بين احضان قسوته (الفصل الخامس والثلاثون)

وما نحن سوى أرواح عابرة ،،، نسير في متاهات القدر
نسأل أنفسنا :” هل ظلمنا الزمن بما يكفي لننعزل عن الجميع”
أم خذلنا الكل ولم نعد نثق بأحد
الحياة عندما تكشف أقنعة الناس ،، تكشفها بقسوة لدرجة انك تحتاج وقتاً طويلاً لتستوعب بشاعة الوجوه التى تقاسمت معها الحلم ،،، وتقاسمت معها الذكريات ايضا
نحن نتغير … تغيرنا الكلمات ،، تغيرنا المواقف ،، تغيرنا الأيام
نحن مجرد ردة فعل لكل ما يحدث لنا في هذه الحياة
هرولت دمع خلفهم حتي تعثرت علي الدرج وهي تنحب وتصرخ بانهيار تام: والله ملهاش دعوه سبوها حرام عليكم أنا اللي قتلته يا ونس يا ووونس يا اااااااامي
كانت خطواتهم تبتعد، وعيون دمع تتسمر على الظل الذي يسحب من بين يديها… اختطفوه من عالمها، من قلبها، من بين ضلوعها، وتركوا خلفهم فراغا لا يسد…
صرخت بجسد منهار فوق الدرج كأن اقدمها خذلتها تماما، وكأن قلبها انكسر دفعة واحدة، لا قدرة لها على التنفس ولا النحيب، فقط دموع تتساقط في صمت كالرصاص…
اقتربت أميرة بخوف، وركعت إلى جوارها، وضمت جسدها المرتجف، كأنها تحاول أن تنتشلها من تلك الهوة السوداء…
وغمغمت بنحيب حاد: قومي يا دمع… قومي يا حبيبتي… قومي… متوجعيش قلبي عليكي انتي كمان ..قومي نلحق اختك والمصيبه اللي هي فيها !!
رفعت دمع وجهها ببطء، عينيها متورمه، ونظرتها كأنها تبحث عن ونس في الهواء…
وغمغمت بصوت مختنق متقطع : خدوه يا ابله … خدوا ونس… قدام عنيا وأنا واقفة مش قادره اتصرف .. ماعرفتش أعمل لها حاجة…
هزت رأسها في نفي جنوني، ثم رفعت نفسها من الأرض كمن يستعيد الحياة، وانطلقت تهبط الدرج ركض كأن قلبها سبقها بخطوات.
وصرخت بجنون وهي تركض : كلمي عمو جبران يا ابله ! وسليم كمان! قولي لهم يروحوا القسم… ونس هناك… لازم يلحقوه…
خرجت من باب البنايه تعدو، الشوارع تتشوش أمام عينيها من كثرة الدموع. رفعت يدها لأول تاكسي مر، لم تنتظر أن يتوقف تماما، فتحت الباب وهي تلهث.
وصاحت بدموع الي السائق : على قسم الشرطة بسرعة! بسرعة والنبي!
ط
كان جسدها يرتجف، كأنها تركض وسط عاصفة. رأسها ممتلئ بالأسئلة، بالدم، بالخوف. كل ما تعرفه الآن أنها لن تسمح بأن يؤخذ ونس منها… ولا بهذه الطريقة.
…………………………………..
مساء ف المصنع
ساد المصنع سكون ثقيل، يخنق الهواء ويزيد الضجيج صمتا. كانت العيون تتنقل في الفراغ، تفتش عن غيابٍ غير معلن، لكن وائل… كان يعلم.
كان غياب أمل
غابت وغاب معها جزء من روحه، لم يدركه إلا حين فقده.
وقف وائل عند النافذة المطلة على الساحة التي اعتادت أمل أن تمر بها كل صباح. لم يكن يحدق في الخارج بقدر ما كان يغرق في داخله، يتأمل الصدى البعيد لما حدث بالأمس… لكلماته التي خرجت كالسياط، لا تحمل سوى الألم.
اقترب من أحد المقاعد ، وجلس دون وعي، ، فضل العمل الإضافي تلك الليله خوفٱ من الوحده ف شقته التي تنهش قلبه وفكره تنهد بحرقه ،ثم غمر وجهه بكفيه تمتم بصوت مبحوح: يا ليله سوده … أنا عملت إيه؟ إزاي قدرت أقولها كده؟
كانت واقفة، بتبصلي ومصدومه من كلامي وأنا… وأنا زي الحيوان برمي عليها كلام زي الرصاص؟
ليه كل ده بس؟ .. بس هي غلطانه عشان ضحكت؟
مسح على وجهه بعنف وهدر: ولا عشان قلبي اتوجع ومرضيتش أعترف؟
أسند ظهره إلى الكرسي، زفر بشدة، وكأن الندم صار جمرة تنهش صدره: بس أنا خوفت… خوفت أضعف قدامها، وخوفت أقول لها إني مش قادر أشوفها بتبعد…
بس إيه اللي خته ولا حاجه .. ولا حتى شوفت وشها…
ماجتش.
ماجتش الشغل… ولا سألت، ولا تكلمت، ولا حتى بعتت رسالة…بس معها حق أنا كنت حيوان معها !!
حدق أمامه وفكره تضرب عقله كالبرق : طب لو ماجتش تاني؟ لو دي كانت آخر مرة هشوفها؟
أنا كنت بفكر إني عايزها، أيوه… كنت عايزها، بس كرامتي وقفتلي في الزور…
ودلوقتي؟ دلوقتي أنا كرامتي بقت مالهاش لازمة من غيرها.
نهض فجأة، وراح يتمشى في الغرفة الضيقة، كأن الأرض تضيق تحت قدميه، ثم مال على الحائط، وضربه بقبضة مرتعشة:كنت بقول لنفسي إن هي اللي جرحتني …
بس الحقيقة؟
أنا اللي جرحتها… وأنا اللي خفت…
خفت أحبها أكتر من اللازم… وخفت أقول لها إن كل حاجة فيها بتوجعني علشان بحبها.
