بين أحضان قسوته

بين احضان قسوته (الفصل الرابع والثلاثون)

بين احضان قسوته (الفصل الرابع والثلاثون)

أحيانا” … 
يمر الناس في حياتنا قدرا”
   فيصبحون أغلى الناس في قلوبنا
        عندها نسأل أنفسنا …. هل نحن نعرفهم…
  أم أننا ولدنا عندما عرفناهم !!
          وحينها ندرك حقا
  أن الارواح …. حين تحب
             لا تملك حق الإختيار ،،،مساء الخير

في الصباح…

تململت ونس بتأوه ثقيل تحت وطأة صوت الهاتف الذي شق سكون الغرفة…. مدت يدها بتثاقل، التقطت الهاتف ونظرت إليه بدهشة،

ثم نهضت على الفور وقد ارتسمت علامات الذعر على وجهها. خرجت من الغرفة مسرعة، وضغطت على زر الرد وهمسة بصوت مخنوق: ألو!!

لم تجِب، بل ظلت صامتة تستمع، صدرها يعلو ويهبط بانفعال متزايد، ثم هتفت من بين أسنانها، بعنف قاطع:
أنا جاية حالا!!

أغلقت الخط بعصبية، وعادت إلى الغرفة تخلع ملابسها وتبدلها بسرعة خاطفة، التقطت مفاتيح السياره ونظرت إلى جبران النائم بهدوء… شفتاها ارتجفتا وهمسة بجمود بارد: اللي يرشك بالميه، ارشه بنار… يا حبيبي.

أخذت نفسا عميقا، ثم خرجت وصعدت السيارة، وانطلقت بها بسرعة نارية، والغضب يغلي في صدرها.
الطريق كان أقصر من أن يحتوي النار التي بداخلها، وكل دقة من قلبها كانت ضربة طبول لحرب على وشك تشتعل….

لم يمض وقت طويل حتى توقفت أمام منزل والدها. ترجلت من السيارة كالعاصفه ، ودون تفكير، دفعت الباب بقوة وطرقته بعنف متواصل…

فتحت لها أميرة، وهي ترتجف، وقالت بقلق:برضه جيتي يا ونس؟! أنا قلتلك قولي لجوزك، وهو يتصرف.

هزت ونس رأسها بالنفي، وقالت بصوت غاضب مشبع بالتمرد: كفاية على جبران كده… من النهارده، أنا اللي هقف لصبحي… كـ…

قاطعها صوت ضحكة صبحي ساخرة مسمومه ، جاءت من خلفها كصفعة على وجه الحقيقة، وقال بتهكم لاذع:
عشت وشفت اليوم اللي بنتي جايه تربيني فيه!

استدارت إليه، والغضب يحفر ملامحها، وهتفت بقهر مكبوت:أنا مش بنتك، يا صبحي… أكرملي اكون بنت حرام أرحم من إني أكون طالعة منك!

ابتسم بسخرية، وصوته نضح بالاحتقار يمزق الأعصاب:
ومين قالك إنك حتى لو بنتي، تبقي بنت حلال؟ أنا بكرهك… وبكره البومة التانية. ليه عايشين أصلاً؟

صاحت بنحيب حاد، وصوتها يكسوه الألم مخنوق من وجع السنين: على الأقل مش بنأذي الناس، مش زيك… انت ما تعرفش غير تأذي كل اللي حواليك بسمك !!

فجأة، قبض على شعرها بعنف، وجذبها نحوه، وهدر بفحيح متوحش كأنه زئير، مرعب، من عالم اخر :
أنا لسه هبدأ أأذيكي! وهبدأ بالباشا بتاعك… اللي خلاني أنضرب وأتمرمغ في تراب جزمته. أما ذليتو مبقاش اسمي صبحي!

دفعت صدره بقوة دفعته بكل ما فيها، بعنف هستيري:يبقى من اللحظة دي، انتي عدوي الاول … جبران لا… جبران ده خط أحمر، وانت لما تكلمت مع حازم صفوان… فتحت باب جهنم بنفسك !!
اللي فات كوم… وإنك تمسه… كوم تاني يا صبحي

لمعت عينا صبحي بدهشة، قبل أن تزوغ نظراته نحو أميرة وفجأة، قبض على عنقها بغضب عارم، تحول إلى وحش، وجهه انقلب شيطانا، وهتف بهستيريا: كنتي بتتجسسي عليا يا بت الكلب؟!

حاولت أميرة دفعه، لكن ونس اندفعت، وصرخت وهي تحاول إنقاذها: ابعد عنها! كفاية بقى!

صرخت اميره بانهيار من بين شهقاتها: حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا صبحي! أيوه، أنا اللي سمعتك  وانت بتتفق مع الضلالي التاني على الراجل اللي عايشين في خيره! كنت فاكرني هسكت؟! أنا اللي قلت لونس… وكنت عايزها تقول لجبران عشان يمسحك من على وش الدنيا!

قهقه صبحي بضحك هستيري، ثم زأر بجنون وهو يهوي عليها ضربًا… ضربات موجعة مسعورة. انقض عليها كذئب جائع، يصيح بلا وعي: أنا هدفنك بالحياة! مش جبران اللي هيمسحني… أنا اللي هسويكي بالأرض، يا بت الـ…!

شهقت ونس وهي تحاول أن تنتزعه من فوق أميرة، لكنها تلقت ضربة مفاجئة في بطنها… كانت ضربة مدمرة. انحنت، شهقت، ثم صرخت بألم يمزق أحشائها، وصرخة أخرى انطلقت حين شعرت بسائل دافئ لزج ينزلق على ساقيها…

صعقت أميرة حين رأت الدماء، جحظت عيناها، وصاحت بفزع هستيري وهي تلطم وجنتيها بعنف :يا لهوي!! بتنزف!! يا مصيبتي!!! ربنا ياخدك يا صبحي! حد يلحقنا يا ناس !!

كانت ونس تتهاوى بين ذراعي أميرة، جسدها ينتفض، أنفاسها تخبو، وعينها تزوغ. الألم يعصف بها، كأن أحشاءها تتمزق من الداخل، تخر كأنها تسقط من فوق جبل.وكل شيء من حولها يدور.

ترنحت ونس بالم ، بنزيف حاد ، وسقطت في قاع مظلم من الذكريات.
كل شيء يدور ، والماضي يعود بكل سواده.

