلوقتي اختي يا وتين .. وخلاص مش هسمح لحد يمسك بكلمه.. حتي لو المجنون بتاعك.. عايزك تصنبي ضهرك كده.. وبطلي عياط واسندي ضهرك اخوكي ف ضهرك !!
شهقت بدموع وهمسة : ربنا يخليكم ليا يارب!!
بس انا عايزه إيهم.. أنا مش هعرف اعيش من غيره..
انا بحبه اوي والله !!
ضحك جلال وهتفت زاد : غبي اوي!! أنا هوريه ..
هزت وتين راسها بالنفي وغمغمت بدموع ؛ لا متقوليش عليه كده.. هو مش غبي! إيهم احسن راجل ف الدنيا ..
ضحك الجميع بصخب وهتفت بدريه: قومي يابت من جمبي بلا سهوكه فاضيه !!
…………………………………….
ف اليوم التالي ف المستشفى
دقت زاد مكتب ايهم .. ودلفت ولكنها توقفت بدهشه وهي تري المكتب فارغ منه وهمسة: ايه ده هو فين الرجل ده ؟!
أغلقت الباب وتحركت ف الممر.. حتي تقابلت مع الدكتوره صفاء تمسكت بها وهتفت : دكتوره صفاء استني معلش !!
توقفت الدكتوره صفاء وقالت : نعم يا دكتوره ف حاجه ؟!
اومات برأسها وقالت: اه هو الدكتور إيهم فين ؟؟
إشارة بيدها وهتفت: ده اتصل امبارح باليل وقال إنه ف اجازه مفتوحه.. وأنه مسافر بره مصر !!
شهقت زاد وهتفت : ايه! سافر ازاي ؟! طيب سافر فين ؟؟
مطت الدكتوره صفاء شفتها بجهل وقالت: علمي علمك يا دكتوره !!
تراجعت زاد وهي تشعر بدوار يجتاح راسها وهمسة بحزن : سافر ازاي !! دي وتين ممكن تروح فيها يا مصيبتي ..
حدقت بها الدكتوره صفاء وتمسكت بها وهتفت: اهدي يا زاد.. في ايه؟! ومالها وتين ؟!
نظرت لها زاد بدموع متحجره وهزت راسها بالنفي ولكنها توقفت علي صوت جلال : زاااد…
نظرت له ودموعها تنزل ببطئ ..وهرولت إليه والقت نفسها باحضانه.. وضمها بحضنه بدهشه وغمغم: مالك يا قلبي! حصل ايه!! بتعيطي ليه ؟!
غمغمت بدموع وهي تدفن وجهها بعنقه وغمغمت بدموع: سافر يا جلال!! إيهم سافر بره مصر ف اجازه مفتوحه !!
اغمض عينيه وتشنج فكيه بغضب ومسح على شعرها بحنان وهمس: اهدي يا زاد!! متعمليش ف نفسك كده !!
خرجت من حضنه وهمسة بصوت مخنوق : اهدي ازاي؟! دي وتين ممكن تروح فيها يا قلبي!! مش هتتحمل أنا عارفه !
مسح علي وجنتها وقال: متخفيش واحنا روحنا فين!! احنا معاها بس انتي متعرفيش سافر فين ؟!
هزت راسها بالنفي وغمغمت: لا محدش يعرف !!
اوما برأسه وقال: متقلقيش أنا هعرف.. بس انتي اهدي.. ولو حكمت نخلي وتين تسافر له.. نسفرها…
حتي تستفرد بيه وتصالحه غصب عنه.. وهو هيضعف قدامها أنا عارف !!
هزت راسها وهتفت: ازاي يضعف قدامها ..وهو هان عليه يسافر ويسيبها ف الحاله دي !!
ضحك وتمتم : عشان لو فضل هنا مكنش هيتحمل بعدها يومين.. وكان هيصلحها عشان !!كده سافر ؛
أغمضت عينيها وهمسة: يارب يرجع بقا أنا قلبي وجعني عليهم اوي !!
ضمها لحضنه وهتف: هيرجع يا قلبي.. هيرجع !!
………………………………………
ف احد المولات التجارية ..
خرجت ميرا من محل الملابس وهي تنحب بصوت مكتوم.. وسامح خلفها وقبض على ذراعها أوقفها وهتف : انتي اتجننتي يا ميرا!! بتسبيني وتجري كده ايه شغل العيال ده ؟!
حاولت سحب ذراعها وهتفت: انتي زعل أنا سامح !!
رفع حاجبه بدهشه وقال: أنا اللي زعلتك؟؟ وانتي فرحتيني لما كل حاجه تختاريها مفتوحه أو قصيره وانتي عارفه اني مش بحب كده !!