صمت لوهلة، ثم همس لنفسه كأنها لا تزال تقف أمامه:أمل…أنا آسف…أنا آسف إني حولت خوفى لهجوم عليكي ،إني طلعت غضبي فيكي علشان أغطي ضعفي…
بس والله ما كنت أقصد…إنتي ما تستاهليش اللي قولته…بس انا مستهلش تبعدي بالشكل ده…
بس لو ما رجعتيش؟ لو بعدتي خلاص؟أنا هعيش بندمي…بس إنتي…
إنتي هتفضلي جوايه، حتى لو ما شوفتكيش تاني…
انزلقت دمعة خفيفة على وجنته، مسحها سريعا وكأن الضعف ما زال يخجله، لكن في قلبه…لم يعد ثمة ما يمكن إخفاؤه.
……………………………….
في قسم الشرطة
كان الصمت يزأر بين الجدران كوحش حبيس في الظلام، الثقيل، كأن الهواء قد تكثف واختنق به صدر الزمان…
جلست ونس على الكرسي المتهالك كجثة لم تدفن بعد، يداها معقودتان في حجرها.. كأنما تقيدانها عن الهرب، وعيناها تسبحان في بحر من الغياب، تائهتان بين الخوف والخذلان.
جلس الضابط أمامها، شامخا كقاض اعتلى منصة القصاص، يرمقها بنظرةٍ تحمل من الاحتقار أكثر مما تحتمل الروح….
صوته دوى بغتة ممتلا بالنفور وأشمئزاز ، حادا كالصفعة:أنتي عايزه تفهميني إنك قتلتي أبوكي من غير سبب ؟! أنتي جاحدة بقى؟!
هزت ونس رأسها وهمسة بنشيج حاد: أنا قتلته عشان كان لازم يموت… ومش ندمانه، حتى لو الناس هتشوفني جاحدة، ميفرقش معايا.
قطب حاجبه بحدة، وضرب سطح المكتب بقبضته، وهتف بغضب ممزوج بالازدراء : أنتي إيه البجاحه بتاعتك دي يا بت؟! طيب حتى مثلي الندم!
ابتلعت ونس غصتها، وتمتمت ودموعها تنهمر:
أمثل الندم على حاجه مش ندمانه عليها؟ أنا قتلته… وكان لازم يموت من زمان.
نظر إليها الضابط بذهول، وقد بدأت حواسه كضابط متمرس تلتقط شيئًا غير منطقي، كأن ما تقوله لا يتفق مع ملامحها وكأنها شخص آخر …
ثم قال، محاولا انتزاع الحقيقة:على العموم، الطب الشرعي هيثبت أو ينفي كلامك… بس نصيحة مني، بلاش تقولي الكلام ده تاني. قولي الحقيقة، أنا متأكد إنك بتكدبي. قولي الحقيقة وأنا هساعدك يا آنسة.
لكن قبل أن تتمكن ونس من الرد، انفتح باب الغرفة فجأة، واقتحمته دمع المكتب كالعاصفة…. كان صوت خطواتها ثقيلاً، كأنها قد جرت معها آخر ما تبقى من قوتها. كانت عينيها ملتهبه، وحركاتها متوترة، واندفعت راكضه حتى وقفت أمام ونس ..
وهتفت بنشيج حاد ، ودموعها تسيل على وجهها:
لا! مش هي اللي عملت كده! أنا اللي قتلته! مش ونس! هي ملهاش دعوة!
وقفت أمام أختها كدرع بشري، عيناها تشتعلان بحماية لا تقبل النقاش… كانت تتنفس بصعوبة، وكأنها على شفا الانهيار، لكن إصرارها على قول ما تعتبره الحقيقة كان واضحا….
تفاجأ الضابط من الموقف الجديد، فهتف محاولا السيطرة على الفوضى:أنتي كمان بتعترفي إنك قتلتيه؟! هو في إيه بالظبط؟!
نهضت ونس، وأمسكت بـدمع ، محاولة إبعادها، لكن الأخيرة صاحت بانفعال، ودموعها تختلط بالخوف والغضب: أيوه! أنا اللي قتلته! ونس ملهاش ذنب! دي كلها غلطتي أنا! أنا اللي… اللي خلصت عليه! صدقوني… سبوها هي، أنا اللي قتلته!
صرخت ونس بعنف، محاولة إسكات أختها:دمع بس! إنتي مجنونة؟! اسكتي! اسكتي يا دمع! حرام عليكي… هتضيعي كل حاجه عملتها، كده بتدمري نفسك!
وقف الضابط في حيرة وذهول، ثم ضرب المكتب مجددا بقبضته وهتف: إيه الحكاية بالظبط؟! أنتوا الاتنين، كل واحدة بتقول عكس التانية! ما تنطقوا يا بت إنتي وهي! إيه اللي حصل؟!
صرخت دمع فجأة وكأنها فقدت السيطرة تماما، وأشارت إلى نفسها وهتفت بحرقة:أنا هقولك، أنا هقولك… هي أختي وطول عمرها بتضحي عشاني، وصبحي ده شيطان مش بني آدم… أنا قتلته عشانا كلنا، ونس متقدرش تقتل أصلا!
تمسكت ونس بها بقوة، وكتمت فمها، وصارخت بألم ودموعها تنهمر: لا يا دمع… كفاية! يا دمع، ده مش صح! هتضيعي نفسك يا غبية! هنخسر كل حاجة!
هتف الضابط وقد بلغ منه الغضب مبلغه: أنتوا هتتعزموا على مين اللي قتل؟! أنتوا أغبى من بعض! وكل كلمة بتتقال هتتحسب ضدكم!
فجأة، انفتح باب المكتب على مصراعيه، ودلف جبران كالإعصار، تتقد عيناه بجنون الغضب، والرعب، والقلق. كان سليم خلفه، يصحبه ثلاثة من أكبر محامي الدفاع.