أما صبحي… فقد تراجع خطوة، ثم اثنتين، وعيناه تتسعان بالرعب. مشهد الدماء، وجه ونس الشاحب، الصراخ… كل شيء نبش ذاكرته الميتة. عاد الماضي فجأة. شبح شادية خرج من قاع وعيه، فصرخ وهو يلهث:لااااا… يا شادية… لااااا!!

جثا على ركبتيه، يضغط على رأسه بيديه، يحاول أن يوقف ذلك الصوت في رأسه… ضاق صدره، شعر بحبل غليظ يلتف حول عنقه… تساقط على الأرض وهو يسعل ويختنق، وكل ما فيه يرتعد…

نظر إلى ونس، ودماءها، ثم صاح بجنون:أنا قلتلك مش عايز عيال يا شادية!!!

احتضنت أميرة، جسد ونس المنهك، وصرخت به: شادية إيه؟! إنت اتجننت؟! دي بنتك يا صبحي!! ونس بنتك!!

قالت ذلك وهي تطلب الإسعاف بيد مرتعشة، بينما هو يضحك بجنون ويهذي: أنا هسافر… أرجع بفلوس… نسيب الشقة دي يا شادية…وكمان تولدي ف مستشفى كويسه!!

نظرت له ونس بعين نصف مغلقة، ارتجفت حين تذكرت تلك الكلمات. رأتها… سمعتها منذ زمن بعيد… يوم ماتت أمها وهي تلد دمع . نفس الكلمات. نفس الوجه. نفس الجحيم.

اقترب منها، وضم وجهها بين كفيه، وهمس بدموع: أنا مش عايز عيال… أنا عايزك إنتي، يا شادية. لو هتموتي عشانهم… هموتهم أنا!

ثم فجأة، عاد الغضب إلى ملامحه، وقال بكره متوحش:
بكره صفوان هيقتل جبران… وونس… ويبقى فاضل دمع، البومة الأخيرة!

ارتعشت ونس، وهمسة بدموع تخترق الألم:لأ… لأ… جبران… لا… أبوس إيدك… سبوه ف حاله!!

ضمتها اميره بقوه ، وذعرها يتزايد، وهي ترى أمامها رجلا فقد عقله. طلبت رقم جبران. كان كل شيء ينهار.

علي الجهه الاخر
استيقظ جبران علي صوت الهاتف مسح علي الفراش وغمغم بنوم : ونس
رمش بعينيه ونظر بجانبه بدهشه ثم نظر الي الهاتف والتقطه وغمغم بصوت متحشرج: الو
لكن جحظت عينيه بصدمه وتجمد الدم بعروقه عندنا سمع صوت نحيب ونس نعم هذا صوتها يحفظه عن ظهر قلب قفز من الفراش وهو يسمع أصواتهم المتداخلة من نحيب وصراخ وهذيان صبحي

اقترب صبحي من ونس مجددا، ربت على وجهها، وهمس بدموع: متخافيش… الإسعاف جاية… وهتولدي وتعيشي. بس مش هنكرر الغلطة دي تاني..

صرخت ونس بألم ممزق، فجن جنونه، وصرخ هو الآخر:
كفاية صريخ!! هتفضحيني؟!! أنتي جبتيلنا العار!! هدفنك بالحياة يا بت الكلب!!

ثم انقض عليها محاولا خنقها! شهقت بفزع وحاولت خدشه بأظافرها ، وحاولت التملص، وكأنها تحتضر…

اندفعت أميرة تصرخ، ودفعته بجنون  وصرخت: اوعي يا ابن الكلب!!! هتموتهااا…

عند جبران
دار حول نفسه بغضب وركض وكأنه يلتهم الأرض تحت أقدامه وصعد السياره وانطلق بسرعه جنونيه وهو يستمع إلي صراخ ونس وصياح اميره وكأن أصواتهم المتداخلة رصاص بارد يقترق قلبه بلا رحمه أو شفقه

ساعدت اميره  ونس على النهوض، كانت الأخيرة تتشبث بها، تبكي، تسعل، وتنتفض من البرد والدم والخوف.
صرخت أميرة بحرقة:منك لله… يا مجنون… لازم تموت!! والله لازم تموت!!!

انقض صبحي عليها وسحبها من شعرها، لكنها دافعته وهرولت إلى المطبخ، وعادت بسكين، ودموعها تسيل، وصرخت: لو قربتلها … والله لأقتلك!!

ضحك باستهزاء واقترب، لكنها لم تتردد… غرست السكين في بذراعه

شهقت، وتراجعت، بينما هو يضع يده على جرحه، يلهث، يرتجف… ثم اندفع نحو الباب وخرج يترنح.

انهارت أميرة على الأرض، تحتضن ونس الغائبة عن الوعي، تبكي بحرقة، والندم يمزقها.
…………………………………….
ف المصنع

كان الوقت يقترب من منتصف النهار، حين دخلت أمل إلى ساحة المصنع بخطى مترددة لكنها ثابتة….

ورغم علامات الإنهاك التي بدت على ملامحها، فإن ابتسامتها الخفيفة ظلت تخفي ما يعانيه الجسد.

مر وقت من الصمت بينها وبين وائل سكنت مسافة باردة بينهم لا تشبههما.
كان كل منهما يراقب الآخر دون أن يعترف، وكأن الكبرياء يحرس الألم، لا يخففه.

ومنذ ذلك اليوم … لم تعد أمل ترى وائل كما اعتادت.
صار حادا، مختصرا، وعيناه تنظران لها كغريب كتم انكسارا كبير..

توقفت علي صوت المهندس الجديد ونظرت له وهي لا تراه،اشار إلى بعض الورق، وحاول شرح لها خطوط الإنتاج بنبرة فيها من الهدوء بقدر ما فيها من الذكاء.
حتي هتف : امل انتي معايا ؟!

نظرت له وابتسمت بخفوت وهزت رأسها قليلا، وكأنها تترك للزمن لحظة سكينة لم تعشها منذ أيام. وكان ذلك كافيا… كافيا ليقلب وائل رأسا على عقب.

من بعيد، كان يراها… ولم ير سواها….رأى الضحكة… ورأى الخطر…
رأى لمحة من ماض لم يزل يؤلمه، كأن الزمن يعيد خدعته البالية، ولكن بوجه جديد…

واشتعلت في صدره نارا لم يرد لها أن تشتعل، لكنها أبت إلا أن تلتهم.