صاحت بغضب : انتي تخنق أنا سامح كفايه كده حبيبي !!
قبض علي ذراعها وسحبها اليه وهتف بدهشه : ايه الكلام ده !! انتي قعدتك مع زاد هتبوظ دماغك يا بت ؟!
عضت شفتها بالم وغمغمت بدموع: انتي توجع أنا سامح !!
سحبها لحضنه بقوه وضمها وهمس في أذنها : يا حبيبتي بلاش تسمعي كلام حد أنا هبقي جوزك ومينفعش تسمعي كلام حد غيري..
ضربت الأرض بقدمها بغضب طفولي وهمسة : أنتي مش بتحب أنا !!
مسح علي شعرها بحنان وقبلها بجانب أذنها وغمغم : أنا بموت فيكي ..مش بس بحبك وعشان كده مش بستحمل حد يشوف شعره منك !!
عضت شفتها وهمسة: كتير غيور انتي ..
مسح علي وجنتها وقال: موت! عارفه يعني ايه موت ؟
هزت راسها وهمسة: عارف سامح موت يعني كده !!
أغمضت عينيها ومالت للخلف بجسده .. تمسك بها بقوه وحاوط خصرها وقربها إليه وهمس: يا مجنونه توقعي !!
حاوطت عنقه وهمسه أمام شفتيه : أنا أثق فيك سامح !!
عض شفته بعبث وهمس: يلا نتجوز بقا أنا خلاص بنهار وربي ..
ضحكت بمرح وضمته إليها وهمسة: احبك جدااا سامح ..
مسح علي شعرها وقال: تعالي كده كان ف لانجري جوه يجنن تعالي نشتريه!!
لكزته بخفه وقالت: سامح ايها الوقح !!
سحبها لحضنه وهتف: تعالي بس انتي لسه شوفتي وقاحه!!
………………………………………
بعد مرور أسبوع ..
ف منزل بدريه ..
كانت غرفة وتين غارقة في صمت ثقيل ..صمت أشبه بصوت الموت وهو يتسلل ليحصد روحا قبل أوانها…
كان الهواء راكد خانق، مشبع برائحة المرض واليأس ،
كانت وتين ممدده علي فراشها كجثه هامده ..اوشكت على مفارقة الحياه هزيلة، نحيلة..
كأن جسدها يذوب ببطء، ملامحها شاحبة، شفاهها متشققة، وعيناها تحدقان في الفراغ بلا حياة..
جلست بدريه على طرف الفراش وهي تمسك بيد ابنتها الباردة بارتجاف ..امتلأت عينيها بالدموع الحارقه بوجع لا يحتمل ..
جلست زاد من الطرف الآخر من الفراش .. وهي تحاول التماسك لكن عيناها المتورمتان من البكاء فضحتا رعبها ..
كانت غرام تجلس تحت أقدامها وهي تمسح دموعها بيديها.. عاجزة عن رؤية صديقتها بهذا الشكل…
بينما حمزة كان يقف عند باب الغرفة يضغط على قبضته بقوة كأن العجز يقتله…
دلفت عنايات الي الغرفه وهي تحمل طبق من الشوربة الساخنة ..واقتربت من السرير ووضعت يدها على جبين وتين برفق..
ثم نظرت إلى بدرية وعيناها تلمعان بالدموع، لكنها حاولت أن تتمالك نفسها وهتفت : هتفضلوا كده مستنين الدكاترة والمحاليل تقومها… البت لازم تاكل، لا دكاترة ولا أدوية هيرجعوا روحها!!
زفرا الطبيب بحنق ..وهو يغلق حقيبته بعد أن أنهى فحصه ونظر إليهم بقلق وحذر .. وقال بصرامة : اللي بتعمله وتين ده مش اكتئاب عادي ..دي بتموت بالبطيء!! جسمها فقد كل المغذيات اللي محتاجها ..ولو فضلت كده هتموت خلال أيام.. لازم تأكل، ولازم تشرب، حتي لو غصب عنها !!
شهقت بدريه وصكت صدرها وغمغمت بدموع : لا والنبي دانا كنت اموت وراها بحسرتي.. والنبي يا ولاد كلموه! اتصلوا بيه ..هو لم يعرف اللي هي فيه هيرجع أنا عارفه مش هتهون عليه !!
أطلقت غرام شهقة عالية.. وانفجرت في بكاء مرير
مسح حمزة علي شعره بحزن وهو يلعن نفسه وعجزه…
واستدار الي جلال الذي كان صامتا طوال الوقت، عيناه مشتعلة بالغضب والحزن، وقال بصوت غاضب:
هنفضل ساكتين كده! هنسيبها بتموت قدامنا !!