هرعت ونس نحوه، ففتح ذراعيه تلقائيا، واحتواها كما لو أنها طفلته الضائعة. تمسكت به بانهيار، وهو يهمس بحدة مشوبة بالاحتواء: اشش اهدي أنا هنا كله هيبقي تمام
وقفت دمع، كالمذنبة أمام النار، حتى اقترب منها سليم وسحبها إليه، لكنها تشبثت بسترته، تبكي وهمسة بختناق
ربت على رأسها وهمس: اهدي… خلاص، اهدي.
هزت رأسها نافية، وهمسة بحرقة:خلاص… كل حاجه انتهت… أنا قتلته يا سليم.
وضع يده على شفتيها فورا، وقال بحزم:اشش… بس، متتكلميش.
انهمرت دموعها وعال نحيببها .. فضمها إلى صدره بقوة، يربت على ظهرها وكأنه يحتضن بقاياها المنهارة.
أخرج جبران ونس من بين ذراعيه، وهمس بحسم:
متتكلميش خالص، انتي فاهمه؟ خلي المحامين يشوفوا شغلهم.
هزت رأسها نافية، وهمسة بدموع متدفقة:أنا اللي…
كتم فمها بيده، ومن بين أسنانه خرج صوته حادا:اشش… اسكتي خالص.
هزت رأسها مجددا، بينما نظر جبران إلى الضابط وقال بنبرة قاطعة:أي كلمة اتقالت قبل ما المحامين يكونوا معاهم ملهاش لازمة… والمحامين عايزين مدام ونس على انفراد.
أومأ الضابط برأسه وقال بتنهيدة ثقيلة:ياباشا، أنا لسه ما فتحتش المحضر، وبصراحة… المهزلة اللي حصلت دي متنفعش ف محضر رسمي.
ثم تحرك للخارج وهو يقول:هسيبكم شوية… عن إذنكم.
وما إن أُغلق الباب، حتى أمسك جبران بذراع ونس وهو يحاول جاهدا السيطرة على غضبه، وهمس بانفعال مكتوم:انتي اتجننتي؟ بتشيلي تهمة معملتهاش ليه يا ونس؟!
تململت بنشيج مرير، وهتفت:عشان قتل ابني… من قبل ما يشوف النور، ولا حتى أعرف بوجوده… وكان لازم يموت!
صرخت دمع، وكأن عقلها انسلخ عنها:أيوه! وعشان كان لازم يموت! أنا اللي قتلته!
أمسك بها سليم بقوة، بينما هتف جبران بأمر قاطع: سليم، خد مراتك… روحها البيت حالا !!
تراجعت دمع بسرعة، وهتفت بجنون ودموعها تنهمر:
لا! مش هسيب أختي! مش هسيبها تدفع تمن غلطتي! كفاية عليها كده! لا مش همشي !!
اقترب منها سليم، بينما صاحت ونس بنشيج:
روحي يا دمع، واسمعي الكلام… عشان خاطري.
سحبها سليم بعنف، وخرج بها وهي تتخبط بين ذراعيه، تنحب وتصرخ، وهو يهمس بحنان صارم:
بس يا دمع… كفاية… حرام عليكي. سبينا نساعد أختك.
واختفى صوت نحيبها شيئا فشيئا، حتى هدأت الغرفة إلا من صوت شهقات ونس المنهارة، وقد سقطت على أقرب أريكة تبكي بحرقة.
اقترب منها جبران، وجثا أمامها، وصوته هادئ ظاهريا، لكنه يخفي إعصار من الغضب والعذاب:
ليه عملتي كده؟! ليه مصرة تضيعي حياتك… وحياتنا؟!
علت شهقتها، وتمتمت بانكسار: الدنيا هي اللي مصرة تضيعني… وتسرق مني كل فرحة قبل ما تتولد.
قبض على ذراعها وهتف بانفعال وجنون وعينيه تموج بغضب عارم : فوقي يا ونس! أنا متأكد إنك مش أنتي اللي قتلتي صبحي… لو حد مننا قتله، هيكون أنا… مش انتي!!
وضعت يدها على فمه، وصرخت بنشيج يكاد يفتت صدرها:لا! أوعى تقول كده! أنا مصدقة دمع تمشي وتبطل كلامها ده، تقوم تقول إنت؟! عشان خاطري يا جبران…
صاح بصوت مذبوح:لا يا ونس! مش هسكت! تحكي اللي حصل… ولا أتكلم أنا!
نهض بعنف وتحرك خطوه ناحيه الباب انهارت ونس بنحيب حاد وتمسكت بساقه وضمتها بقوه وصرخت برعب يفتك بها : لالالا ابوس رجلك يا جبران أنا مقدرش اتحمل خسارتك لالا متعملش كده عشان خاطري بلاش ارجوك
كور قبضته ونحني عليها وضمها بحضنه وهدر بغضب: وانا كمان مش هقدر.. انتي ليه مش قادره تفهمي انك كل حياتي ودنيتي؟! وانا مقدرش اعيش من غيرك!!
افهمي بقا الدنيا كلها كوم وانتي عندي كوم يا ونس حسي بيا والنار اللي بتاكل ف قلبي !!
مسحت دموعها بقهر، وقالت: عشان بحبك اكتر من نفسي ومقدرش اتحمل اشوفك ف ضيقه اصلا … أنا خلاص تعبت… بس لو خسرتك، هموت.
اصلا محدش هيصدقك! هما شافوني وأنا ماسكة الخنجر… وبصامتي عليه… وأنا معترفة… الموضوع منتهي!
أمسك بذراعها، وهزها برفق، كأنه يحاول إيقاظ روحها، وقال بنبرة هادرة:وإنتي فاكرة إني هقدر اعيش من غيرك؟! فاكرة إني اقدر اطيق الدنيا أصلاً؟ فوقي بقى! أنا بموت كل يوم من خوفك… بموت وأنا ساكت!
كور وجهها بين يديه وهدر وعينيه تشتعل بجنون : يا غبية! هتضيعي نفسك… والمجرم هيفلت! اللي هو أكيد مش دمع!