اندفع بخطوات سريعة، وجسده يوحي بالانفجار القريب، حتى وصل لها.. ومد يده فجأة، وأمسك بذراعها بقسوة أدهشت الجميع…

وهدر بصوت مشحون بالغضب : تعالي معايا ثانية، يا أمل!
شهقت بصدمه وهتفت : إيه؟! وائل في إيه؟!
هتف بحده دون أن يخفي غضبه : بقولك تعالي… ما تخلينيش أتكلم قدام الناس!

سحبها من أمام الجميع، كأن المصنع بأكمله اختفى ولم يبق سواها.

حاولت امل نزع ذراعها من قبضته وصاحت : إنت اتجننت؟ ماسك دراعي كده ليه؟!

دفعها بعنف وصاح وعينيه تقدح شررا : كنت واقف بشوفك من بعيد… فاكرك زعلانة مني، فاكرة إنك متضايقة…وعمال افكر اصالحك ازاي بس ..
لقيتك بتضحكي، وبتتدلعي، كأن مفيش حاجة حصلت… كأنك نسيتي!

صاحت ودموعها تنهمر على وجنتيها بغضب مكتوم : آه؟ ناسيه إيه بالظبط؟إني كنت لوحدي وانت بتعمليني كاني غريبه ؟وإنت بقيت غامض وساكت؟!

انفجر بغضب وارتجف صوته : غامض؟!
ولا يمكن كنت بلملم وجع قديم؟
وجع صحي لما شفتك بتكرريه قدامي تاني؟!

قطبت حاجبيها وصاحت بحده : قصدك إيه؟
ده زميلي؟!

صاح بصوت مخنوق، يحمل من الحدة ما يكفي لتحطيم شيء هش : زميل؟ ولا بديل؟
يمكن أول ما حد يطبطب عليكي ، تنسي اللي قبله!
ما الضحكة سهلة، والمشاعر رخيصة دلوقتي، مش كده؟!

صمتت أمل…كانت كلماته كأنها صفعة على وجه قلبها، لا وجهها….لم تبكي… لكن عينيها كان فيهما شيء يشبه الانهيار.

وهمسة بصوت مكسور : إنت فعلا شايفني بالشكل الزباله ده؟
طيب… شكراً، يا وائل.

واستدارت وركضت ومع كل خطوة، كانت تبعد نفسها عن ذلك الجرح الذي فتحه بيديه، دون أن يدري أنه نزف أكثر مما جرح.

أما هو، فبقي مكانه،
ينظر إلى الفراغ الذي تركته،
يحاول أن يخنق صوتا في داخله يصرخ: أنا آسف… بس مش قادر أنسى!

………………………………….
في الحارة…

صف جبران سيارته بعنف جعلها تصطدم بأحد الأعمدة، ثم ترجل منها كمن أصابه مس شيطاني ، ركض بجنون نحو مدخل البناية دون أن يغلق باب السياره خلفه، بينما تصاعد صراخ مذبوح اخترق صدره قبل أُذنيه.

كان صراخ أميرة! كالنصل الذي شق قلبه نصفين، شعر بشيءٍ غريب يعصر صدره بقوة، وكأن أنفاسه تسحب قسرا من بين ضلوعه….

لم يكن يدري ما ينتظره، لكن حدسه كان يصرخ بأن شيئًا ما قد تكسر… شيء لا يصلح.

ركل الباب بكل قوته، فانفتح ليصطدم بمشهدٍ لن ينساه ما دام علي قيد الحياة…

كانت ونس مستلقية على الأرض، شاحبة، تنزف. جسدها الصغير بين ذراعي أميرة التي كانت تصرخ بجنون، والدماء تسيل من ونس وتلوث الأرض

صاح جبران بصوت مرتجف: ..ونس!!
وتهاوى على الأرض إلى جوارها، ذراعيه تلتقطان جسدها المرتجف كمن يحاول إنقاذ روحه قبل أن تزهق : ونس… إيه اللي حصل؟!

جحظت عيناه … وخفق قلبه وكأنه يختنق في صدره، وارتخفت ويده وهو يلامس وجهها الباهت: إوعي… إوعي تقفلي عني عينك! متخافيش يا قلبي، أنا جيتلك… أنا جيتلك يا روح أبوكي…

رفعها بين ذراعيه بعنف محموم، يحتضنها وكأنها تنزلق من بين أصابعه وهدر بعنف:  هتبقي كويسة… هتبقي كويسة، والله العظيم ما هسيبك!

لم يعرف كيف يوقف النزيف، أو ماذا يفعل تحديدا، كل ما يشعر به هو عجز يمزق قلبه ويتركه عاريًا أمام وجع لا يحتمل….

ظلت أميرة تركض خلفه، حافية، بلا حجاب، بوجه يكسوه الفوضى، وصوتها يفتت الهواء:إلحقها بسرعه ! ونس بتموت!

فتح باب السيارة واحتوى جسد ونس الذي بدأ يبرد بين ذراعيه،  ودار حول السياره وصعد أمام المقود

وعيناه تغليان بالدموع، وهمس من قلبه المنكسر:مش لوحدك يا ونس، أنا جنبك… هفضل جنبك لحد آخر نفس… سامعاني؟! ما تسيبينيش.

في الخلف، كانت أميرة تحتضن ونس برعب، وجسدها يرتجف، تبكي بلا صوت، فقط شهقات مكتومة وحشرجة في الحلق.

وصلوا المستشفى،
وصلت سيارة جبران إلى المستشفى في أسرع وقت ممكن، وهو يقود كمن فقد بصره، لم يشعر  بذراعه ولا بالألم، فقط كان يرى عيني ونس، تتلاشيان شيئا فشيئا،

ونبضها يضعف.كانت الإضاءة البيضاء تعكس الارتباك الذي يسيطر على المكان….

كان جبران  يحمل ونس بين ذراعيه دون أن يعي بالم الذي يفتك بذراعه المصاب ولا يعي تماما ما يجري حوله،

كل ما كان يدركه هو الألم الذي كان يراه في عينيها وكل خطوة كانت تأخذها بعيدًا عن قبضته الحامية..

كانت تعاني، وأنفاسها تتسارع بشكل غير طبيعي، لكنه لا يستطيع فعل شيء سوى أن يركض بها عبر الممرات الضيقة للمستشفى…

عندما وصلوا إلى غرفة الطوارئ، كانت الطاقم الطبي في انتظاره، وقاموا فورا بأخذ ونس منه وركضوا بها إلى غرفة العمليات.