نظر له جلال وهز رأسه بغضب ..
وتسللت لذاكرته المكالمة الأخيرة مع شامل صديق ايهم :
يا جلال… أيهم حالته خطيرة جدا… حصله مضاعفات بسبب الذبحه ، الدكتور بيقول لو فضل علي حاله ده ، ممكن مايقومش..وانا مش عارف اعمل ايه ؟!
شعر جلال بالارض تدور بها … لكنه كتم، شد على نفسه، وقال بصوت ميت: ما تقولش الكلام ده قدام حد… متخليش حد يعرف، خصوصا وتين هتموت فيها هي كمان !!
نهض واقترب من الفراش.. وجلس بجانب وتين.. ومسك يدها التي بالكاد يمكن أن تسمى يدا …
كانت نحيلة جدا ..وعروقها ظاهرة ..وباردة كأنها لم تعد تنتمي إلى الأحياء …
نظر الي وجهها الشاحب وجسدها الهزيل وهو يشعر كأنه يري أمامه نسخه اخري من ايهم وهمس لنفسه بوجع : لو تعرفي يا وتين اللي فيه ايهم هتموتي قبله بالشكل ده.. وانا خايف اشيل ذنبكم انتو الاتنين ..
همس بصوت خشن لكنه مليء بالألم: هتموتي عشان أيهم؟؟ طيب لما يرجع ويلاقيك جثة ..تتوقعي هيعمل إيه؟ هيعيش ولا هيموت وراك؟!
رمشت بعينيها دون رد وكأنها لا تملك طاقه لترد …
اقتربت منها عنايات وهي تنحب بصوت مسموع ..ومسكت وجهها بين يديها ..وصرخت بلهجه متوسله غاضبه لكن حنونه : يا بت قومي!! قومي كلي لقمة ..ده أنا خالتك نعناعه وعملتلك الاكله اللي بتحبي!!
طيب بصي لامك هتسبيها تموت بحسرتها عليكي؟! الموت ده مش ليكي ..اسملله علي شبابك يا بنتي !!
انضمت بدريه لها ومسكت يد وتين المرتخية وحاولت أن تهزها برفق .. وكأنها تحاول إيقاظها من غيبوبة قاتلة.. وصاحت بدموع : حبيبتي.. بصيلي سايق عليكي النبي بصيلي!! بصي لخواتك .. زاد وغرام ..بصي لأخوكي حمزة، بصي لينا كلنا إحنا هنعيش إزاي لو مت!!!
رفعتها زاد وزحفت خلفها واسندت ظهره وتين علي صدرها ..وصرخت بانفعال وهي تهز منكبيها بقوة:طب موتي ..بس مش بالطريقة دي!! عيشي عشانه.. ارجعي له وانتي قوية ..مش مجرد ذكرى هتوجع قلبه.. وتطارده طول عمره.. حرام عليكي يا وتين بلاش توجعي قلوبنا عليكي !!
لكن وتين لم تتحرك كان جسدها جامدا وكأنها تحولت إلى قطعة من الجليد…
اقترب حمزه بخطوات غاضبه وقد فقد صبره… مسك يدها وصاح بها : وتين !! بصيلي.. بصيلي يا بنتي…
فوقي هتموتي نفسك عشان واحد …
طب شوفي أمك هتموت قبلك من الحسرة !! وشوفي زاد اللي مالهاش غيرك.. وشوفي غرام اللي مش قادرة تبطل عياط !!
اخيرا نظرت لهم.. وارتجفت شفتيها ..وكأن أصواتهم ونحيبهم اخترق جدار الموت الذي حاصرها …
اقتربت عنايات والتقطت المعلقه وقربتها من فمها وغمغمت بصوت مرتجف حنون : عشان خاطري لقمة واحدة بس.. واحدة يا ضنايا وبعدها اعملي اللي تحبيه !!
أضافت بدريه بنحيب : يا بنتي أرجوكي كفاية علينا الوجع اللي إحنا فيه !!
همسة غرام وهي تضغط علي ساقها بصوت باكي :
وتين يا حبيبتي إحنا مش هنتحمل نخسرك !!
نظرت لهم جميعا وامتلات عينيها بالدموع.. شعرت بحبهم .. وشهدت ضعفهم أمام موتها .. ودموعهم التي تناديها كي تعود!!
وببطء كأنها تحمل جبال من الألم على منكبيها فتحت شفتيها قليلا وقبلت اللقمة !!
كانت مجرد لقمة لكنها كانت إعلانا للحياة …
هللت وجوههم جميعا بفرحا بهذا التقدم الغير ملحوظ.. ولكنها اول لقمه تنزل جوفها منذ اسبوع ويكفي هذا الان !!