ثم نظر إليها بذهول ويأس، وهمس:طيب… بلاش عشاني… ولا عشان نفسك… عشان اللي ف بطنك يا ونس!
اتسعت عيناها بدهشة، وتقطعت أنفاسها، كأن الهواء انحسر فجأة. وهمسة ودموعها تنساب:اللي ف بطني؟ يعني إيه اللي ف بطني؟ الممرضة قالتلي…
قاطعها بسرعة، واضعا يده على بطنها، وهتف:
“انتي كنتي حامل ف توأم… للأسف نزل جنين، بس لحقوا التاني، وهو لسه جواه. الدكتور أكد لي…
أنا أصلاً كنت طالع من عندك، وناوي أشرب من دم صبحي، بس لما الدكتور قابلني وقالي الخبر… كنت هتجنن من الفرحه! سبتك ف المستشفى عشان أحضرلك مفاجأة للخبر اللي رد روحي… ورجعت لقيتك اختفيتي! اتكلمي يا ونس… أرجوكي… يا عمري!
مع كل كلمة تخرج من فمه، كانت روح ونس تتمزق أكثر. وضعت يدها على بطنها، وصرخت:لا لالا! أنا مقتلتوش! أنا روحت… كان مقتول… والله كان مقتول! بس أكيد دمع كمان مقتلتهوش… هي أضعف من كده بكتير!
ضمها جبران إلى صدره، وصوته يهمس بعشق موجوع:
عارف يا قلبي… عارف. أهم حاجة، مهما حصل… هتقولي كل كلمة يقولك عليها المحامين… ولا حرف زيادة… ولا حرف ناقص. فاهمة يا ونس؟
اومات برأسها بنحيب يقطع نياط القلب وغمغمت : فاهمه أنا عايزه اطلع ..واخلف.. واربي ابني.. وافرح نفسي افرح اوي يا جبران!!
مسح على شعرها بحنان وغمغم بحزم : هتطلعي وهنخلف وهنربي ابننا ف حضننا ومحدش هيقدر يلمس شعره منك طول ما انا عايش يا قلبي
اقترب أحد المحامين بهدوء وقال: باشا، لازم نتحرك. فيه إجراء لازم نلحقه قبل ما أي كلمة تتسجل رسمي.
أومأ جبران، ثم همس لونس وهو يمرر إبهامه على خدها:
متخافيش… أنا جنبك. وهخرجك من ده، حتى لو كان آخر حاجة أعملها.
شهقت ونس بصمت، ثم هزت رأسها ببطء، واستندت عليه كأنها تتشبث بالملاذ الأخير في عالم ينهار.
………………………………
ف فيلا سليم الباشا
أوقف سليم سيارته بعنف، وهو يئن بنيران الغضب المتأجج في صدره، وترجل منها بخطى مضطربة، أشبه بمن يحترق من الداخل ولا يبوح…
دار حول السيارة ، وفتح الباب بعجلة، ليسحب دمع التي لم تكن سوى شبح باهت…
وجه زجاجي، وعينان مطفأتان، وروح تاهت بين الصدمة والذنب.
سحبها من السيارة كأنها دمية بلا وزن، واحتواها بذراعه بقسوة مستترة بالقلق، ومضى بها نحو باب الفيلا الداخلي، بينما شهقاتها المرتعشة تخترق صمت الليل، تذبحه ببطء.
وقبل أن يصل، ارتفع صوت جيلان من الداخل، مشبع بالقلق والذهول:ف إيه يا أبيه؟! ونس وبابي فين؟ مجوش معاكم ليه؟!
توقف سليم برهة، استدار بوجهه نحوها، وكأن صدره يضيق بما لا يقال… أومأ برأسه بحنق مكتوم، وتمتم بصوت أجش: هما… ف القسم يا حبيبتي.
شهقت جيلان، وارتدت خطوة للخلف وضعت يدها على فمها المرتجف، وامتلات عيناها بالدموع:ليه؟! حصل إيه؟!
حاولت دمع أن تكتم نحيبها، لكن صوتها خرج ممزقا كأن قلبها هو من يتكلم، لا لسانها.
أما سليم، فكان صوته يقطر قهرا حين قال: ونس متهمة بقتل صبحي… للأسف.
صرخة هزت جدران المكان خرجت من جيلان:لأ! مستحيل! ونس متعملش كده! مستحيل!
وصاحت دمع بنحيب يقطع الروح:مش هي! والله العظيم مش ونس! صدقوني!
هدر سليم بعنف، عيناه تشتعل بجنون الغضب والارتباك:
يا دمع كفاية بقى! ليه مصممة على الهبل ده؟! أنا متأكد… متأكـــد إنك متقدريش تقتلي أبوكي!
فتح باب الفيلا بعصبية وسحبها للداخل دون أن ينتظر ردها، ثم التفت لجيلان المذهولة:جيلان، متخافيش… الباشا معاها، ومعاه المحامين، وهيرجعها… مستحيل يسيبها!
تراجعت جيلان كأن الأرض تصدعت تحت قدميها، تنفست بنشيج مكتوم، وظهرها يرتجف من وقع الصدمة.
أما سليم، فأغلق الباب بعنف خلفه، والتفت يبحث عن دمع بعينين يملؤهما التوتر والهلع.
وجدها جاثية في أحد أركان الأريكة، جسدها يئن من ثقل الأعصاب، وصوت شهقاتها يملأ الصمت.
اقترب منها، وجثا أمامها، ثم سحبها بين ذراعيه بقوة، كأنما يحتجزها من السقوط نحو الهاوية.
همسة بدموع تنخر صدرها:ونس… هتضيع نفسها تاني يا سليم… وأنا مش هقدر اتحمل ده المرة دي… مش هقدر…
ضمها بقلب يصرخ قبل يديه، ومسح على ظهرها بحنان موجوع:اهدي يا روحي… كفاية دموعك حرقتني… كل ده مش هيحل حاجة. أنتي عارفة إن الباشا عمره ما هيسيبها… أكيد هيتصرف.