كان جبران في حالة من الفوضى النفسية، قلبه يكاد يخرج من صدره، وعقله لا يصدق ما يحدث أمامه. كأن الزمن توقف حوله، وكأن كل شيء حوله بدأ يختفي…

وقف في مكانه، يلهث من شدة الذعر، ونظراته تجول في كل مكان، وكأن الأرض تتحرك من تحته وغمغم بصوت ميت : إزاي ده حصل؟! يارب المره دي هموت مش هقدر اتحمل يارب ؟!

لكن لا أحد يجيب. كانت يده ترتجف وهو يتكئ على الجدار، يحاول جمع نفسه في لحظات العجز الشديد.
ثم… صمت.
الجدران صارت أضيق، والأصوات أبعد، والوقت صار وحشا ينهش قلبه في كل ثانية تمر…

مرت ساعات كأنها أيام. كان ينتظر في الممر، ملامح وجهه تزداد شحوبا مع كل ثانية تمر…

كان يسمع الأقدام تقترب، وكل مرة كانت آماله ترتفع لعل أحدا يطمئنه، لكنه يظل يواجه الفزع ذاته.

ثم أخيرا، جاء الطبيب كان وجهه جاد  وعينيه تخفي وراءهما شيئا لا يمكن لجبران تحمله…

اقترب منه بخطوات هادئة، وقال بصوت منخفض: إحنا عملنا كل اللي نقدر عليه… لكن للاسف

شعر جبران أن قلبه توقف في صدره، وكانت كل خلايا جسده مشدودة في انتظار الخبر…

قبض علي ياقة الطبيب بيده وصاح بغضب: إيه اللي حصل؟ مراتي مالها انطق؟!
قبض الطبيب علي قبضة جبران وهز رأسه بأسف وغمغم : هي كانت حامل … لكن للأسف، بسبب الضربة في بطنها، حصل إجهاض. الجنين كان لسه عايش لما وصلت ، لكن للأسف، ما قدرناش نساعده. مش قادرين نعمل حاجة دلوقتي

صدم جبران، كأنما أصيب بصدمة كهربائية جعلت جسده يهتز…. جحظت عينيه في فزع، وكل كلمة قالها الطبيب كانت كالسكاكين التي تقطع في قلبه….

لم يكن يعلم أنها كانت حامل، ولا كيف أنه أصبح الآن فاقدا لحياة جديدة لم يكن يعلم عنها شيئا. الفكرة وحدها كانت تلتهمه….

جنين… كانت حامل؟! كرر بصوت خافت، ثم سقط على أحد المقاعد وكأن الأرض قد فغرت فمها لابتلاعه،

والكون من حوله ضاق حتى اختنق به صدره… بدأ يشعر بالدوار، ويده تغطي وجهه كما لو كان يحاول إيقاف دموعه التي هربت منه دون أن يشعر …

صرخت اميره بانهيار وهي تلطم وجنتيها بعنف وتصبح بهستريه: يا بن الكلب يا صبحي يابن الكلب ..ربنا ينتقم منك يارب !!

جسده كان ينهار، وكانت مشاعره في حالة من الفوضى. شعر بالألم في كل عظمة من عظامه….

كيف ونس لها أن تتحمل تلك الصدمه الجديده؟؟  وكأن فقدانهم لذلك الجنين هو فقدانه لجزء من قلوبهم ..

لم يكونوا علي استعداد لهذا الصراع، لم يكن مستعدا لألم من هذا النوع !! فيكفي ما تعانيه

نظر الي اميره وهي تنحب  بعقل مشوش، وكان يعيد في ذهنه اللحظة التي علم فيها أن ونس كانت حامل، وكل ما كان يهمه هو أن يعود الوقت إلى الوراء، حتى يتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ظل جالسا في مكانه،
والدموع تتساقط على وجنتيه كما لو أنها نعي صامت لما لم يولد…

وفي زاوية باردة من الممر، جلس رجل كان يملك الكون حين كانت تبتسم، والآن لا يملك حتى نفسه….

……………………………………
داخل غرفة ونس ..

ساد السكون أرجاء الغرفة، وتسللت رائحة المطهرات إلى صدره كطعنة باردة، تذكره بأن الموت مر من هنا، ولو على استحياء….

كل شيء ناصع البياض من حوله، إلا قلبه الذي اكتسى بالسواد…

دلف جبران بخطوات أثقل من الجبال، وعيناه لم تفارق ملامحها الواهنة….

كانت ممددة على السرير كزهرة ذابلة، أنفاسها واهنة، وملامحها منطفئة، وكأن الحياة قد أُطفئت فيها عمدا…

اقترب منها في صمت، جلس إلى جوارها، ومد يده المرتعشة لتمسد أصابعها الباردة. نظر لها بعينين غارقتين في الحزن، ثم همس بصوت مخنوق: كنتي حامل…

انكسر صوته بداخل حنجرته، وسالت دمعة ثقيلة على وجنته وغمغم :  كنتي حامل يا ونس؟ وأنا ماعرفتش؟ ما لحقتش… ما حميتكيش… ماكنتش جمبك!

انحنى نحوها، قبل جبينها بارتجاف، ثم أسند رأسه إلى يدها، يخبئ وجعه في صمتها الغائب. ظل هكذا للحظات، حتى مر بخاطره مشهدها وهي تنزف، ممددة بين ذراعيه، بلا حول ولا قوة… وتدفقت الذكرى كالسم في دمه.

تغيرت ملامحه دفعة واحدة، واشتعلت عيناه بلهيب الغضب، شهق واقفا كأنما لدغته الحقيقة وهدر : صبحي يابن الكلب جبت اخرك معايا هطلع قلبك من مكانه وانت عايش !!

ارتخف صوته، ثم صاح بنبرة تكاد تشق الجدران: هو اللي مد إيده عليكي؟ هو اللي  قتلنا… قتل الفرحة اللي لسه ما نطقتش، اللي ما خدتش نفس!

رفع يده المرتجفة إلى رأسه، وكأن صدره لا يتسع لكل ما فيه: والله لهدفعه … لهدفعه تمن يعني إيه يلمس شعرة منك!

نظر إليها نظرة أخيرة، كأنما يحاول أن يختزن ملامحها في قلبه قبل أن يحترق ..ثم خرج.

فتح الباب بعنف، واندفع كإعصار لا يعرف الرحمة، كأن الأرض من تحته تشتعل. لم يعبأ بنداءات الأطباء، ولا بآلامه، ولا بذراعه المصاب. الآن… الألم في موضع آخر. الألم أصبح وحشا ينبت له جناحين… ويقوده إلى جحيم الانتقام…
……………………………………..
ف الممر امام غرفة ونس ..