……………………………………..
ف مستشفى في لندن
داخل غرفة العناية المركزة…
ليل دامس.. وصمت موحش ..تسللت الظلال على جدران الغرفة الباردة .. كأنها تنعي روحا تأبى أن ترحل…
كان جسده ساكنا كجثة لم تدفن بعد ، أنفاسه متقطعة، بالكاد تنتزع من صدره المثقل بألم لا يحتمل،
لا من مرض، بل من فقد خفي يحفر في الروح دون رحمة…
كأن الحياة قد ضاقت بأوردته، وكأن قلبه الذي أرهقته الذبحة، بات يخشى أن ينبض في غيابها….
تشنج جسده فجأة، شهقة خرجت من صدره المحطم، وبدأ يهمس باسمها كمن يلفظ الوصية الأخيرة: وتين…
انساب اسمها من بين شفتيه كأنه يستدعيها من قبر حفر بينه وبينها بالخذلان…
مد يده المرتجفة في الفراغ، يبحث عنها كالغريق وسط العتمة، عينيه مغرورقتان، تائهتان، لا تريان إلا خيالها
وغمغم بدموع : إنتي جيتي يا عمري ؟… وحشتيني أوي يا وتين قلبي… والله ما بعرف أتنفس من غيرك…
ليه؟ ليه عملتي فيا كده؟… أنا اللي كنت بحارب الدنيا عشان أعيش ف حضنك ، جيتي إنتي، قتلتي قلبي وانتي لسه بتنطقي اسمي…
تساقطت دموعه على الوسادة كأن روحه تخرج مع كل قطرة، واستمر يهمس بصوت مهزوم، محطم، مجرد من أي كبرياء: كنت نفسي اعيش عمري كله ف حضنك … كنت هقاوم اي حاجه طول مانتي جمبي … بس بعدك، كل حاجة وجعتني… حتى النفس وجع يا وتين !!
ابتسم من بين دموعه وغمغم : فاكرة حضني يا حبيبي ؟ فاكرة إزاي كنت بخاف عليكي أكتر من نفسي؟ طب ليه سبتيني؟
في تلك اللحظة، اندفع شامل إلى الغرفة، ووقف مصدوما أمام صديقه المنهار، جسد عليل وروح ذبيحة… اقترب منه ببطء، وانحنى بجواره، يشد الغطاء على صدره المرتجف،
وهمس بصوت مكسور:أيهم… اهدى يا حبيبي… أنا هنا… إنت مش لوحدك… والله العظيم لو كانت تعرف اللي فيك كانت جات تجري…
صدقني يا اخويا، هي بتموت هناك وانت هنا وان شاء الله هترجعوا لبعض بس إنت اصبر… بالله عليك ما تتهدش كده !!
لكن أيهم لم يجب، ظل يتنفس بصعوبة، والدموع تسيل من عينيه المغلقتين، شفتيه ترتعشان كأنه يناجيها في حلم… أو في احتضار : وتين… ماتسبنيش… أنا تعبت… مش قادر… مش قادر… انا بحبك اوي
وامتد صدى صوته المكسور كنداء يتيم في صحراء لا مجيب فيها، كأن كل من في الغرفة سمع صرير قلبه وهو يتفتت… بصمت.
……………………………………
بعد مرور أسبوع ف لندن ..
خرج ايهم من المستشفى اخيرا ..بعد أن تعافي قليلا
كان يسير ف الشوارع علي غير هدي .. حائر تائه وشعور بالجذلان يزأر بصدره كوحش حبيس …
الليل في لندن لم يعد كما .. كأنه صار قبرا مفتوحا يبتلعه حيا.. الشوارع تضيق عليه .. والهواء صار خانقة!!
وخطواته ثقيلة كأنه مكبل بأصفاد غير مرئية.. أصفاد من الفقد ، من الغياب ، ومن الموت البطيء الذي ينهش روحه منذ أن تركها هناك ،
منذ أن رحل عنها أو ربما منذ أن رحلت هي عنه وهي لا تزال على قيد الحياة…
كان يسير بلا وعي ، بلا هدف، أو ربما كان لديه هدف واحد، لكنه لا يعلمه، وجهه شاحب ، وعينيه متورمه من قلة النوم ..
أنفاسه منقطعة كأنه يركض رغم أنه بالكاد يخطو…
شيء داخله ينهار يتهدم يذوب حتى لم يبق منه سوى حطام رجل كان يوما أيهم العاصي !!