أغمضت عينيها بقهر، وتدفقت الصور أمامها كطعنة لا تنسى…
وجه والدها الغارق في دمائه، والخنجر غائر في صدره كأن أحدهم غرسه بغل شيطاني…
ارتجف جسدها فجأة، وصاحت كأنها تحترق:كان شكله بشع… الدم… الدم في كل حتة… مش هنسى شكله طول عمري يا سليم!
مسح على شعرها بأنامل مرتجفة، وهمس في أذنها:
حقك عليا… أنا اللي مكنتش جنبك… مقدرتش أحميكي من الصدمة دي… بس سامحيني… انتي سبتي المستشفى ليه بس يا دمع ؟!
نظرت له، والدموع تتفجر من عينيها كالسيل، وهتفت:
كنت رايحة أقتله… اتجننت لما عرفت اللي عمله في ونس… ومحستش بنفسي غير وأنا ف البيت… والخنجر ف إيدي!
قطب سليم جبينه بدهشة، وصوت الخوف شل ملامحه وغمغم :كنتي… رايحة تقتليه؟!
أومأت برأسها وهي تبكي كأنها تنزف:آه… مقدرتش أشوف ونس بتتظلم أكتر من كده… كان لازم يموت! كان لازم!
ابتلع لعابه بصعوبة، ونظر لها بتوهان ، وروحه تئن بين الشك والرعب، ثم قال بهمس متماسك ظاهريا، منهار داخليا: دمع… اهدي… واحكيلي كل اللي حصل… بالتفصيل الممل… فاهمة؟
أومأت برأسها ببطء، وهي تحاول أن تلتقط أنفاسها التائهة، غارقة في شرود قاتم، تستعيد فيه لحظات الألم لحظة بلحظة، نبضة بنبضة…
………………………………..
ف شقة ادم خطاب
في شقه غمرها صمت الليل، خرج آدم من المرحاض وهو يمسح قطرات الماء المتسللة من شعره بمنشفة قطنية، وسرعان ما التقط بنطال منزلي ارتداه على عجل. لم يمهله الوقت كثيرًا ليستعيد سكونه، إذ باغته صوت طرقات على الباب، عميقة كأنها تحمل على وقعها وجعا ما.
فتح الباب، لتتسع عيناه بدهشة ممزوجة بالقلق، حين وجدها تقف أمامه…
كانت جيلان كمن خرجت من عاصفة. ملامحها باهتة، ثيابها مبعثرة، وجسدها يرتجف كمن قذف في بحيرة جليدية. عينيها دامعتان، ونحيبها المتقطع كاد يخلخل روحه قبل أن يصل إلى أذنه….
نسي كل شيء في تلك اللحظة !! كلماتها القاسية، جرحه منها … وانكسر أمام ضعفها كمن استسلم لحنينه المكبوت….
اقترب منها بخطى متسارعة وهتف بقلق عارم:جيلان؟! إيه اللي حصل يا عمري؟!
دون تفكير، دون وعي، فقط ألقت بنفسها بين أحضانه كطفلة تائهة وجدت أخيرا ملاذها، وصاحت بشهقات ممزقة:ونس يا آدم… ونس!
ضمها بذراعيه بقوة، كأنه يحاول أن ينتزع منها الوجع، أن يزرع فيها الأمان، وقال بصوت مرتعش:اهدي يا حبيبي… مالها ونس؟ زعلتك ف حاجة؟
تراجعت قليلا، نظرت إليه بعينين غارقتين في الذهول، وهزت رأسها نفيا، قبل أن تهتف بصوت مكسور:لأ… لأ… ونس متهمة بقتل أبوها!
تجمد في مكانه، بينما هي وضعت يدها على صدرها كمن يخشى سقوط قلبه، ثم انهارت أرضا كزهرة ذابلة خذلتها ساقيها، لكنه أمسكها قبل أن تهوي، واحتواها بذراعيه وهتف بحرقة:لأااا… يا قلبي، اقفي كده… مفيش حاجة توقعك وأنا على وش الدنيا!
رفعها عن الأرض، وسار بها إلى أقرب أريكة، بينما أنفاسها تتقطع في صدرها، تكاد تختنق من هول الموقف….
وضعها بلين، ثم أسرع إلى المطبخ وعاد بكوب عصير ليمون بارد. جثا أمامها، وقد اختلطت في صوته خشونة الرجولة بحنو العاشق، وهمس: اشربي يا حبيبي… العصير ده هيهديكي شوية.
أومأت له بخضوع، والدموع تنهمر على وجنتيها، فأوصل الكوب إلى شفتيها، فارتشفت منه رشفة بالكاد، بينما هو يراقبها كأنها أنفاسه ذاتها، وقال: كمان مرة يا عمري… علشان تهدي، بس كمان مرة بس.
ارتشفت رشفة أخرى، وأتبعتها بأنة مرتعشة وهمسة:
كفاية… مش قادرة يا آدم… معدتي متشنجة وتعبانة.
هز رأسه بتفهم صامت، ووضع الكوب على الطاولة بخشوع يشبه من يودع آخر خيط من طاقته، ثم عاد إليها، يمرر إبهامه على دموعها بلمسة تنضح حنانًا يكاد لا يحتمل….
جلس إلى جوارها، وهمس بصوت خافت يحمل كل الرفق الذي اختزنته الحياة في قلبه:احكيلي… إيه اللي حصل يا جيلان؟
بلعت لعابها بصعوبة، وبدت الكلمات وكأنها تقاتل لتخرج من بين دموعها التي تجمدت على أطراف جفنها، قبل أن تقول بصوت متهدج : ونس متهمة بقتل باباها… وهي دلوقتي في القسم… وخايفة… خايفة تضيع مني!
أنا لسه مصدقة إني أخيرا عندي ماما زي باقي صحابي… مش قادرة أعيش شعور اليتم من تاني يا آدم… مش بعد ما حسيت بيها بجد….