كان الهدوء يلف الممر، لكنه لم يكن هدوءا مطمئنا، بل ذلك النوع الثقيل الذي يسبق العاصفة. جلست أميرة أمام باب غرفة ونس، عيناها منتفختان من البكاء، ووجهها شاحب كأن الدهر قد مر عليه في ليلة واحدة.

وفجأة، ظهرت دمع تركض بجنون، وشعرها مبعثر، وملامحها مشوشة من الصدمة. كانت عيناها تبحثان عن أمل وسط بحر من الخوف وصاحت : ابله أميرة!
صرخت بها، لهاثها يسبقها، وركضت نحوها تتشبث بذراعيها وصاحت بزعر : … ونس فين؟! فين أختي؟! قوليلي إنها بخير… قوليلي!

انهارت أميرة بين ذراعيها، تحاول التماسك، لكن الكلمات خرجت منها كأنها تلفظ أنفاسها ألما:كان بيضربني… كان بيضربني يا دمع… وهي دخلت تدافع عني…

جفلت دمع، شهقت وابتعدت خطوة، وكأن جدران المستشفى دارت بها وصاحت : وايه اللي ودها عندكم اصلا

غطت أميرة وجهها بيديها، واستطردت بصوت مخنوق:
ضربها… ضربها في بطنها… وهي كانت حامل… كانت حامل ومكنتش تعرف…

وقفت دمع كتمثال محطم، عيناها تجمدتا، ثم انفجرت:
إيه؟!!! حامل؟!!

ضربت صدرها بيدها، وصرخت بحرقة تكسر الحجر:
والله ما هسيبه،والله هقتله، ده مش بني آدم، ده مخلوق من جهنم! ليه يعمل فيها كده حرام والله اللي فيها مكفيها يارب

أمسكت بها أميرة، تحاول تهدئتها، والدموع تغمر وجهها:
دمع، أرجوكي… خليكي جمب أختك دلوقتي، ونس محتاجاكي، وعنيكي عليها . أنا هروح أجيب ندي من البيت… أنتي متسبيش اختك !!

لم ترد دمع هزت راسها وفقط دفعت الباب بيدها المرتعشة، ودخلت الغرفة.

تقدمت بخطى مرتجفة نحو السرير، ونظرت إلى ونس كأنها ترى شبحا. ملامح ونس كانت شاحبة، جسدها ساكن كأنها في سبات لا نهاية له.

اقتربت منها وجلست بجوارها، وضغطت على كفها الهزيل، همست بصوت مبحوح:إزاي هتقدري تتحملي كل ده؟ إزاي…؟ ليه؟ ليه كل حاجة في حياتك وجع؟

ثم دفنت وجهها في يد ونس، وبدأت في النحيب:
كان جواكي روح… كان فيكي طفل… وراح، راح بسبب الحيوان اللي بيقول عليه أبوكي! والله ما هعديها، والله ما هسامحه، دمك دا تمنه هيتدفع، غالي اوي!

رفعت رأسها، نظرت إلى ونس بعينين تفيض بالجنون والحنان والخذلان، ثم همست بعزم مجنون:أنا اللي هقتله يا ونس… أنا… بإيدي، اللي عمل فيكي كده مش هيعيش!

انخفض الضوء في الغرفة، كما لو أن الكون نفسه انحنى احتراما لألم لا يطاق… وظلت دمع تبكي أختها، وتخط على جبينها وعدا بالانتقام… وركضت خارج الغرفه بغضب كأنها فقدت عقلها بالتأكيد

……………………………………………..

ف شركه الحراسه الخاصه بسليم الباشا .

جلس سليم خلف مكتبه، شاردا في الأوراق التي لم يعد يراها… يحاول متابعة ما فاته من عمل طوال الفتره الاخيره…

بالكاد انتزع عقله من دوامه كثيفة ضبابيه غرق بها كان كل شيء أمامه ضباب…

الصوت الوحيد الذي يسمعه… هو صدى قلبه،
وهو يصفع ضلوعه بندم عنيف.وحزن وقهر فتك به
كان كل ما في داخله يصرخ باسمها،

يفتت صمته بصورة دمع ..وهي تنظر إليه بعينين مكسوره مملوءة بخيبة لا تغتفر.
ضاقت به الارض وهو يري دمع تنهار كل يوم وحزنها يزداد ويزهق روحها بالبطيء وهو عاجز عن فعل أي شيء.. هو من خذلها. …هو من كسر يقينها به.
هو من غرس الشك في قلبٍ لم يعرف سواه.

قطع تفكيره دخول السكرتيره وكأنها تفسد عليه هدوء احتضاره وهتفت : سليم باشا الانسه شاهي بره وعايزه تقابل حضرتك

كأن اسم ملعون انفجر في وجهه…شهق داخله، ولم يبد شيء على ملامحه وغمغم لنفسه : نهار اسود أنا ناقص؟!
ثم نظر الي السكرتيره وتمتم : ادم ف مكتبه ؟؟

اومات برأسها وقالت: ايوه يا فندم ..

أشار بالقلم وغمغم بسرعه : حلو اوي!! قوليها اني مشغول بعميل… وممكن تاخد معاد تاني ..او تروح لي ادم !!

اومات السكرتيره بدهشه وتحركت الي الخارج.. وعاده الي مكتبها ونظرت لها وقالت بمهنيه بحته : أنا اسفه اوي يا فندم… سليم باشا مشغول!  وممكن تقابلي ادم بيه ..
أو نشوفي معاد تاني لحضريك يا هانم !!

شاهي تلك المرأة التي تمشي على خيوط الماضي، وتدوس على رماده بأناقة قاتلة…هي لا تأتي إلا لتقلب السكينة عاصفة، ولا تطرق بابا إلا لتخلخل جدرانه.

ذمت شاهي شفتيها المطليه بحمره قانيه وهزت راسها بالايجاب وقالت بحنق : ادم ف مكتبه ؟!

اومات السكرتيره واشاره لها وقالت: ايوه يا فندم اتفضلي!!

سحبت حقيبتها بحنق وتحركت الي مكتب ادم وصوت كعبها العالي يقرع علي الأرض ينذر بقدومه المغرور ..

دقت باب المكتب ودلفت علي صوت ادم الرخيم: ادخل!!