وصل إلى المقهى الذي كانت تحبه.. وقف عند الطاولة ذاتها مد يده إليها ببطء، بحذر كأنه يخشى أن تنهار تحت أصابعه ،
لكنه لم يجد سوى البرودة.. الخواء.. العدم…
تحجرت عيناه وهو يهمس دون وعي:كنتي هنا !! كنتي هنا يا وتين قلبي.. ليه مش هنا دلوقتي يا عمري؟!
كان صوته أجش منكسرا أشبه بصدى رجل يحتضر وهو ينادي حبيبته التي تخلت عنه في لحظاته الأخيرة…
تحرك كالمجنون وخرج من المكان وكأن الجدران تخنقه سار في الشوارع بسرعة وهو يلهث بأنفاسه مشتعلة..
صدره ينهار في كل خطوة.. وجد نفسه أمام الفندق نفس الفندق.. نفس الغرفة.. نفس الفراش الذي احتواهما معا.. والآن يحتضنه وحده كجثة هامدة ..
ألقى بجسده على الفراش ودفن وجهه في الوسادة، يبحث عن أثر عطرها ..يبحث عن بقاياها .. شيء واحد فقط… شيء يثبت أنها كانت هنا ..
شيء يصرخ في وجهه أنها لم تكن وهما ..لكنه لم يجد شيئا سوى الفراغ…
صرخة مكتومة خرجت منه.. وقلبه يعتصر .. وعينيه تحترق.. ويده تقبض على الغطاء بشراسة كأنه سيحطمه…
ثم انتفض وقفا بجنون وسحب حقيبته وفتحها بعنف عبث بين ثيابه كالمهوس حتى وجدها…
قطعة صغيرة من ملابسها مجرد قطعة قماش لكنها الآن كل حياته…
أمسك بها كأنها طوق نجاته .. رفعها إلى أنفه واستنشقها بعمق لكن رائحتها لم تعد كما كانت.. كأنها تتلاشى…
كأنها تبتعد… كأنه تموت..
شهق بقوه وجحظت عينيه برعب ..لا ! لا يمكن أن تذهب رائحتها.. لا يمكن أن يحدث هذا ..لا يمكن أن يخسرها !!
التقط هاتفه وطلب رقمها بأصابع مرتعشه ورفع الهاتف علي أذنه وهمس بضعف : وتين ردي بالله عليكي ردي يا قلبي اسمع صوتك بس !!
قبض على هاتفه وهو يسمع نفس الرسالة اللعينه أن الهاتف مغلق أو غير متاح… اتصل مره ،بعد مره ،
لكن لا شيء,
الخط ظل مفتوحا، لكنه لم يسمع سوى الصمت… ذلك الصمت القاتل، الذي جعله يدرك الحقيقة التي يهرب منها
هي تموت وهو يموت معها!!
امتلأت عينيه بجنون لم يمر به من قبل.. وقلبه انتفض داخل صدره .. وأنفاسه تصاعدت بجنون ..ويده اشتدت على قطعة القماش حتى كادت تتمزق بين أصابعه
وفجأة انهار ..
ركع على الأرض وجسده كله يرتجف وانقطعت أنفاسه ودموعه انهمرت بغزارة لأول مرة منذ رحيله.. لأول مرة منذ أن فقدها!!
صوته خرج مخنوقه، هش كأنه اعتراف أخير قبل الموت:أنا مش قادر !! مش قادر يا وتين !! أنا حرفيا بموت …
يارب ياااااارب اي حاجه يارب.. أنا راضي باي حاجه ..
وانا هرجع علي طول !!
ثم ألقى بنفسه على الأرض كطفل فقد طريقه..
كعاشق فقد روحه ..لا شيء في العالم قد ينقذه الآن!!
لا شيء سوى صوتها.. سوى أنفاسها ..سوى نبضها..
لكنه لا يعلم هل لا تزال تتنفس؟ هل لا يزال قلبها ينبض؟ أم أنهما ماتا معا هو هنا ،وهي هناك!!
………………………………..
ف منزل بدريه ..