كان الحزن ينهش وجهها، والارتجاف في صوتها يشق قلبه شقا… أمسك يدها، وانحنى يقبلها برقة وسحبها اليه ورفعها بين أحضانه وضم جسدها الصغير إلى صدره،
كأنما يحميه من العالم، وهمس: لأ يا جيلان… أكيد في حاجة غلط… ونس مش ممكن تعمل كده… أكيد الباشا مش هيسيبها، وهيخرجها وهترجعلك… صدقيني.
تشبثت بعنقه كطفلة ضائعة وجدت مأوها بين أحضانه، وهمسة بصوت ممزق الأنفاس: أنا مرعوبة… أول مرة أحس إني مش لوحدي، وأني عندي حضن أرجعله… أول مرة أحس إني بتكلم من غير ما أوزن كل كلمة…
أنا محستش بوجع لما ماما ماتت لأني كنت صغيرة… بس دلوقتي؟ دلوقتي أنا بتهد من جوايا، دي أصعب، أصعب بكتير يا آدم!
أغمض عينيه وأطبق شفتيه، كأن كلماته ماتت بين ضلوعه، ثم رفع كفه ليمرره على شعرها، كأن لمسته وعد بالأمان، رد بصوت أجش، خرج من بين قلبه قبل حنجرته:متخافيش يا قلبي… ونس هتخرج… مستحيل تعمل كده….
ظلت تنحب بصمت، وجسدها يرتجف بين أحضانه، بينما هو يربت على ظهرها برقه وحنان عاشق يتمسك بها كما يتمسك الغريق بأنفاسه الأخيرة….
مر وقت طويل قبل أن تهدأ أنفاسها، وسكنت أخيرًا بين ذراعيه. نظر إلى ملامحها بهدوء، ورفع وجهها بلطف، ليجدها قد غرقت في نوم عميق، كطفلة أرهقها البكاء وأراحها الدفء…
مسح على شعرها برفق، وطبع قبلة ناعمة على جبينها، ثم حملها بين ذراعيه ككنز ثمين، ووضعها برقة على الأريكة….
غاب في الغرفة قليلًا، ثم عاد بشرشف قطني، دثر به جسدها النحيل كأنما يغلفه بالحنان، وعاد مرة أخرى،
سحب أول قميص أمامه وارتدي ، قبل أن يدخل المطبخ ويبدأ بإعداد العشاء، بينما عقله يدور في دوامة من الأفكار حول ما روته له جيلان.
مرت ساعتان، وكان العشاء قد شارف على الانتهاء حين سمع صوتها الخافت يناديه: آدم !!
خرج من المطبخ بخطى مسرعة، يلهث بالشوق، وهتف بنظرات ملهوفة: صحي النوم يا چيجي !!
هزت رأسها بخجل، وهي تتهرب بعينيها من نظرته، كأنما تحتمي منه بحيائها، تشعر بوخز كلماتها القاسية التي ألقتها عليه يومًا، وهو الآن يعاملها بحنان يتجاوز حدود التحمل، بصبر واحتواء لم تعرف مثلهما، والأهم… أنه لم يتجاوز حده معها، رغم أنها نامت بين ذراعيه، في شقته، في أمان.
وكأنه قرأ أفكارها، شعر بخجلها دون أن تنطق، فاقترب منها، وجلس إلى جوارها، ثم نظر في عينيها بنظرةٍ موغلة في الوجع، وقال:كان نفسي أكون ليكي كل الدنيا… كل السند، وكل الأمان… بس شكلي فشلت، صح؟
هزت رأسها بعنف، وهمسة بحرقة:لا يا آدم… انت أول حد حسيت إنه ليا… أول حد جريت عليه وأنا خايفة… حضنك أول حضن حسيت فيه بالأمان…
أنا مليش غيرك!
ابتسم من طرف فمه بسخرية مريرة، وقال: آه عشان كده الدبش اللي ضربتيني بيه الصبح؟!
اقترب منها، وسحبها من ياقة قميصها، وعيناه تلمعان بشرار الغضب الممتزج بالعشق: عارفة يا جيلان… لولا إنك لسه صغيرة ومش فاهمة الكلام اللي قولتيه… كنت عملت فيكي مصيبة…
يعني ايه عايزة تحتفظي بكل حاجة لحبيبك؟ أمال أنا إيه؟يا بت الـ ..
كاد يلفظ لفظ نابي ، لكنه عض لسانه في اللحظة الأخيرة، أما هي فبلعت لعابها بخجل، وهمسة:آدم… اهدي… سبب القميص يتقطع وتبقى مصيبة سودة!
ضحك بعبث وعض شفته بقوه وهو ينظر إلي عنقها وبروز نهديها اللامع ، وقال:ولا سودة ولا حاجة… دي بيضا وقشطة!
شهقت بفزع وقبضت علي قميصها ،وهتفت :آدم! بطل جنان!
قبض على ذراعها، وجذبها نحوه، وقال بجدية:
جيلان… لازم تعرفي إني عمري ما كنت مع واحدة زي ما أنا معاكي…من يوم ما دخلتي حياتي، قلبي ما شافش غيرك،
ولا لمست حد من يوم ما حبيتك .. عارفه يعني ايه … سنين وأنا مستنيك؟!
تلعثمت، وعضت شفتها بخجل وهمسة :أنا آسفة… والله مكنتش أقصد، بس غيرتي خدتني… خوفت لما شوفت الست دي قريبة… لخبطت في الكلام زي الهبلة.
قطب حاجبه: خوفتي من إيه؟
عضت شفتها بخجل ونكست راسها أرضا وهمسة:خوفت تخطفك مني!!
صمت ثم ابتسم كمن خدر قلبه، واقترب منها
وعض شفتيه وهو يشعر بقلبه يطرق بعنف ويتضخم بعشق تلك الصغيره ولكنه مازال يريد المزيد منها من كلماتها الرقيقه.. ومشاعرها البتول.. وقلبها الماس .. واخيرا جسدها الذي يرق نومه ويشعل النار بجسده المشتعل وقال : أنا محدش يقدر يخطفني منك… ولا يخطفك مني… احنا بتوع بعض، فاهمة يعني إيه؟
يعني انتي حياتي كلها.