رفع ادم رأسه علي صوتها الناعم بشكل مستفز يصدح ف المكتب بغنج ينهار أمامه اعتي الرجال : هااي دومي !!

نظر لها ببرود قاتل ومرر لسانه داخل وجنته وغمغم بنزق : هااي يا اختي…

جلست باريحيه فاجه وهتفت وهي تشعل سيجارتها الرافيعه: عاجبك كده! اروح عشان اقبل سولي يتهرب مني !!

رفع حاجبه وتمتم: عنده حق!! هو راجل متجوز يا شاهي!! وبيحب مراته ولا انتي متعرفيش الحاجات دي ؟!

نفثت دخان كثيف من فمها وضحكت كأنها تسمع نكتة ساذجة وغمغمت: وايه يعني متجوز! هو أنا هخطفه من مراته أنا عايزه ف شغل !!

ضحك بتهكم ورمقها باستهزاء دامي واردف وهو يميل للامام : شاهي مش هنلعب على بعض… المحن ده انا عارفه وحفظه.. ولا الراجل بعد ما يتجوز بيحلو ويترش عليه سكر ؟!

ضحكت بصوت مثير ناعم ونهضت واقتربت منه بخفة متقنة، وبصوت يقطر سم مغطى بالعسل جلست على طرف المكتب وغمغمت : عمرنا ما كنا متفقين يا دومي يمكن عشان انت فاهمني اوي!!

رفع حاجبه ونهض فجأة، وبدا كأن المكان قد ضاق به
ونظر لها ببرود وغمغم بحسم حارق: انزلي من علي المكتب !!

ابتلعت الصمت وشهقت برعب وتجمدت من طريقته وعينيه القاتمه وانزلقت بسرعه وتمتمت بصدمه  : ف ايه يا دومي ؟أنا زعلتك؟!  أنا كنت بقعد كده عند سليم ومكنش يزعل !!

خرج صوته من بين أسنانه، قاطعا كل ماضيها بغضب وهدر  : انا اسمي آدم مش دومي.. واتكلمي عدل! وسليم كان !!

قبض على ذراعها بعنف وهدر بغضب: عارفه
يعني ايه كان؟! يعني قبل ما يحب ويتجوز.. دلوقتي بيتهرب منك خلي عند اللي جابوكي دم .. وابعدي عنه، وكمان عني، أنا مليش ف المحن ده وانتي عارفه !!

تململت بالم ولكزته ف صدره الصخري وكأن صوته صفعها…لكنها لم تيأس، مدت يدها المرتبكة وهتفت  : اه خلاص يا آدم بلاش غبي سيب دراعي بـ

قطعت جملتها صوت أنثوي مخنوق بالخذلان، مشبع بالدهشة: ايه اللي بيحصل ده ؟!

تجمد الوقت واحتبس الهواء في صدر آدم وارتعد
كأن الكابوس الأسوأ قد هبط من السماء ووقف علىمكتبه

كانت جيلان… تقف هناك. ..شبحها… صوتها… كل شيء فيها كان يبكي.
كانت جميلة حتى في صدمتها، موجعة حتى وهي صامتة…دموعها تسيل بقهر … كأنها تنطق من عينيها.

جحظت عينين ادم ودفع شاهي بغضب وهتف : جيلان تعالي يا قلبي !!
تراجعت خطوتين، وخرج صوتها كأنه سكينا : مش عايزه اعطلك أنا اسفه …

ركض آدم وتمسك بها ،نظر لها واستجدى الرحمة في نظراتها…
حاولت التملص منه وتراجعت الي الباب وهتفت : لو سمحت !!

تمسك ادم بها وهتف بحده ممزوجه بالرعب : جيلان استني! انتي فهمتي غلط.. اقسم بالله مفيش في قلبي غيرك… دانتي بتجري ف دمي يا عمري !!

حاولت التملص منه لكنه تمسك بها وصاح بغضب الي شاهي : امشي يا ست انتي كمان!! ومش عايز اشوف وشك تاني ..الله يحرقك !

فذت شاهي برعب وسحبت حقيبتها وخرجت بسرعه تحت نظرات آدم الساخطه.. وجيلان الباكي والحانقه ..

دفعته وهي تنحب وتشهق بغضب وغيره تكوي قلبها الصغير ..وهي تتذكر  تلك المراه كيف كانت تقف بجانبه وشبة ملتصق بها.. وهو يقبض على ذراعها وكأنه يسحبها لصدره وصاحت : اوعي بقلك ..أنا غلطانه اني وثقت فيك!! وسلمتلك قلبي تلعب بيه.. ومش بس قلبي!! انت قربت مني وسرقت اول كل حاجه مني.. كنت بتمني يكونوا لحبيبي اللي هيحبني بجد مش ليك ابدا

انحسرت أنفاسه داخل صدره ودارت الأرض به وغمغم بصوت متحشرج موجوع: يعني ايه عايزه حبيبي غيري ؟!  مش انتي بتحبيني ولا بتلعبي ؟؟ انتي ليه مش حاسه بحبي ليكي ؟!
دانا بعشقك ومش بطيق اشوف ف عيونك دموع ولا حزن !!وعندي استعداد اهد الدنيا ولا حاجه تمسك كل ده مش عاجبك ليه ؟!

نظر لها بدهشة ممزوجه بالقهر وانحشر صوته وتنفس بثقل ، والأرض تدور به، وقال بصوت مذبوح : انا وحش اوي كده ف نظرك يا جيلان؟! عايز احسن مني ف ايه ؟؟

دفعته بانهيار وصاحت بغضب: اه كل حاجه كنت بتعملها بتقول كده.. مستحيل اكون اول بنت ف حياتك!! وانا مش قادره اتحمل ده !

بلع الغصه التي تكومت بحلقه وأغلق عينيه، وابتلع مرار السنوات، ثم فتحها بحدة : انتي شايفه كده! تمام ليكي عندي حاجه واحده ..وبعدها اعملي اللي انتي عايزه!! مش هقف ف طريقك تاني !!

سحبها من يدها وخرج بغضب الي مكتب سليم..
ودفع الباب بعنف ونظر الي المكتب الفارغ بعيون مثقل بالألم وصاح بغضب: نشوي !!

فذت جيلان برعب ..وهرولت السكرتيره وهتفت: نعم يا فندم أنا هنا !!
نظر لها وهتف بغضب: فين سليم؟!

اشاره الي الخارج وهتفت : لسه نازل حالا ..ممكن حضرتك تلحق !!