كان الهواء في الغرفة خانقا، رغم أن النافذة مفتوحة قليلًا. وكأن الحزن تلبد في الجو، جاثما فوق صدرها، يمنعها من التنفس بحرية…
الجدران تحاصرها، السرير أصبح سجنها ..والليل والنهار فقدا معناهما ..لم تعد تعرف إن كان هذا الصباح أم المساء،
كل شيء أصبح باهتا، عديم اللون، تماما كما تشعر من الداخل…
كانت مستلقية على السرير بلا حراك، كأن روحها تهشمت إلى شظايا متناثرة، كأن الألم حولها إلى جسد فارغ، لا شيء فيه سوى الفراغ والوجع.عيناها غارقتان في سواد كالح، انتفختا من كثرة البكاء، لكن الدموع لم تعد تهطل كما كانت في الأيام الأولى وكأنها جفت كما جفت روحها…
الندم ينهشها، يقطعها ببطء كأنه سكين صدئ لا يرحم…
صورته وهو يرحل.. نظرة عينيه قبل أن يدير ظهره.. قسوته التي لم تكن قسوة، بل كانت خيبة أمل…
كل هذا يعيد نفسه أمامها مرارا وتكرارا، حتى أصبحت أنفاسها نفسها ثقيلة، كأنها عبء لا تستطيع تحمله…
كانت تعلم أنها أخطأت، أنها خذلته، لكنها لم تكن تتوقع أن رحيله سيسلبها الحياة بهذه الصورة…
كيف يكون الإنسان حيا وهو لا يشعر بأي شيء سوى الموت؟ كيف يكون القلب ينبض وهو في الأصل محطم، ممزق، ينزف ببطء دون قطرة دم واحدة؟
دخلت زاد وخلفها بدرية، تحمل صينية طعام
نظرت لها وهتفت بحزم مغلف بالقلق : خلاص بقى، لحد إمتى هتفضلي كده؟! قومي، كفاية اللي إنتي فيه ده،
والله لو كان أيهم عارف حالتك دي، كان رجع فورا بس مش عشانك، عشان ضميره مش هيستحمل يشوفك بتموتي نفسك كده بسببه!!
نظرت لها وتين نظرات فارغه واغمضت عينيها بقهر
اقتربت بدريه ومسكت يدها وهتفت بتوسل : يا بنتي كلي لقمة ..إشربي شوية ميه.. حرام اللي بتعمليه في نفسك ده، والله قلبك مش هيستحمل كده !!
همسة وتين بصوت بالكاد مسموع وكان صوتها يحتضر: هو أصلا مش هنا ؟!مش شايفني !! مش فارق معاه؟؟
اقتربت منها زاد وسحبتها اجلستها وهتفت : إنتي بتستهبلي؟ مش فارق معاه إيه؟! ده سافر وهو بينهار فاهمة؟! سابك وهو مش عارف يتنفس من القهر!
بس هو مش أي حد يا وتين مش هيفضل قاعد يترجاكي عشان تتغيري كان لازم يتحرك قبل ما إحساسه نفسه يموته !!
انتي عندك استعداد تعيشي من غيره ..وتسبيه لغيرك تتهنئ بيه ..اكيد لا صح؟! يبقي تقومي وتدافعي عن جوزك، وحياتك ، وبيتك، وتقفي ف وش الدنيا كلها عشانه زي ما هو كان بيعمل !!
لم تستطع وتين تحمل كلمات زاد وشعرت كأن شفرة حادة تمزق صدرها.. وكأن أحدهم يضع يديه على عنقها ويخنقها ببطء ..
شهقت وامتلات عينيها بالدموع أخيرا، ثم انفجرت في بكاء حارق، كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ اسبوعين
غمغمت وتين بأنفاس منقطعة، وكلمات متقطعة بين شهقاتها: أنا.. أنا مش عايزة.. مش عايزة أكمل كده… حاسة إن روحي بتتسحب مني.. كأن في حاجة جوايا بتتكسر كل ثانية…
مش قادرة حتى أخد نفسي.. مش قادرة حتى أفكر..
كل حاجة بقت سودة ..وكل مرة بقفل عيني، بسمع صوته وهو بيقولي .. أنا مش مسامحك …
أنا خذلته… جرحته كان عنده حق يبعد عني…
يمكن أنا أصلا ما استحقوش!
لم تستطع بدرية احتمال رؤية ابنتها بهذا الانهيار، احتضنتها بقوة ومسحت على شعرها ..وهي تهمس بدعوات خافتة بينما قلبها يبكي قبل عينيها ..
اقتربت منها زاد ومسكت وجهها بيدين مرتجفتين، أجبرتها على النظر إليها وعيناها غاضبتان لكنها كانت تحاول السيطرة على ارتعاشة صوتها: إنتي مش هتموتي نفسك كده …فاهمة أيهم مش هيرجع يشوف جثة بتتنفس، هو عايزك تكوني قوية، عايز يشوفك قد التحدي!
مش عايز يشوف واحدة مستسلمة للوجع كأنها بتعاقب نفسها لأنها حبته.. انتي الوحيده الي هتقدر ترجعه لو هيرجع ! هيرجع عشانك انتي وبس..
قومي بقا وانفضي الضعف والخوف ده اللي كاسرك .. إيهم يستحق انك تحاربي عشانه يا وتين !!