اقترب حتى لامست أنفاسه شفتيها، و أوشك علي تقبيلها وغمغم بصوت أجش مثير: أنا مش عايز غيرك من الدنيا كلها، انتي كل حاجة عندي يا جيلان.
أغمضت عينيها باستسلام وخضوع وهمسة : وانت كمان يا آدم.
ابتعد عنها بخفة وقال: بس برضو… مش هقرب منك تاني.
شهقت، ولمعت دموعها وهمسة :إيه؟!
نظر إليها بحزم وقال : لحد ما تبقي مراتي… أنا فقدت السيطرة على نفسي معاكي مره ، وده مش هيحصل تاني،
لحد ما تكوني حلالي، قدام ربنا والناس.
همست بانكسار: يعني انت زعلان مني؟
أومأ بخفه وقال: أوي.
اقتربت منه، ولفت ذراعيها حول عنقه والتصقت به وهمسة :أنا آسفة يا آدم… بجد، آسفة… غيرتي خدتني، وأنا غبية… غبية جدا.
ابتسم بعبث ، وقال: يعني كده صلحتيني؟”
رفعت منكبيه بقلة حيلة وغمغمت :أنا مش عارفة أعمل إيه عشان اصالحك
قبض على يدها، وقال بمرح: تعالي… اعملي لي عشا من إيديكي الحلوة يا چيچي!
فرغت فمها بذهول و بخجل، وهمسة: ينهار إسود على دماغك يا جيلان..
…………………………………….
فيلا سليم الباشا
بعد منتصف الليل
سكنت الأنفاس في المكان بعد تلك اللحظات المدمرة. كانت دمع في صراع داخلي عنيف، وتراجعها عن الانهيار كان يحتاج لوقت طويل…
حاول سليم قدر استطاعته أن يهدئ من روعها، أن يمنحها الأمان الذي فقدته، وأخذ يدها برفق، مسح على جبينها، وكأن لمساته قد تلمس خيوط من الأمل في صدرها المظلم…
أنفاسها كانت تتسارع وتتكسر في حلقها، حتي ذهبة في سبات عميق إثر الانهاك النفسي والمجهود الذي عصف بها.
وفي اللحظة التي سكنت فيها الأجواء، واعتقد سليم أنها بدأت في الاستقرار، تخلل الصمت فجأة صوت طرقات عنيفة على الباب.
طرق متسارع، كأنه يعلن عن بداية عاصفة جديدة، تعصف بكل شيء.
قفز سليم من مكانه بصدمة، وقلبه يعصف به، وهو يركض نحو الباب.
فتح الباب ببطء، فواجد والده أمامه بطوله الفاره المهيب
كان وجهه مشوها بالغضب، ملامحه عميقة وعيناه مشتعله كأنه على وشك الانفجار.
وغمغم بصوت عميق منخفض لكنه يحمل غضبا لا يمكن إخفاؤه: فين دمع؟
أوما سليم وهو يعلم تماما ما تحمله هذه اللحظة من تبعات، استجمع شجاعته، وقال بصوت مضطرب:هي نايمة يا باشا .. حاولت اهديها شوية… حالتها صعبة اوي ..
لكن جبران لم يرد، ودلف بخطوات واسعه إلى داخل الفيلا.
وأغلق الباب خلفه، وتوقف للحظة ينظر إلى سليم بعيون يملؤها بالقلق… وهتف بنبرة أكثر حدة: ناديهاا، يا سليم!!!
شعر سليم، بأن وقع هذه الكلمات يضغط عليه، رفع يده بحركة تحاول تهدئته، وقال:يا بابا ، استنى… هي مرهقة، اللي حصل مكنش سهل عليها، لازم تهدأ شوية ارجوك !!
لكن في هذا الوقت لم يبد علي جبران أنه يعتزم الانتظار. عصف بصوت أكثر قسوة : مفيش وقت، يا سليم… أنا جاي عشان أفهم، وأخرج مراتي من اللي هي فيه. ناديهالي دلوقتي !!
شعر سليم بألم عميق في قلبه لرؤية الضغط الذي تعيشه، لم يكن قادرا على ردعه. فابتعد بسرعة نحو الدرج ، لكنه وجد دمع تنزل ببطء، وقدمها ترتجف وتخطو خطوة بخطوة كأنها تحمل جبال فوقها
توقفت عند آخر درجة، وجسدها يهتز من الخوف، وعيونها مملوءة بالتردد والارتباك، وكأن قلبها ينازع بين رغبة في الهروب وبين الحاجة إلى مواجهة الحقيقة.
اقترب منها سليم ، لكنه توقف عندما لمح ملامحها، ورفع يديه في محاولة لتهدئتها: دمع… متخافيش، الباشا جاي يطمن عليكي.. ويفهم منك.. احكيلوا ومتخفيش …
هو هيفهمك وهيحل كل حاجه يا قلبي !!
لم تستطع دمع أن تلجم الجحيم الذي كان يندلع في داخلها، فخرجت الكلمات من فمها متقطعة، كأنها تنطق عن قهر: ونس ملهاش ذنب هي جات وانا ماسكه السكينه وهي خافت عليا ..
اقترب منها جبران، وهو يراقب الموقف بتركيز عميق، اقترب منها خطوة، ثم قال بلين ملحوظ في صوته، وهو يمد يده إليها: تعالي، يا دمع تعالي يا بابا … متخافيش، أنا مش جاي ألومك، أنا جاي أسمعك، وأفهم كل حاجه .. قوليلي كل حاجة.
تمسكت به دمع، وهي في حالة من الفزع، ونظرت إليه بعينين مليئتين بالدموع، وهمسة بصوت متحشرج، كأن الكلمات تنزع منها بعنف: أنا… أنا السبب في كل حاجة، يا عمو … كنت هقتله… مش قادرة… مش قادرة أصدق اللي حصل.
تنفس جبران بعمق ، وتحرك بها الي اقرب اريكه ، وهو يقول بهدوء: وأنا مش جاي هنا علشان ألومك… أنا جاي هنا علشان أوقف الكارثه قبل ما تكبر . قوليلي كل شيء، بالراحة… كل حاجة.
ثم ابتسم ابتسامة حزينة، ودون أن يتوقف عن النظر إليها قال:أنا هنا علشان أساعدك، وأساعد ونس. وعمر ما هكون ضدك، يا دمع… انتي مرات ابني وزي جيلان عندي ومش هسمح بحاجة تمسك
شعرت دمع بشعور يشبه الأمان امان من نوع خاص لم تذق طعمه ف حياته الان فقط تعلم ماذا تعني كلمه اب وحضن وحنان الاب ، ورغم الألم والدموع نظرت له ،
وهمسة بصوت منخفض ومهزوز: كان لازم يموت… كان لازم… علشان ونس… أنا مكنش فيا صبر أكمل بعد ما شفتها تتعذب…
هزت أقدامها بتوتر وصاحت بجنون : هو مسبش حاجه وحشه واللي عملها فينا أنا بكره بكره اوي
اقترب منها سليم وجثا امامها وهتف محاولا السيطرة عليها: اهدي يا دمع خلاص هو مش موجود دلوقتي كل حاجه انتهت ..
شعر جبران بالشفقه عليها وسحبها بلطف في حضنه وربت علي راسها وغمغم بهدوء : اهدي، يا بنتي… اهدي… أنا هحميك، وهحمي ونس. دي مش النهايه دي البدايه يا حبيبتي ..
تمسكت بكف سليم ورأسها علي صدر جبران وهي تنحب وتشهق بصوت مكتوم مر الوقت حتي بدأت تهدي تدريجياً وشردت ف تلك اللحظات المريره التي مرت بها
فلاش باك ..
دقائق قليلة مضت منذ أن تركت دمع المستشفى وكانت قلبها يعتصره الألم والخوف… من مواجهة القادم. لكن، حين دخلت منزلها، توقفت خطواتها فجأة عند باب الشقة.
كان الجو داخل المنزل كئيبا، مظلما، وصمت مطبق يعم الأرجاء….
خطواتها المترددة أخذتها إلى الداخل، لكنها توقفت عند الباب. جحظت عينيها برعب وهزت رأسها بجنون وهي تري هذا المشهد كان كالكابوس الذي يلتهم كل شيء حي حوله
كان جسد صبحي ملقى على الأرض، عينيه فارغتين، وسحابة الدم التي غمرت الأرض حوله كانت تشير إلى ما قد وقع. في صدره كان هناك خنجر ضخم، مغروس بعنف، كأنما السكين قد صار جزءا من قلبه نفسه.
صرخت دمع بصوت مكتوم وهي تحاول كتم صرختها وكأنها تبذل جهدا كبيرا كي تمنع قلبها من الانفجار داخل صدرها، لكنها لم تستطيع أن تمنع نفسها من الصراخ.
: لالالا
انطلقت صرختها في المكان الفارغ، صوتها يقطع قلب الفزع الذي اجتاحها. أقدامها تراجعت إلى الوراء، وكأن جسدها يرفض الاقتراب من تلك الحقيقة البشعة.
رجعت خطوتين إلى الوراء، وارتطمت بأحد الكراسي بوقع رهيب، فسقطت على الأرض، ولكنها لم تكترث.
عيناها كانت مشدوهتين بتلك الجثة، بتلك النهاية المروعة، والتي لا يمكنها أن تصدق أنها الحقيقة….
وغمغمت بنحيب: مش كده مكنتش عايزك تموت كده !!
حاولت النهوض وهي تتمنى أن يكون كابوسا سيختفي مع أول ضوء. لكنها كانت تعرف أنه ليس كذلك.
اقتربت خطوة، ثم أخرى، متمسكة بشجاعة غير موجودة، قلبها يرقص بين الرعب والألم، وهي تقترب من جسد والدها الملقاة بين بركة الدم.
وبحركة غبية، وبيدين ترتجفان، حاولت أن تلمس الجثة، وسحبت الخنجر بعنف.
في لحظات من الرعب الحارق، كان قلبها يتناثر معها في كل لحظة تهز الخنجر في يدها المرتجفة : آآآه… ده حصل… ده حصل! أنا قتلته… أنا قتلته…
عوده
هو ده كل اللي حصل والله العظيم ..ولما ونس دخلت وشافت الخنجر ف ايدي.. افتكرت اني قتلته وحاولت تحميني زي ما بتعمل طول حياتها !!
ربت جبران علي راسها برفق، واحتضنها بحنان الأب الذي لا يمكن أن يضاهيه شيء… كان يشعر بها، يشعر بكل خلية في جسدها التي تهتز من شدة الفزع والحزن،
ولكن لم يكن لديه سوى الكلمات الهادئة والاحتواء ليخفف من وطأة الكارثة التي حلت بها :خلاص اهدي يا دمع ..ونس هتخرج !! ومستحيل اسيبها ولا حد يمس شعره منها.. بس اهدي يا حبيبتي… اهدي… اهدي يا ابنتي.
كان صوته عميقا، محملاً بالألم، لكنه يعكس قوته الداخلية التي كانت تهدف فقط إلى تهدئتها…
ام سليم كان يجلس بجانبها، يحاول أن يهدئها بلطف، لكنه يعرف أن ما تمر به أصعب من أي كلمات يمكن أن تقال. فقط الوجود بجانبها كان الأهم الآن….
قبضت على كفه جبران وحاولت تقبيلها بنحيب وهتفت بصوت ميت: ارجوك رجعلي اختي أنا مليش غيرها…
ونس كل حياتي أنا مستعده اشيل التهمه لو ده هيرجعها !!
اوما برأسه وهتف : ولا انتي ولا هي!! اللي عمل كده لازم يتجزي… أنا عايزك تهدي وكل هيعدي بـ
قطع جملته صوت طرق الباب بطريقه مفزعه نهض سليم وركض الي الباب وفتحه ووووو
…………………
ساحرة القلم ساره احمد