سحب جيلان التي تنحب بصمت وجسدها يرتجف برعب وتحرك بغضب
وصل أسفل الشركه وهتف : سليم استني !!
أشار له سليم وفتح باب السياره وهتف : بعدين يا آدم ونس ف المستشفى دمع لسه مكلماني !!

شهقت جيلان بخوف وهتفت: يا نهار اسود ليه حصل ايه؟!
أشار له بيده وهتف: اطلعوا نروح نشوف في ايه ؟؟

صعدت جيلان ف الخلف وادم بجانب سليم وانطلق سليم بسرعه الي المستشفى
لكن في صدر آدم، كانت الكارثة أكبر من كل ما سيجدونه هناك.

……………………………….
ف غرفه ونس

ساد الصمت في الغرفة، إلا من صوت جهاز نبض القلب يقطع السكون على فترات متباعدة. تنفست ونس ببطء، وارتجفت أجفانها بثقل ثم بدأت تفتح عينيها تدريجيا، كأنها تعود للحياة من حلم ثقيل… أو كابوس أشد فتكا.

شعرت بوخز في ذراعها، بسبب أنبوب مغروس في وريدها، جسدها منهك، لكنه ليس أشد إنهاكا من قلبها. التفتت برأسها بصعوبة، فرأت ممرضة تقف جوارها تدون ملاحظات.

تمتمت بصوت ضعيف:أنا… فين؟

ابتسمت الممرضة بحذر واقتربت منها: انتي في المستشفى يا مدام، اتنقلتي من ساعات بعد ما جوزك جابك…

قطبت ونس حاجبيها، عقلها يحاول اللحاق بذكريات ممزقة. وفجأة، سألت، والقلق يتسرب في صوتها: أنا… جرالي إيه؟

ترددت الممرضة، ثم قالت بنبرة مترددة: كان في نزيف… جامد جدًا… بس الحمد لله أنقذناكي…

– نزيف؟

نظرت لها ونس بعينين متسعتين، بدأت دقات قلبها تتسارع:  إيه اللي حصل؟! قوليلي… فيه إيه؟!

تنهدت الممرضة، ثم نطقت الجملة التي شقت قلب ونس:
حضرتك… كنتي حامل. بس… للأسف الجنين نزل. مقدرناش نلحقه.

توقفت الدنيا…. مرت لحظات من الصمت، ثم اهتزت شفتا ونس، بدت وكأنها لم تسمع، أو لم تفهم، أو ربما عقلها رفض التصديق :  إيه…؟

شهقت بعنف، وضغطت بيدها على بطنها: كنت حامل؟!!!

صرخت بكلمات مخنوقة، وانفجرت تبكي، جسدها كله يرتعش، دموعها تندفع دون توقف: كنت حامل… وأنا… ماكنتش أعرف… ابني؟!!! كان فيا روح؟!! وراح؟!!!

انهارت كليا ، وهي تلطم على صدرها، تصرخ بألم يكاد يشق جدران الغرفة: ليه؟!! لييييييييه؟!!!

ركضت الممرضة نحو الباب وهتفت :حد يناديلي الدكتور بسرعة! المريضة في حالة انهيار!

لكن ونس، في لحظة، قفزت من السرير، ودموعها ما زالت تنهمر كالسيل. وكأن الألم أحيا فيها وحشا كان نائما.

خلعت الإبرة من ذراعها، وسال الدم، لكنها لم تشعر. ارتدت أول شيء وجدته، وخرجت من الغرفة بخطى مسرعة، عنيفة، متشنجة.

كان وجهها مسلوخا من أي تعبير بشري… نظرتها زجاجية، باردة، كأن روحها انفصلت عنها وتركت خلفها قشرة ممزقة من إنسانة.

تمتمت بجنون وهي تخرج من المستشفى: هو اللي عمل كده… صبحي… هو اللي قتل روحي… قتل ابني… ومش هعديها… هاخد بتار ابني اللي مشفش النور

خرجت تركض… لا تدري إلى أين، لكنها تعرف وجهتها جيدا…إلى البيت…إلى الجاني.. إلى والدها الذي أصبح عدوها الأول.
……………………………….
ف الحاره
كانت الريح تعوي في الخارج وكأنها تبكي، تعكس جنون العاصفة التي اشتعلت داخل قلب أميرة…

وصلت إلى باب الشقة بخطوات تهز الأرض تحتها، لم تكن أم، بل كانت إعصار، حزن متجسدا في جسد امرأة انكسر مرارا، لكنه هذه المرة قرر أن يرد الضربة.

طرقت الباب بعنف، ثم دفعت الباب بكتفها فاندفع مفتوحا، ليظهر صبحي جالسا كأنه لا شيء قد حدث، لا خزي، لا ذنب، لا جحيم ينتظر.
صرخت اميره بغضب :  مي انتي فين فين مي؟! فين بنتي يا جبان؟!

رفع عينيه نحوها ببرود قاتل، كأن صراخها لا يعنيه، كأن دم ابنته لم يترك اثر علي يده
وغمغم بصوت رخيم متبلد : بنتك؟ هي مش بنتك لوحدك … دي بنتي أنا، ومش هتطلعي بيها من هنا.

صاحت بصوت مبحوح من القهر : إنت مجنون! بعد ما موت ونس بإيدك، ولسه بتتكلم وتقول بناتي ؟ دي البنت بتتشاهد يا حيوان!!

اقتربت منه والدموع تغلي في عينيها، لكن لسانها كان يلهب.وضربت صدرها بانهيار : بنتي كانت حامل! حامل! وإنت ضربتها كإنها عدوك، ضيعت حياتها والحياة اللي جواها! ضيعت كل حاجة!

نهض بغضب وكأنه تحول الي شيء صعب تفسيره وصاح :اخرسي!! انتي السبب في كل الخراب اللي حصل!
صرخت اميره بدموع : لأ… دا جزاك إنت! جزاك إنك فاكر نفسك راجل وانت أوحش من الوحوش! أنا هنا علشان آخد بنتي مي… ومش همشي من غيرها!

خرجت مي من الغرفه وصاحت بدموع : ماما خديني معاكي
حاولت اميره الاقترب من مي لكنه دفعها وهدر : اطلعي بره يا مره قبل ما افلقك نصين

مد يده ودفعها بقسوة ناحية الباب، تعثرت وسقطت على الأرض، وهي تصرخ بنحيب . و أغلق الباب في وجهها
ونظر الي مي وهدر بصوت حاد: غوري من وشي يا بت الكلب انتي كمان ..