شهقت وتين وارتجف جسدها ونظرت لها وامتلات عينيها برعب حقيقي وهمسه : هو… هيرجع يا زاد قوليلي أنه هيرجع؟! وانا هعيش علي الامل ده باقي عمري كله والله !!
اومات زاد برأسها بثقه وصوت ثابت وهي تمسح دموعها بقوه : لما يشوف إنك حاربتي عشانه، لما يعرف إنك فهمت غلطك… أكيد هيرجع بس لو فضلتي كده، مش بس مش هيرجع.. لا ده اكيد هيبعد أكتر، لأنه مش هيقدر يشوفك بتموتي قدام عينيه !!
شهقت وتين ببكاء ..وأنفاس متلاحقة.. وكأنها تحاول التقاط الهواء لأول مرة منذ اسبوعين نظرت إلى الطعام وغمغمت : أنا عايزه اكل عشان اخف بسرعه !!
ضحكت بدريه وزاد وقربت الطعام لها وهتفت : هو ده الكلام !! يلا كلي وتعالي نخرج شويا ايه رايك ؟!
بدات بالطعام وعينيها تلمع بشئ جديد عليها لما تشعر به من قبل ..هو الاصرار المغلف بالقوه علي الوصول إلي حبيبها من جديد ..وتلك المره علي طريقه وتين وليس ايهم !!
ابتسم زاد وكأنها تري وتين وضعت قدمها علي بداية طريق طويل للنجاة من العتمة التي غرقت فيها..
………………………………..
ف اليوم التالي ..
ترجلت زاد ووتين من السياره.. ومسكت يدها ودلف سويا الي أحد الكافيهات علي النيل..
جلست وتين ودارت برأسها وهي تنظر إلي ماء النيل وتذكرت تلك الليله المشؤمه أغمضت عينيها بقهر وتمتمت: لعله خير !!
ابتسمت زاد وهتفت : طبعا يا قلبي ! يلا تحبي تشرب ايه ؟!
اومات برأسها وقالت: كاكاو ..
ضحكت زاد وهزت راسها وإشارة الي النادل وهتفت : واحد كاكاو وقهوه ساده لو سمحت !!
نظرت وتين الي الهاتف وشردت قليلا وهتفت : موبايلي كان مقفول ليه اسبوعين تفتكري يكون ايهم رن ولا حتي بعت رساله ؟!
رفعت زاد منكبيه وغمغمت: وحتي لو مبعتش أو مرنش مافرقش !! دوري انتي.. ورني انتي…
انتي اللي عليكي الدور تثبتي حبك بكل الطرق الممكنة ؟!.
هزت راسها وسحبت هاتفها ونهضت وتحركت الي السور الخارجي عضت شفتها وهمسة: أنا هقول كل اللي ف قلبي ويطلع زي ما يطلع !!
فتحت الهاتف وقربته من شفتيها وبدأت حديثها قائلة:
عند إيهم استيقظ علي صوت رساله صوتيه..
فتح عينيه وسحب هاتفه ونظر به لحظات..
ورمش بعينيه بدون تصديق…
اعتدل وغمغم : لسه فاكره يا وتين تبعتي رساله !!
اغمض عينيه بيأس وغمغم : اكيد بتعيط وهتوجع قلبي اكتر ما موجع !!
عض شفته بغيظ وفتح الرسالة وقطب حاجبه بدهشه عندما بداء صوتها يصدح ف الغرفه …
- أيهم العاصي ..
صوتها كان مختلف لم يكن مهزوزا ولا خافت..
لم يكن ضعيف كما اعتاد .. بل كان قوي ثابت وكأنها لم تعد تلك الفتاة الهشة التي كان يعرفها …
بلع لعابه بصعوبه وضغط الهاتف ف يده وهو يستمع بكل جوارحه…
- أيهم أنا مش هعتذر.. عشان آسفة مش هتعوضك عن الوجع اللي سببتهلك… عن الخذلان اللي حسيت بيه… بسببي يا حبيبي…
بس أنا .. أنا مش عارفة أعيش من غيرك ..انت وحشتني اوي.. اوي يا ايهم !!
ارتجف صوتها بشهقه خافته وانقطعت أنفاسها بين البكاء والكلمات وهي تحاول تمالك نفسها واكملت : أنا عارفة… عارفة إنك كنت بتعمل المستحيل عشاني… عارفة إنك كنت بتحارب الدنيا كلها عشان تعلمني إزاي أكون قوية!!
– وأنا؟ أنا في أول لحظة ضعف.. أول لحظة خوف رجعتك لنقطة الصفر .. خذلتك.. وجعتك ..وأنا عمري ما كنت أقدر أوجعك،
بس عملتها! عملتها وأنت أكتر حد في الدنيا يستحقني قوية مش مكسورة!!
صمتت للحظه بأنفاس مرتجفه وكأنها تحاول السيطره علي العاصفه الدي تندلع بداخلها وهمسة بالم ممزوج بالحنين والجنون : بس يا أيهم أنت سبتني كمان !!
أنت اللي سبتني المرة دي …ومشيت.. وسبتني وأنا..
أنا كنت محتاجة لك اوي.. محتاجة تصرخ فيا .. محتاجة زعلك، غضبك، حتى عقابك، بس مش غيابك!!
غيابك قتلني أكتر من أي حاجة يا روحي..
أكتر حتى من خوفي ،من نفسي!!
شهقت بخفوت وعينيها غارقه بالدموع : فاكر لما كنت تقولي إنك مستني جنيتك تكبر؟ كنت تقولي إني ضعيفة، هشة، محتاجة أحمي نفسي، محتاجة أقوى عشان أكون على قدك؟
– طيب اسمعني كويس يا أيهم، لأنك هتشوف بعينك الجنية لما تقرر تحارب عشان تستعيد حبيبها.. فارس أحلامها.. مش هبكي ، مش هتوسل ،
مش هقعد أترجاك.. ترجعلي !!
أنا هخليك ترجع، حتى لو كان لازم أخطفك بإيدي زي ما خطفتني ف عشقك…
حتى لو كان لازم أقلب الدنيا عشان أوصلك، حتى لو اضطريت أدمر أي حاجة تمنعني عنك!!
ارتفعت نبرة صوتها بجنون مخلوط بعشق قاتل بحنين جارف ولهفه أشبه بالامان : هترجع لي يا أيهم غصب عنك.. غصب عني.. غصب عن أي حد فاكر إنه يقدر يفرقنا …
لأني خلاص بطلت أكون الضعيفة اللي كنت بتجري تحميها. دلوقتي أنا اللي هاجري عليك أنا اللي هحميك، واحمي حبي وبيتي وجوزي …
وأنا اللي هجيبك حتى لو كان لازم أهد الدنيا عشان ألمك في حضني تاني !!
شهقت بقوه وهي تحاول اخفاء رجفتها وكتم بكائها وخرجت كلماتها الاخيره كأنها وعد وجب عليها أو قسم لا عوده فيه : مشيت برضاك، بس رجوعك مش هيكون اختيارك! فاهم؟!
انتهت الرساله وأيهم لم يتحرك، لم يتنفس، لم يشعر بأي شيء سوى صوتها …
الصوت الذي حاصر عقله، تسلل تحت جلده، أشعل كل خلية في جسده!!
حدق في الهاتف بين يديه، أصابعه تضغط عليه بقوة حتى كاد يحطمه. نبضاته تضرب صدره بجنون، عيناه تضيقان، بين الصدمة والانبهار بين الجنون والعشق بين الغضب واللهفة…
تذكر ضحكتها التي شعر بها كأنها زلزال يهدم كل شيء داخله ..لم تكن ضحكة الفتاة التي اعتاد عليها بل ضحكة امرأة عرفت قوتها وأدركت كيف تحرق العالم من أجل رجلها!!!
كان يظن أنه تركها خلفه.. لكنه لم يدرك أنها لم تكن خلفه أبدا، بل كانت في دمه، في أنفاسه، في كل نبضة تدق بجنون داخل صدره!!
لأول مرة أدرك أيهم العاصي حقيقة واحدة!!
هذه ليست وتين التي تركها.. ليست الفتاة التي كان يحميها كأنها قطعة زجاج قابلة للكسر ..
هذه!! هذه نيران مشتعلة ..هذه إعصار من الجنون والهيام ..هذه امرأة قررت أن تستعيد حبها بأي ثمن، حتى لو اضطرت أن تحطم العالم بأكمله!!
شعور غريب يضربه .. رغبة قاتلة بأن يكون أمامها الآن أن يراها وهي تتحدث بهذه النبرة أن يري عينيها اللتين كانتا دوما تترجاه.. لكنه يعلم أنه هذه المرة لو نظر في عينيها فلن يجد الرجاء بل سيجد طوفان سيبتلعه بالكامل…
ضحك. ضحكة مزيج من الذهول، الانبهار، والافتتان المهلك. مرر يده في شعره، واغمض عينيه للحظة، ثم فتحها وهو يهمس بصوت خافت، لكنه يحمل وعدا هو الآخر: ماشي يا جنيتي عايز اشوف هتعملي إيه، بس أوعى تندمي لما تلاقيني قدامك انتي بدأتي اللعبه وانا اللي هنهيها بس خليكي قويه للآخر !!
ووووووو
يتبع .
ساحره القلم ساره احمد