هرولت مي برعب الي الغرفه وأغلقت الباب…
صاحت بدموع وهي تنهض، وكل خلية في جسدها تصرخ بالانتقام…

وصاحت وصوتها يرتعش وهي تنزل الدرج بسرعه: أنا هجبلك الحكومه يا صبحي الكلب يا ابن الكلب هاخد بنتي من حباب عنيك يا سكري يا بتاع القمار !!
……………………………….
امام المستشفى..

صف سليم سيارته امام المستشفى وترجل وخلفه ادم وجيلان ودلف الي الاستقبال وهتف : لو سمحت اوضه ونس الباشا !!

اشاره له موظف الاستقبال وهتف: اوضه ١٠٧ الدور التالت..

اوما برأسه وتحرك بخطوات واسعه ..وخلف ادم بوجهه متهجم بغضب.. وجيلان تنظر له برعب مغلف بالحزن وقد ادراكت ما تفوهت به من حماقة !!

وصلا الي الغرفه وفتح سليم الباب ولكنه قطب حاجبه بدهشه وغمغم: الله مفيش حد هنا !!

رفع ادم منكبيه وغمغم: يمكن كانت حاجه بسيطه وروحوا ..

تحرك سليم إلي الخارج وقال : يلا نروح علي القصر !

تمسك به ادم وهتف بحسم وهو ينظر إلي جيلان بنظرات حارقه : استني!! انت ليه رفضت تقابل اللي اسمها شاهي دي وبعتها لي ؟!

ضحك سليم بتهكم واردف: انا راجل متجوز انتي عايز تخرب بيتي!! بعتهالك انتي تخلص منها !

بلعت جيلان غصتها بندم يفتت قلبها.. ونظر لها آدم بخيبة أمل وخذلان.. انصرف سليم وهتف : يلا بس بعدين نكمل كلامنا !!

تحرك آدم بصمت اقوي من العاصفه… تمسكت به جيلان ونظرت له ودموعها تنهمر برجاء صامت…

قبض علي يدها وسحبها من يده وغمغم بسخريه لاذعه : خلصت يا بت الباشا ..كنت عايزك تعرفني علي حقيقتي ..وخلاص حصل ..وخلصنا !

شهقت بعنف ودموعها تحفر وديان علي وجهها.. ولكنه لاول مره يعطيها ظهره ويرحل دون الالتفات الي دموعها..
…………………………………….
ف الحاره ..

ساد الشقه صمت غريب، ثقيل كالكارثة…
كأن الجدران تحبس أنفاسها، وكأن الأرواح تختبئ من هول ما حدث…

طرقات أقدام ونس كانت متعثرة، قلبها ينبض برعب لم تعهده،
عيناها تفتش في المكان برعشة، وقلبها يدق بعنف

وفجأة…
ضربها المنظر كصفعة.
كان صبحي ملقى على الأرض، جسده ساكن كجثة مهجورة،
وخنجر مغروس في صدره بقسوة تشبه الجحيم…

ودمع بجانبه ساقطه علي ركبتيها والدماء تلوث وجهها وملابسها والخنجر ف يدها مغموس بالدم ..

كانت عيناها زائغتين، أصابعها تلتف حول الخنجر،
والدماء متناثرة في كل مكان
جثة أبيها، أختها…والخنجر في يدها…

شهقت ونس وتراجعت حتي اصطدمت بالحائط وصاحت بشهقه مخنوقه : دمع!! إنتي عملتي إيه؟!!

هرعت إليها، سحبت يدها المرتجفة وصرخت : سيبيه! سيبيه حالا! امشي من هنا يا دمع! امشي قبل ما حد يشوفك!هتروحي ف داهية! دي مصيبة! دي كارثه ؟؟

صاحت دمع بصوت محشرج، مبلوع في دموعها : أنا مش همشي! مش هسيبك! ده كان لازم يموت! كان لازم يدفع تمن الدم! قتل فيا وفيكي … كتير أوي!

شهقت ونس وسحبت الخنجر من يدها وصاحت بقوه :
بس مش كده يا دمع… مش بالقتل!
أنا اللي اتكسرت… أنا اللي خسرت ابني ..
بس مش هسمحلك تضيعى عشاني!

غمغمت ونس بصوت مرتعش وعي تحاول سحب الخنجر من ونس : أنا خلاص ضايعة…
أنا مافيش حاجة فاضلة مني أصلا..

انتفضت ونس وخبات الخنجر خلف ظهرها وصاحت :
يبقى أنا اللي هشيلها… أنا اللي هتحاسب!
أنا مش هسيبك تتحبسي وأنا واقفة أتفرج!

حاولت دمع  سحب ذراعها من خلف ظهرها بنحيب :ونس لا! والنبي لا! سيبيه! ما تلمسيهوش!! ما تتحمليش حاجة ما عملتيهاش!!

لكن ونس تمسكت بالخنجر، كانت عيناها زجاجيتين، كأن روحها هجرتها، وكل شيء انهار…
وفجأة… هوي الباب بعنف ودلفت اميره ومعها قوه من الشرطه

صاحت اميره بذهول : ونس!! دمع !!

لكن الكلمات اختنقت في حلقها حين وقعت عيناها على الجثة والخنجر في يد ونس

وصاح الضابط بحده : إرمي السلاح ده حالا!

سقطت ونس سقطت عيناها ، ثم نظرت إلى دمع نظرة طويلة…وكأنها تسلمها روحها الأخيرة، ثم أسقطت الخنجر على الأرض ببطء…

كبلت الأصفاد الحديدية معصميها، ودمع انهارت بصياح يشق الصدور :مش هي! مش هي اللي قتلت!!
أنا اللي شفت الجثة!أنا اللي شلت الخنجر!
إنتو بتظلموها! والله ما هي يا ناس سبوها حرام عليكم

لكن لا أحد سمع،
ولا أحد رأى سوى جثة، وخنجر، ويد ملوثة بالدم.

سارت ونس  مكبلة، وكل ما خلفته كان همسة مرتعشة إلى أختها:ما تسيبنيش يا دمع… ما تسيبنيش لوحدي.

هرولت دمع خلفهم حتي تعثرت علي الدرج وهي تنحب وتصرخ بانهيار تام: والله ملهاش دعوه سبوها حرام عليكم أنا اللي قتلته يا ونس يا ووونس يا اااااااامي يا امي ووووو

…………………………
ساحرة القلم ساره احمد

1 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments