بين أحضان قسوته

بين احضان قسوته (الفصل السادس والثلاثون)

بين احضان قسوته (الفصل السادس والثلاثون)

أوقَات الخلافَات هي الإختبار الحقِيقي .. للحبِ أو الصداقةُ وكل العلاقات بينَ البشر

فهناكَ مَن يختلفُ مَعكَ … و يهدمُ كل ما كَان بينكُم ،
وهناكَ من يغضب مِنكَ … و يزدادُ بينكمُ الود بعد إنتهاءه دُون أن تشعر بالخذلان
وهناك من يُخالفُكَ في كُل شيء … لكنهُ
يحفظ لكَ كرامتكَ فلا يُقلل من شأنُكَ أبدًا
بل و يذكُركَ بالخيرِ … ما جَائت سِيَرتُكَ

حقيقةُ الحُب و قوتُه لا تكشفُها إلا المواقف الكبرىَ التي تعصفُ بالعلاقةِ
هي ما تُثبتُ مدَى صدقُها و مقاومتِها لصدماتِ الحياة
فَقط المشاعرُ الصادقةُ الطيبةُ هي التي لا يُغيرها و لا يُبدلها البُعد أو الخِلَاف
أو حتى الهجر …

قطع جملته صوت طرق الباب بطريقه مفزعه نهض سليم وركض الي الباب وفتحه

وجد اميره ومي أمامه ..الدموع كانت تتساقط بغزارة من عينيها كالسيل الجارف، وقلبها يكاد ينفجر من شدة الألم….

دخلت أميرة ومعها مي، كانت تنهار أمامهم، وتكاد الكلمات التي تحاول إخراجها تذوب في فمها قبل أن تصل إلى لسانها…

لكن مي كانت متجمدة في مكانها، عيناها تتسعان في ذهول وكأنها تشاهد شبحا أمامها.
نظرات مي كانت عميقة، يملؤها الصدمة، وعيناها تتنقلان بين دمع وبين جبران،

نظر لها جبران وقطب حاجبه بدهشه …وبحركة مفاجئة، اقترب منها ، وجذبها برفق، وضمها إلى صدره كما لو أنها ابنته،

محاولا أن يخفف عنها ما تراكم في قلبها من فزع…. وغمغم بصوت دافيء : إنتي هنا ، يا مي، مفيش حاجة تخافي منها هنا !!

قالها بهدوء، وهو يمرر يده على شعرها، وكأن كلمات الأب تملك سحرا يداوي الألم.

ضمته مي برعب حقيقه بنظرات تائهه جاحظه بفزع ينخر عظامها
غمغمت اميره بنحيب حاد: لازم تسمع الكلام اللي مي قلته بسرعه!!

أخرجها جبران من حضنه ..ومسح على شعرها بحنان وقال بصوت حنون دافيء: قولي يا بابا أنا سامعك ومتخفيش من اي حاجه !

نظرت له وكأنها تجمع أنفاسها لتقول ما كان يعصر قلبها. أخيرا، تحدثت بصوت مخنوق، يكاد لا يسمع:
شـ شفت الرااجل… االلي جـ جيه … قبل ما يـ يحصل كل ده… كان بيتخانق مـ مع بابا … وبعدين… ضـ ضربه بالسكينه الكبيره كـ كتير .. وهووو كان بيصررخ … وكااان دم كتيرر

كانت الكلمات تنفجر من فم مي كالرعد، وكانت فوضوية، مليئة بالاضطراب، وكأنها تكافح لإخراج ما رأته…

أما دمع ، التي كانت منهارة في حضن سليم ، ارتعشت بشدة عند سماع كلمات مي. كانت كأنها تسقط في عالم آخر من الصدمة، والدموع التي انهمرت على وجهها أصبحت أكثر حدة…

كان المشهد يزداد قسوة، وبينما كانت الكلمات تتساقط كحبات المطر، كان جبران يضم مي إليه أكثر، ويغمرها بحنان لم تفهمه في البداية، لكن وجوده كان بمثابة الحبل الذي يربطها بالأمان، ولو للحظات….

ربت جبران علي راسها وقال بصوت أكثر دفئا وحنان : حبيبتي مي الجميله تقدري توصفي الراجل ده ؟!

هزت راسها وبدأت وصف ملامح هذا المسخ الذي انطبعت صورته في خيالها ربما الي الأبد …

…………فلاش باك ……..
في تلك اللحظة، دوت خبطات الباب كالرعد في صمت الليل، فرفع صبحي رأسه عن شاشة التلفزيون، ورمق الباب بنظرة مشبعة بالنفور وهو يظن أن اميره قد عادت إلا أن الخبطات جاءت قوية، وكأنها تزعزع سكونه.

أسرع نحو الباب، وفتح على مصراعيه ليجد أمامه عيسوي .. لم يكن يراوده شك في حقيقة وجوده هنا، فهو دائمًا ما يأتي لمهمة يجهل تفاصيلها، ولكن هذه المرة كان واضحا أن الأمر يختلف…..

ترك صبحي الباب وغمغم بابتسامه ساخره : ادخل… إيه الباشا بتاعك مكفهوش خناق في التليفون؟ بعتك تكمل الخناق معايا؟

لم يرد عيسوي، بل اكتفى بتحريك رأسه بحركة هادئة ثم دلف إلى الداخل بخطوات متأنية. كانت العيون مشدودة إليه، وهو يرفع يده ويستخرج الخنجر من طيات معطفه. كانت الحركة بطيئة، وكل شيء يسير في صمت شديد.

تحرك صبحي، حتي يعود إلى مكانه على الأريكة، وكأن شيئًا لم يحدث، ولكن عيسوي كان يتحرك خلفه بخفة غريبة.

هتف صبحي دون أن يلتفت : مش هنقعد نتخانق طول الليل، فيه شغل لازم نخلصه…

لكن عيسوي لم يرد، بل باغته بحركة خاطفة، فقبض على عنقه، وكتم أنفاسه …الخنجر الذي كان بيد عيسوي، انغرس في صدر صبحي بكل قوة، في طعنة أولى. ثم في أخرى، وآخر، وأخرى.

وصبحي يصرخ بعنف محاولًا مقاومة تلك الطعنات الغادره و صاح :أنت… مش هتقدر تموتني ..ولا تقدر تعمل حاجة… مش هسيبك…!

كان صبحي يلف جسده يمينا ويسارا في محاولة يائسة،للافلات من قبضته ولكن الطعنات كانت تأتيه واحدة تلو الأخرى، ليتساقط دماؤه على الأرض ويغرق المكان في لون أحمر قاتم.

كان الجرح عميقا في قلبه، وفي اللحظة الأخيرة، رآى عيسوي يغرز الخنجر في قلبه بشدة، ليحسم الأمر، وتنتهي حياة صبحي في لحظة….

تسلل الموت إلى جسده، وسقط على الأرض، يسبح في بركة من دمه، بينما كان عيسوي يلتقط أنفاسه، مغمورا بالصمت…

لكن بعيدًا عن هذا، ومن خلف الدولاب، كانت مي، تراقب المشهد بكامل تفاصيله. عيناها كانت تتسعان من الخوف والرعب، والألم كان ينقض على قلبها وهي تشاهد ما يحدث أمام عينيها، ولا تستطيع الهروب من هذا الكابوس.

همسة مي وعيونها مشدودة على هذا المشهد الدموي:
يا ماما… يا ماما… لالالا إيه ده؟

لكن لم تجرؤ على الصراخ، بل اكتفت بالاختباء خلف الدولاب،وهي تضع يدها على فمها تمنع شهقتها…بينما كانت دموعها تتساقط دون أن تجرؤ على إيقافها. كان الخوف يعصر قلبها، والكلمات التي كانت تتفوه بها كانت لا تجد لها مكانا.

بسرعة، تحرك عيسوي بعد أن أكمل مهمته القاتلة. كانت ملامح وجهه خالية من أي تعبير، وكأنما لا شيء قد حدث. رآه صبحي يسقط ويموت وغادر المكان بخفه

……….عوده ………….

بينما كانت مي تروي ما شاهدته، كان سليم وجبران يعلمان أن هناك شيئًا ما أكبر من أن يفهم في اللحظة الراهنة.

نهض جبران من مجلسه، كأن شرارة قد أضرمت في كيانه… كان عقله يعمل بأقصى طاقته، يدور في كل اتجاه،
ينسج الخيوط ويشد العقد، لعله يسبق الوقت ويصل إلى الحقيقة، قبل أن تفلت من بين يديه كالدخان.

اقترب من مي، وربت على رأسها برفق غريب لا يشبه صلابته، ثم استدار نحو الخارج، يتبعه سليم الذي هتف من خلفه بصوت تغلفه العجلة والقلق: هنعمل إيه يا باشا؟ ونس لازم ترجع بيتها الليلة… بأي تمن.

وقف جبران لوهلة، ثم التفت بعينين لا تعرفان الرحمة، وصوته انبعث حادا قاطعا كالسيف: هتطلع… مراتي مش هتبات ليلة بره بيتها.

زفر سليم في ضيق، وتمتم بغضب كأنما يلعن خيالًا:
الله يحرقك يا صبحي، معذبهم في حياتك وموتك.

لم يعلق جبران، فقط أومأ برأسه في يأس ثقيل

خرجت نظلي بفزع وهتفت : جبران فيه ايه؟! الاخيار والسوشال ميديا مقلوبه!! ونس ف القسم بجد ؟!

كور قبضته وانطلق الشرر من عينيه بلهيب قاتل وهز رأسه بجمود وهدر : ايوه!! بس هتطلع مش هسيبها لو أطبقت السماء علي الأرض …

وضعت يدها على فمها وهتفت : دي مصيبه يا جبران !!

ربت سليم علي راسها وقال: هتطلع يا عمتي.. متخفيش هنلم الليله دي النهارده !

خرجت دمع واميره من الفيلا وهتفت دمع بنحيب : الاخبار بكلام وحش اوي علي ونس !!

نظر لهم جبران بحده ممزوجه بالغضب وهدر: كل واحد قال كلمه علي مراتي هيدفع تمنها …

اقتربت نظلي من دمع وضمتها وهتفت : بس كله هيتصلح… تعالي معايا يا دمع لحد ما عمو جبران يرجع بونس !

تحركت دمع واميره ومي مع نظلي الي داخل القصر وهي تجر اقدمها بضعف وكأنها تحتضر بالبطيء

نظر جبران إلي سليم وغمغم بحده لا تقبل النقاش :
عايز اعرف مين اللي سرب الاخبار دي !!

اوما سليم برأسه وقال: حاضر بكره الصبح كله هيبقي تحت ايدك …

لفت انتباههم صوت محرك سيارة تقترب. التفت سريعا ليرى علاء يوقف سيارته أمام القصر، ف اندفع نحوه بخطوات واسعة وقلبه يخفق بعنف: ها يا علاء؟ عملت إيه؟

ترجل علاء، ملامحه مشدودة وصوته خال من التردد:
تمام، وصلت للعنوان اللي هربت فيه!!

لم ينتظر جبران سماع المزيد، ركض نحو سيارته وكأن الزمن يطارده، تبعه سليم وعلاء، وانطلقت السيارات تحدث صريرا وحشيا كأن الأرض تأبى أن تتركهم يمرون بسلام، والغبار خلفهم يرسم ستار كئيب على الطريق.

……………………………

مر وقت بدا طويلا رغم سرعته، حتى توقفت السيارة أمام بناية سكنية متهالكة في أحد أحياء الإسكندرية الشعبية.
ترجل جبران، وعينيه تمسح المكان بنظرات نارية، وتحرك نحو المدخل بخطى من يحمل غضبا لا يكبح….

صعد الدرجات كذئب جائع يتعقب فريسته، وتوقف أمام أحد الأبواب. أشار له علاء برأسه، فأومأ جبران، ثم دق الباب بعنف اندفعت مها تفتح الباب وهي تشعر كأن الساعة قد دقت معلنة قيامتها.

وما إن التقت عيناها بنظراته حتى شحب وجهها، وتجمدت ملامحها في ذعرٍ كامل. حاولت إغلاق الباب، لكنه دفعه بغلظة جعلتها تتراجع وتسقط أرضا،

فيما هو يخطو إلى الداخل بخطوات ثقيلة تغرز كالإبر في كيانها. وقف فوقها كجبل لا يزحزح، وقال بصوت غليظ مرعب: هتفضلي طول عمرك غبية… فاكرة إني مش هعرف أوصلك؟

ارتجفت مها، تكسرت أنفاسها في صدرها كأنها على حافة الاحتضار: أنا ماليش دعوة! أنا هربت قبل ما يقتلوا والله!

صرخ جبران، وحرارته تسبق كلماته: وأنا قلتلك… كل نفس في حياتك يبقى بإذني! بدل ما تيجي تبلغيني… تهربي؟ يا بنت الـ…

تجمع أهلها على الصوت المرتفع، وخرجت والدتها، تحتضنها وتصرخ برجاء:حرام عليكم! عايزين إيه من بنتي؟ دي عيلة يا ناس!

أشار جبران لعلاء، الذي أخرج سلاحه بلا تردد، شد الأجزاء، ووضع فوهته على جبهة مها. تجمد الدم في عروقها، جسدها كله يرتجف، وانهارت دموعها وهي تصرخ: لااا… أبوس إيدك! أنا خوفت لما لقيت الموضوع داخل في دم!

رد جبران بصوت مميت: ودمك… هو اللي هيكون التمن.

ضغط علاء الزناد بخفة مهددة، فشهقت الأم وسقطت مها على ركبتيها تبكي بنشيج مزلزل: عندي… عندي دليل براءة مراتك!

توقف علاء في مكانه فور إشارة من جبران، الذي انحنى نحوها واقترب وجهه من وجهها المرتجف، وهمس كالأفعى:عارفة لو شكيت لحظة إنك بتلعبي بديلك…

هزت رأسها نفيا بجنون: لا والله! من يوم ما بعتني اشتغل عند حازم صفوان وأنا بجبلك كل حاجة، بس لما سمعتهم بيتفقوا يقتلوا صبحي… خفت وهربت. أنا مش قد الناس دي يا باشا… كنت هتفرم ف النص، واتاخد ف الرجلين. بس أنا… أنا صورت كل حاجة! فيديو… حازم بيقول لعيسوي يقتل صبحي.

لمع بريق خطير في عيني جبران، وقبض على ذراعها بعنف: فين الفيديو؟ هاتيه بسرعة.

نهضت تتعثر، جلبت الهاتف، مدته له ويدها ترتجف ودموعها تسيل: صورته عشان أثبت إني ماليش دعوة.

خطف الهاتف بلهفة، فتحه، وما إن رأى الفيديو حتى احترقت عيناه بغضبٍ لا يوصف.
اقترب سليم، نظر إلى الهاتف، وما إن فهم ما فيه حتى صفع مها بقوة أوقعتها أرضا وهي تبكي بحرقة: عملتوه يا ولاد الحرام!

قبل أن تنطق، أمسكها جبران وهزها بعنف: دلوقتي… هتطلعي معايا، تسلمي الفيديو وتتكلمي بكل اللي تعرفيه.

صرخت، وتراجعت بجزع: أبوس إيدك! مستقبلي هيضيع!

جرها بلا رحمة وهدر : ف ستين داهية انتي ومستقبلك! لازم مراتي تطلع منها، يا ولاد الكلب!

فزعت والدتها، حاولت التشبث بها، لكن علاء أبعدها ودفعها بعنف: اسكتي يا وليه، لو عايزة بنتك ترجعلك تاني.

وضعت يدها على فمها، وهي تبكي وتناجي: آهو بس رجعولي بنتي… أبوس إيديكم.

غادر جبران، يجر مها خلفه، وسليم وعلاء معه. وعند السيارة، قال جبران:أول ما نوصل، أنا هطلع ع القسم… وانت تجيب مي وتحصلني.

أومأ علاء، لكن سليم هتف:هروح معاه، عشان مي متخفش.

هز جبران رأسه موافقا، ثم دفع بجسد مها المرتجف إلى داخل السيارة، وأدار المحرك، منطلقًا نحو القاهرة، والغضب يسبق عجلاته نحو الحقيقة…
……………………………….
ف قسم الشرطه

كان الليل ساكنا كجفن ميت، إلا من خطوات حادة اقتربت من باب المكتب، تسبقها هالة من الغضب المحتقن والعزم الذي لا يلين.
فتح جبران الباب دفعة واحدة، فاهتز الهواء، كأن الوجع اقتحم المكان بقدمين ثابتتين.

تقدم إلى الداخل، يده القوية تمسك بذراع مها، التي تبعته بصمت خائف، وعينين تغزلان الذعر والندم في خيوط كثيفة.

رفع الضابط رأسه من فوق الأوراق المتناثرة على مكتبه، وعيناه تشعان بترقب: ايه ده !! مين دي؟ فيه ايه ؟!

وضع جبران الهاتف المحمول على الطاولة، صوته ثابت كحد السيف: دي مها كانت بتشتغل عند حازم صفوان!! والموبايل ده في فيديو هتفهم منه كل حاجه …

مد الضابط يده ببطء، كما لو أنه يلامس مفتاح سيفتح به باب الحقيقة.
ضغط على الشاشة، والفيديو بدأ يدوي صداه في الحجرة كصوت خفي عاد من القبر.

الصورة تهتز… لكن الصوت واضح.

حازم: عايزك تخلص عليه النهارده يا عيسوي. مش عايز اسمع اسمه تاني.

عيسوي، بضحكته المألوفة: اوامرك يا باشا صبحي خد اكتر من حقه كفايه عليه كده

حازم:أنا شايف كده برضو . بس أهم حاجة، … عايز العملية تبقى نضيفة.

تتوقف الصورة، ويعم الصمت.وكانهم علي رؤسهم الطير

رفع الضابط عينيه إلى مها بلهيب حارق وهتف :

انتي يابت لما كنتي عارفه مجتيش بلغتي ليه ؟

أومأت مها بصوت خافت: انا خوفت يا باشا! خوفت أنا مش قدهم !!

في تلك اللحظة، انفتح الباب، ودلف سليم، يحمل بين يديه مي.. تمسك بكفه كأنها تستند على صخرة وسط طوفان.

كانت مي جاحظت العينين من الخوف، ووجهها شاحب كأن الحياة تسللت منه…

قال سليم بهدوء: دي مي يا باشا… الطفلة اللي شافت الجريمة…

بمجرد أن انزلها سليم حتي هرولت خلف جبران واختبئت خلفه ..وقبضت علي ساقه بكلتا يديها… انحني جبران ورفع مي بين أحضانه وهتف بحنان فياض : متخفيش يا بابا ..طول ما انا موجود !!

نهض الضابط ودار حول مكتبه واقترب منها، ونبرة صوته تحمل حنان نادرا: إزيك يا مي؟

همسة، وهي تلف ذراعيها حول عنق جبران بايدي مرتعشه : الحمد لله …

ربت الضابط علي راسها بشفقه وغمغم بحنو : قوليلي يا مي انتي شوفتي ايه ؟!

انكمشت مي برعب يغزو خلايا جسدها المرتجف وغمغمت بدموع: شوفت الراجل قتل بابا !مش ابله ونس والله …

الضابط: أنا مصدقك يا حبيبتي، بس محتاجك تركزي شوية… تقدري توصفلي شكله؟

غمغمت مي، وهي تبلع دموعها، وتتنفس بصعوبة وهمسة :كان لابس جاكيت اسود… طويل… تخين شوية… واسود … كان بيزعق… وصوته عالي…

التقط الضابط الهاتف وفتحه وهتف بصبر :شوفي كده يا حبيبتي !!

عاد الفيديو للعرض، وعين مي تتسعان أكثر، حتى شهقت فجأة، وكأنها رأت الشيطان ذاته: هوووووووووووه!!! هو ده!! هو اللي قتل بابا !!!

انفجرت في بكاء مرير، وارتمت في حضن جبران ، الذي ربت على منكبها برفق وقال بصوت خفيض، لكنه ينضح بالانتصار: يبقى خلصنا… ونس بريئة!!

الضابط أومأ برأسه ببطء: تمام… هخلي النيابة تشوف الفيديو فورا… وخلال نص ساعة، ونس تبقى طالعة من هنا…

رفع جبران عينه نحوه، وصوته يقطر جدية: انا هاخد مراتي وامشي حالا وانتو خلصوا اجرائتكم براحتكم المحامين معاك.. مراتي حامل وكمان طالعه من عملية إجهاد !!

اوما الضابط برأسه وقال: حقك يا باشا ..

………………………………………
في أحدي الغرف في القسم …

كانت الغرفة باردة على نحو لئيم، ليس بسبب الطقس، بل لأن الوحدة فيها كانت سيف يقاتل الأبدية.

او لأن الانتظار فيها يلتهم الأرواح في بطء مميت. ضوء المصباح المتهالك كان يتنقل على الجدران بحركات متقطعة، وكأنها صورة مؤلمة تعيد شريط الذكريات، ولا شيء غيرها.

جلست ونس على طرف الاريكه، تحتضن نفسها كأن ذراعيها صارتا حصنها الوحيد الذي يحميها من السقوط….

الغرفة لم تكن زنزانة، لكن الوحدة فيها أشد قسوة من ألف قضبان….

لا صوت يرافقها سوى خفقات قلبٍ أنهكه الخوف، ولا ظل يجاورها إلا شبح الذكريات التي راحت تنهش روحها نهشا….

وجه جبران، نظراته، صوته، عصبيته، خوفه عليها… كان كل شيء يتردد في ذاكرتها كصدى بعيد، وكأن قلبها وحده من يصر على التمسك به، رغم كل شيء….

همسة لنفسها بصوت متهدج: يا رب… متسبهوش يتكسر عشاني….

شهقة صغيرة هربت من بين شفتيها، تبعتها دمعة خائنة تدحرجت على وجنتها، لكنها لم تمسحها…
تركتها تسيل، كأنها شهادة على ما قاسته من ذل وقهر وظلم…..

ثم فجأة…
تردد صوت خطوات مسرعة في الردهة… خطوات مألوفة، تحمل وطأتها قلقا لا يخفى، ولهفة لا تعرف صبرا.

انفتح الباب بعنف، ووقف جبران، عيونه تبحث عنها بجنون، كأنها الهواء الذي يختنق بدونه….

رآها، وركض إليها وجثا على ركبتيه أمامها في لحظة، أمسك وجهها بكفين مرتجفتين، وبصوت مبحوح كأن حلقه مزقته النيران قال: بصيلي… بصيلي وقوليلي إنك بخير… حد ضايقك؟ حد قرب منك؟ حد زعلك؟!

نظرت إليه، عينيها تسبح في دموع متجمده، ثم همسة كأنها لا تصدق:جيتلي؟!

هز رأسه بعنف، وصوته ارتجف وهو يرد: وانا اقدر مجيش يا ونس ؟! ده أنا موتت مليون مرة من ساعتها… يا ونس، أنا مشيت على نار وأنا رايح وجاي، وكنت هكسر الدنيا عشانك!!

مدت يدها المرتجفة، لمست وجهه، كأنها تتأكد من وجوده وهمسة :كنت لوحدي… كنت مرعوبة… بس قلبي كان بيقولي إنك جاي… بس برضه كنت خايفة… خايفة يطلع قلبي كداب.

ضمها جبران لصدره بقوة، كأنما يضم إليها العمر كله، وهمس في أذنها: ولا يوم قلبك صدق قد النهاردة… حسيتك بتندهيني… كنت سامعك يا ونس.

دخل سليم بعد لحظة، ابتسم وهو يرى ونس في حضن جبران، وقال بهدوء:فيديو صفوان اتفرغ، وكل حاجة خلصت… مبروك يا ست ونس، البراءة جاية رسمي.

ارتجفت شفتاها، لم تستطع الرد، فقط انفجرت بالبكاء وهي تشهق: يعني دمع بريئه يا رب…الحمد الله أخيرا…

جبران مسح دموعها بأنامله، نبرته كانت مزيجا بين الغضب والحنان: كانوا هيكسروا ضهري بيكي… بس ربنا كبير،… وأنا مش هسيبك لحظة من دلوقتي.

هزت راسها ودموعها تنهمر على وجنتيها وغمغمت:
أنا كنت هموت لو قربوا منك …فكرة أنهم عايزين يضروك قتلتني أنا مليش غيرك يا جبران.

ابتسم سليم وهو يفتح الباب: يلا بينا نرجع مرات الباشا بيتها… كتير عليها القرف اللي شافته.

ضحك جبران بسخرية مرة، ونظر إلى ونس وهو ينهض حاملها بين ذراعيه :لازم أحطك ف عنيا، وأمنعك عن الدنيا كلها…علشان مفيش حاجة تقدر تفرقنا تاني.

ضحكت برقه ولفت ذراعيها حول عنقه ودفنت وجهها ف عنقه خرجوا من القسم، لكن قلب ونس ظل معلقا في ذراعيه…

فهو لم يأتي فقط لإنقاذها، بل أعاد إليها الأمان، وأثبت أن العشق حين يكون حقيقيا، لا تنكسر به امرأة… بل تولد من جديد.

……………………………………

في قصر الباشا…

توقفت السيارات أمام البوابة الداخلية للقصر، وفتح الخدم الأبواب بسرعة متناهية،

لكن جبران لم ينتظر أحدا. ترجل بنفسه من السيارة، دار حولها بخطوات ثابتة، وفتح الباب ، ثم مد يده برقة وعيناه تفيض حنان، وصوته الأجش يخرج هامسا بشوق:نورتي بيتك يا حبيبي.

مدت ونس يدها ببطء، وغاصت يدها الصغيره بكفه الكبير،و ترجلت من السيارة وعيناها معلقتان بعينيه، ثم همست بصوت مرتجف من فرط العشق:إنت نور حياتي يا جبري.

لف ذراعه حول خصرها، وسحبها إليه بحميمية وكأنها ملك له وحده. أغلق باب السيارة بحركة سريعة، واتجه بها نحو باب القصر، يتبعهم سليم ومي بخطوات هادئة.

ما إن لامست اقدام ونس عتبة القصر، حتى انفتحت الأبواب، واستقبالها الجميع بلهفه دمع، أميرة، نظلي، جيلان، وآدم

كانت أميرة أول من وصل إليها، ضمتها بقوة، وعيناها تغرقان بدموع لا تنتهي، وهمسة بصوت مختنق:
حمد لله على السلامة يا بنتي.

ربتت ونس على ظهرها بلطف، وردت بصوت مبحوح:
الله يسلمك يا أبلة.

مرت يد أميرة المرتجفة على جسد ونس كأنها تتأكد من سلامتها، تمتمت بقلق يقطع القلب:انتي كويسة يا ونس؟ كويسة يا ضنايا؟

هزت ونس رأسها بالإيجاب، وقالت بابتسامة شاحبة:
الحمد لله… كويسة والله.

اقتربت منها نظلي وفتحت ذراعيها، وهتفت :حمد لله على السلامة يا ونس! نورتي بيتك يا حبيبتي.

تقدمت ونس بخطوات بطيئة واحتضنتها، فبادلتها نظلي العناق وربتت على ظهرها وهمسة بكلمات أربكت الجميع:
سلمتك… وربنا يعوض عليكي يا ونس.

تجمدت الأنفاس، لكن ونس أومأت برأسها في صمت، وقالت:الحمد لله.

قبل أن تهدأ اللحظة، ألقت جيلان بنفسها في حضن ونس، تعانقها وتبكي كالأطفال:كنت هتجنن عليكي يا حبيبتي! اول مره اعرف طعم اليتم يا ونس !!

ربتت ونس على ظهرها بحنان، وقالت برقة:لا يا قلبي… بعد الشر عليكي يا چيچي. انا هفضل طول عمري جمبك!!

اقتربت دمع بخطى مترددة، ولم تجرؤ على رفع رأسها، وهمسة بكلمات تكاد لا تسمع:حقك عليا يا ونس…

تنهدت ونس، وترقرقت عيناها بالدموع، وردت بهدوء ممزوج بالحزن:خلاص يا دمع… اللي راح راح. المهم اللي جاي.

لم تتمالك دمع نفسها، وارتمت في أحضان ونس وهي تنحب بصوت مكتوم، تمسك بها كأنها تخشى فقدانها مجددا، وهمسة من بين شهقاتها:وحشتيني أوي… أوي أوي يا قلبي.

احتضنتها ونس برفق، تمسح على منكبها، وهمسة بعطف:
وإنتي كمان يا دمعي.

صوت آدم قطع تلك اللحظة، يتحدث بمرحه المعتادة:
حمد الله على السلامة، يا مدام ونس.

ابتسمت ونس وهزت رأسها بأدب:الله يسلمك يا آدم.

تنحنح جبران بصوت واضح، وهتف بنبرة حازمة:كفاية كده يا جماعة… ونس مرت بليلة صعبة ولازم ترتاح.

أومأ الجميع موافقين، لكنهم فوجئوا به يقترب من ونس، يرفعها بين ذراعيه كعروس يوم زفافها، وصعد بها نحو السلم وسط دهشة الجميع. كان وجهه مشرقا، وصوته يفيض فخرا وسعادة:على فكرة… ونس كانت حامل في توأم… وربنا أراد يسيب لنا نعمة منهم.

صاح الجميع بفرحة غامرة، وتعلقت الأنظار بها بحب ودهشة.

همس آدم لسليم وهو لا يصدق: توأم يا باشا؟! لا معاك حق… أمال لو مكانش معتزل الملاعب من خمستاشر سنة كان عمل ايه ؟!

ضحك سليم وهز رأسه بعبث : أبويا يالا! امال أنا طالع لمين !!

ثم نظر نحو جبران وضحك قائلاً:ربنا يديك الصحة يا باشا…ياه يا حبيبي .. هتجبلي إخوات ألعب معاهم.

ضحك الجميع بصخب، بينما غمزه جبران بنظرة تهديد محببة، وقال مازحا: ولد! احترم نفسك!

قهقهت دمع بسعادة، وهتفت: يبقى مينفعش تنامي كده يا ونس… أنا هقوم أحضرلك عشا عشان البيبي.

قطبت حاجبيها بدهشة وهمسة: البيبي اللي أنا خالته، مش كده؟! يعني هو ابن أختي،وابن حماي وكمان أخو جوزي… وإيه كل ده؟!

نظر الجميع إلى بعضهم بدهشة… ثم انفجروا في موجة ضحك لا تتوقف.

أما جبران، فاكتفى بهز رأسه مبتسما، بينما كانت ونس تخفي وجهها في عنقه بخجل عذب، وتشبثت به أكثر وهو يصعد بها الدرج، وهمس بصوته العميق:احسبيها براحتكم… أنا ليا ونس، دنيتي وبس…

في الجناح …

كان الليل ساكنا، يشهد على رعشة الخوف التي ما زالت تسكن أطرافها، حين حملها جبران بين ذراعيه كما لو كانت بقاياه المتبقية من الحياة،

ثم دلف بها إلى الجناح بخطوات متسارعة، كأن كل ذرة في كيانه تطلب الطمأنينة برؤيتها تحت سقفه من جديد.

وضعها فوق الفراش بحذر يشبه خوف الأم على رضيعها، ثم جلس إلى جوارها، وامتدت أصابعه نحو شعرها، تمر عليه كما يمر النسيم على حقل موجوع بالعطش

انحنى وقبلها علي راسها بقبله اختلطت فيها الوجع بالراحة، كمن عاد أخيرًا إلى صدر الحياة بعد غياب مؤلم وغمغم بصوت مبحوح :روحي ردت فيا يا ونس… أخيرًا.

لم تنطق، فقط أومأت برأسها المرتجف، ثم اندفعت إليه، احتضنته وكأنها تلوذ بقلبه من كل رعبٍ مر بها، فضمها إلى صدره بشدة، كأن بين ضلوعه ثغرا لا يغلق إلا بها، وهمسة بصوت منكسر ودموعها تدفق : كنت مرعوبة… مرعوبة أتحرم منك….

مرت أصابعه المرتجفة على ظهرها، بينما دفن وجهه في عنقها، وأنفاسه تتلاحق كأنها تحاول اللحاق بالسلام المفقود وغمغم بحده مغلفه بالألم : أنا لازم اعاقبك إنك خرجتي لوحدك… انتي كنتي هتضيعي نفسك، وتضيعيني معاكي يا ونس.

ابتعدت عنه قليلًا، نظرت إلى عينيه، فرأت فيهما شيئًا أشبه بالخذلان، بالحزن المتكدس فوق شرفات صبره. سالت دموعها ،وهمسة بخفوت يحترق:أنا آسفة… أنا كنت-

نهض كأن النار تشتعل أسفل قدميه، ودار حول نفسه، ثم ثبت عينيه عليها بنظرة كانت كفيلة بإسقاط الهواء من صدرها،

وصاح بصوت لم يكن مجرد غضب، بل انكسار رجل فقد السيطرة على الحياة للحظات:آسفة؟!
انتي متخيلة أنا حسيت بإيه؟!
صحيت مالقتكيش جنبي…
وصوتك بيصرخ في التليفون، وأنا مش قادر أوصلك!
قلبي اتحرق عليكي، وانا عاجز، وإيدي مش طايلكي!
رفع ذراعيه في الهواء، كأنه لا يزال يحملها بين يديه، وتابع بصوت مجروح:انتي عارفة كنت حاسس بايه شايلك علي ايديه بين الحياة والموت، ودمك سايح على إيديا!انتي متخيلة ده؟!

ثم انحنى نحوها، عينيه تقذفان نارا، وهمس بكلمات تقطر وجعا : آسفة دي لما تدوسي على رجلي بالغلط…
مش لما تدوسي على قلبي وكرامتي يا ونس ؟!

شهقت، وهزت رأسها بنفي ضعيف، ودموعها تنسال كالسخام المحترق، وتمتمت بانهيار:والله غصب عني… خوفت عليك منهم.

قبض على وجنتيها برفق متوتر، وقال من بين أسنانه:
عذر أقبح من ذنب، يا ونس…
لسه مش عارفة جوزك مين؟
انتي هتستني لحد ما تغلطي غلطه تضيعك مني بجد؟! بس انا مش هسمحلك ولو حكمت هحبسك ف الجناح ده ولا تشوفي حد ولا حد يشوفك غيري !!

شهقت بعنف، وصدرها يرتفع ويهبط كأنها توشك على الانهيار، وتمتمت بانكسارٍ ينهك حتى الأرض:
سامحني مكنش قصدي… والله مكنش قصدي اللي حصل ده كله…

أدار وجهه عنها،وزفر تنهيدة من عمق ضلوعه، ثم قال بجمود شاحب:قومي يا ونس… خدي شور ونامي.
الكلام خلاص… لا هيقدم ولا هياخر.

أومأت دون كلمة، ونهضت بصعوبة وكأن الألم سكن عظامها. تمايلت قليلًا من الدوار، فأمسك بها سريعا، ولف ذراعه حول خصرها كعادته وهتف بصوت أجش: خلي بالك.

رفعت عينيها إليه، ونظرت له طويلاً، ثم همسة بصوت ناعم تكسوه دموع: معرفش… اتعودت انت اللي تاخد بالك مني.

أشاح بنظره جانبا، وصوته مشحون بمرارة : ما انتي طلعتي بتعرفي تخرجي لوحدك…
أكيد تعرفي تاخدي بالك من نفسك.

عضت شفتها السفلى بقسوة، تحاول منع دموعها من الانفجار، واتجهت نحو المرحاض. وقبل أن تدلف إليه، التفتت ببطء وسألته بخفوت:طيب… ممكن تساعدني في الشور؟

رفع حاجبه بدهشة، رمقها بنظرة طويلة، ثم أجاب بسخرية مريرة:من إمتى؟روحي يا ونس… كبرتي بقى.
زي ما خرجتي لوحدك… خدي شور لوحدك.

غضبت، ودقت الأرض بقدمها، ودلفت إلى المرحاض وأغلقت الباب بعنف. ظل واقفا، يحدق إلى الباب المغلق، ثم تمتم بنبرة منهكة:طيب يا ونس… أما علمتك الأدب، مبقاش اسمي جبران الباشا.

ثم استدار إلى غرفة الملابس، التقط ملابسه،إلى المرحاض الآخر، تاركا خلفه قلبا متخبطا بين الانكسار والعتاب.

مر وقت قصير، وخرجت ونس من المرحاض بخطى بطيئة، مترددة، كأن الهواء يثقل أنفاسها. جالت بعينيها في أرجاء الجناح، لكنها لم تجده. انكمشت ملامحها بضيقة موجعة، وزفرت بحنق متعب.

وجلست على طرف السرير، وانحنت إلى الأمام، تضم نفسها وكأنها تلملم ما تبقى من كسر لم يجبر. لم تبكي بصوت، لكن كتفيها كانا يهتزان بصمت لا يحتاج إلى صوت ليفهم.

رن صوت الباب فجأة، فقطعت دموعها بأنامل مرتجفة، مسحت وجنتيها سريعًا، ونهضت بتوتر. ما إن فتحت الباب، حتى ظهرت أمامها دمع تحمل صينية تفيض أصناف من الطعام الشهي.

وكان التوتر في صوتها لا يخفى على أذنها:حبيبتي… أنا عملتلك كل الحاجات اللي بتحبيها، لازم تاكلي كويس عشان البيبي.

رفعت ونس نظرها إليها، بعينين غائمتين، وكأن الحياة فاضت منها. تمتمت بصوت باهت: دمع… أنا مليش نفس… متتعبيش نفسك.

رمشت دمع بقوة لتدفع دموعها عن عينيها، لكن انهمارها كان أصدق من محاولات الكتمان. كانت تشعر أن شقيقتها لم تصف لها بعد، وأن الجرح بينهما لا يزال مفتوحًا، عميقًا، يقطر بالألم.

دخلت دمع بخطى مترددة، وضعت الصينية على الطاولة القريبة، ثم التفتت نحوها وابتسمت ابتسامة حزينة، تخنقها الذكريات:لا يا حبيبتي… انتي لازم تاكلي، عشان حبيب قلب خالتو يجيلي بالسلامة كده… قلبوظ.

ثم اقتربت منها قليلًا وقالت بنبرة مترجفة بمرارة خفيفة:
انتي عارفة إني بحب البيبهات اللي عندهم خدود… فاكرة ولا نسيتي يا ونس؟

أغمضت ونس عينيها بقوة، وكأنها تقاوم سيلًا من الدموع المتدفقة. وهمسة بصوت مختنق:دمع… احنا…

قاطعتها دمع واقتربت وجلست إلى جوارها، وكأنها تسللت إلى حافة ألمها، ثم قالت بصوت هادئ كمن يمزق نفسه:أنا آسفة يا ونس… والنبي سامحيني.
أنا عارفة إني غلطت… بس انتي أمي، مش بس أختي.
والأم دايمًا بتسامح ولادها، مهما عملوا فيها.

أومأت ونس برأسها، وصوتها حمل وجعًا غائرًا في كل حرف:أنا عارفة… بس غصب عني… الجرح على قد الغلاوة، وانتي أغلى من نفسي.
اتصدمت فيكي…
بس بصي، إحنا نسيب الأيام تداوي اللي اتكسر… يمكن يتصلح.

قالتها بانكسار جعل دمع تنظر لها برجاء، ودمعة تغادر عينيها: بجد مش بإيدي يا دمع…

اقتربت منها ببطء، كما لو كانت تتحسس طريق العودة لقلبها، وهمسة:أنا عندي استعداد استني لحد ما تصفيلي… العمر كله، يا حبيبتي.

احتضنتها ونس فجأة، وتنهدت وكأنها تلفظ عبء عمر من فوق صدرها، وهمسة بصوت حنون، متألم:نفسي… والله يا دمعي…نفسي قلبي يرجع زي الأول معاكي… انتي بالذات.

احتضنتها دمع بقوة، بقوة من كانت تخشى أن يذوب هذا العناق في الهواء، والدموع تسيل من عينيها بهدوء، تمتمت بلهفة:هارجع قلبك أبيض… والله هرجعه، أنا متأكدة.

لكن صوت فتح الباب قاطع تلك اللحظة الحانية. دخل جبران إلى الجناح، فهتفت دمع بهمس مرتبك:أنا هنزل قبل ما عمو جبران ينفخني.

ضحكت ونس بخفة باهتة، وأومأت: ماشي.

خرجت دمع من الغرفة، بينما عادت ونس إلى الفراش بسرعة، تمددت عليه وأغلقت عينيها بتوتر. كانت أنفاسها سريعة، وجسدها متيبس.

دخل جبران ونظر إلى الطعام الذي لم يمس، ثم إلى هيئتها النائمة. عقد حاجبيه وهو يكتم ضحكة ساخرة بصعوبة، ثم هتف بصرامة:ونس… قومي اتعشي قبل ما تنامي.

لم ترد. رفع حاجبه بغضب، وصوته انخفض وتيرته لكنه ازداد حدة:أنا عارف إنك صاحيــــة… بلاش لعب عيال، قومي يا ونس!

فتحت عينيها على الفور، مفزوعة، وغمغمت بدمعة خافتة:أنا… مليش نفس آكل.

اقترب منها، وسحبها من يدها بلين مغطى ببعض الغضب، وأجلسها على ساقه، قبض على خصرها بتملك عنيد، وبدأ يطعمها بنفسه، رغم اعتراضها.

شهقت بدهشة وهي تراه يقرب اللقمة تلو الأخرى إلى فمها:براحة يا جبران… هفطس!

ردّ عليها بصوت حاسم، يتنافى مع صرامة ملامحه المشتعلة:كلي… وبطلي دلع بقا !!

أذعنت أخيرًا، وتناولت طعامها بصمت مجبر. حتى انتهت من آخر لقمة، حملها ووضعها علي الأريكة ثم نهض هو واتجه إلى المرحاض، وغسل يديه، وخرج إلى الشرفة. أغلق الباب خلفه بعنف، وأشعل سيجارة، كأنها مهربه الوحيد من احتراقه الداخلي.

نهضت ونس، واقتربت من باب الشرفة، فتحته قليلًا، لكنه التفت فجأة وأغلقه بعنف، ثم هتف:خليكي جوه يا ونس! السيجارة غلط عليكي!

أومأت برأسها وابتعدت، لكن قلبها يغلي. ظل هو بالخارج طويلًا. نهضت، تقدمت ناحية الزجاج، نظرت له بحنق متصاعد، ثم هتفت بغيظ:بقا كده يا جبران؟!

أغلقت قفل الشرفة فجأة، وصاحت بنزق:خليك نايم بقا كده لحد الصبح!

ثم عادت إلى الفراش، تمددت عليه بعصبية، تنظر له عبر الزجاج بحنق مشتعل، بينما هو يتأملها بعبث مغلف بالغضب، وسيجارته تحترق ببطء كقلبه.

جلس جبران في الشرفة، يحدق في العتمة الممتدة أمامه كأنما يبحث فيها عن شيء ضاع منه، أو عن ذاته التي ما عادت تعرف الطمأنينة.

لفحات الهواء البارد لم تروي ضجة صدره، ولم تطفئ النيران المتأججة تحت جلده.

دخان سيجارته كان يتصاعد ببطء، يلتف حوله كوشاح خانق، يزيد اختناقه بدلا من أن يسكنه. عيونه لم تكن ترى المدينة، بل كانت غارقة في وجهها، في دمعتها، في انكسار صوتها حين قالت: أنا مليش نفس!!

هو يعلم… يعلم أن ما بينهما ليس جرحا صغيرًا، بل هو نزيف مفتوح، تتنازع فيه مشاعره المتطرفة، بين حب يلتهمه، وغيرةٍ تجلده، وخوف لا يسعفه.

وفي الداخل، كانت ونس ممددة على الفراش، تدير له ظهرها، ولكن قلبها ما زال معلقا خلف الزجاج. كانت ساكنة الجسد، لكن العاصفة تسكن أعماقها.

أصابعها تقبض على الوسادة كأنها تتشبث بما تبقى لها من اتزان، وصدرها يعلو ويهبط في صراع خفي مع الألم.

كانت تعرفه… تعرف متى يغضب، ومتى يصمت، ومتى يهرب من وجعه إلى سجائر الليل الطويل.

لكنها هذه المرة لم تلحقه، ولم تجبره على الحديث، فقط جلست هناك، في ركن من السرير، تراقب ظله خلف الزجاج، وتتمنى لو كانت قادرة على عبور المسافة القريبة البعيدة التي تفصلها عنه.

لم يكن الزجاج بينهما سوى حائط شفاف من الوجع، من الخذلان، من خوف أن يفقد كل منهما الآخر دون أن يقصد…

جبران ظل هناك، في صمته الموجوع… وونس ظلت هنا، في وحدتها المرتجفة…
وكأن الحب حين اشتد، أصبح عاجزًا عن احتضانهم معًا، فافترقا… وهما لا يزالان في ذات المكان.

………..
في فيلا سليم الباشا

في أرجاء الفيلا الهادئة، كانت الجدران تصغي لأنفاس مكتومة، لا تصدر سوى عن قلبين يصرخان في صمت.

دلف سليم إلى الغرفة بخطوات واثقة، ألقى بالمفاتيح فوق الطاولة الصغيرة جوار الباب، ثم توقفت أنفاسه للحظة حين وقعت عيناه عليها…

كانت دمع تخرج من المرحاض، حول جسدها منشفة صغيرة بالكاد تخفي اجزاء من مفاتنها وكأنه تستر ما يجب ستره فقط . نظراتها تائهة، لكنها ارتبكت حين التقت بنظراته الحارقة.

صفر بإعجاب فاضح، وغمغم بنبرة لم تخلو من جرأة:
ياااه… أنا نسيت إني متجوز يا جدعان!

رفعت حاجبيها بدهشة ممزوجة بالامتعاض، وزمت شفتيها بحدة: يعني إيه نسيت إنك متجوز يا سليم؟!

كاد يفتح فمه ليرد، لكنها سبقته، ولوحت بيدها أمامه بتحذير واضح : بص على فكره، لو إنت عايز نفضها سيره، أنا ماعنديش مانع… الموضوع كله مش راكب معايا من الأساس!

انعكست نبرتها كالسوط على مسامعه، فارتفعت الحدة في ملامحه واقترب منها بخطوات بطيئة لكنها مشحونة بالغضب، وهدر بصوت أجش كمن يزأر:هو إيه اللي مش راكب يا بت؟! هو لعب عيال؟! إنتي دلوقتي ست متجوزة ومسؤولة عن بيت وجوز! كفاية دلع بقى يا دمع، واتعدلي… بدل ما أعدلك على طريقتي، وساعتها هتركب معاكي أوي!

تراجعت بتلقائية حتى ارتطمت بالجدار، وقد تسرب القلق إلى عينيها، فتمتمت بتوتر، تحاول أن تبدد الموقف:
قصدك إيه بقى؟! أنا… أنا بس كنت…

لكنه لم يمنحها فرصة لإكمال جملتها، بل اندفع نحوها كما لو كان يغرق، يبحث عن هواء، ثم انقض على شفتيها بقبلة عميقة، قاسية، لكنها محملة بكل ما لم يقال، بكل الحنين، وكل الندم.

ضمها إلى صدره بقوة، وكأن جسده وجد أخيرًا وطنه، فأغمضت عينيها بتوهان، وهي تشعر بحرارة قلبه تخترقها، وشيئًا فشيئًا تسلل الاشتياق إلى داخلها، يوقظ نبضها من سباته.

استدار بها إلى الفراش، وسقط فوق الفراش معا، بينما كانت أنفاسه تحترق على عنقها، يتلمسها كمن عاد من صحراء عطشى.

سحب المنشفه ألقى بها خلفه، وقبض على كفيها، وشبك أصابعه بأصابعها، وثبتها بجوار رأسها وهمس قرب أذنها، بصوت أجش ممزوج بالعشق والذنب:وحشتيني أوي يا دمع… سامحيني يا حبيبتي، عمري ما هغلط في حقك تاني… أنا كنت تايه، والله زي ما يكون حد ضربني علي دماغي ..ما كنت حاسس أنا بقول إيه ولا بعمل إيه!

هزت رأسها ببطء، ودموعها تتلمس وجنتيها دون إذن، كأن قلبها يفرغ ما عجز لسانها عن قوله، وهمسة بصوت مختنق:مسامحك يا حبيبي… يمكن لما أسامحك، ونس تسامحني كمان!

ابتسم بعينين دامعتين، ومرر أنفه على عنقها، كأنه يشم ذاكرة غابت عنه طويلًا، وتمتم كمن يهمس لنفسه:
هتسامحك… أنا متأكد.

ترك يدها، وبدا يمرر أصابعه في خصلاتها بلين، سحب رأسها برفق الي الخلف ، والتهم عنقها ثانية بعنف ملوث بالحب، يفتت خلاياه شوقا، ويذيب صلابته القديمة بين دفء جلدها.

اللحظات التالية ذابت فيها الحدود، اشتعلت الغرفة بحرارة أجسادهما، وعلا صوت اهنزاز الفراش بأنينه الموجوع تحت وطأة العشق المكبوت. ارتجفت دمع بين ذراعيه، وصدى اهاتها المختنقة يمزق سكون الليل من حولهما.

همسة بصوت مخنوق وهي تلهث تحت وطأة اشتياقه:
سليم… بالراحة.

غمغم وهو ينهار فوقها مرة تلو الأخرى، كمن يفرغ كل الاسابيع الماضية في لحظة:عايزين نخلف للواد أخويا … أخ يلعب معاه!

ضحكت بخفة وسط لهاثها، وهمسة: هو أخوه وابن خالته، كمان

ضحك بدوره، بصوت أجش متعب، وتمتم وسط قبلاته:
سيبك من الحسابات دي… وركزي معايا، أبوس إيدك!

ازدادت أنفاسهما عمقًا، وصوت شهقاتها المخنوقة يختلط بزفراته المتلاحقة، وهو يلتهمها بشغف لم يعرف مثله من قبل.

كل شيء فيها ناداه، فاستجاب دون مقاومة.
استمر في الدفع بداخلها وصوت زمجرته العنيف يتخلل صوت انينها الموجوع وشهقتها المنقطعه وهو يحرك جسدها المرتجف بنعومه بين أحضانه ويلتهم كل ما تطوله شفتيها وهمسة بصوت مثير: اااه يا سليم !!

غلفت الحرارة الغرفه وعالت أنفاسهم واهات دمع ملأت الإرجاء وكأنه يسحبها ف دوامه كثيفة من المشاعر لم تعد قادره علي الوقوف أمامها فاستسلمت وقبلت الهزيمه بصدر رحب وقلب نابض بالعشق

غمرها بحرارته، وغرقت فيه دون تفكير… لا صوت يعلو الآن سوى أنين قلبين التقيا بعد وجع، وصوت عشق لا يشبه أي عشق آخر.
………………

في صباح رمادي أثقلته الذكريات، وداخل جناح لا تزال جدرانه تنبض باسم جبران الباشا،

تقلبت ونس على فراش لم تعرف فيه طعم الراحة. لم تغمض جفنها إلا قليلا، وقلبها يئن بندم مسموم، يحتضر تحت وطأة ما اقترفت يداها من تجاهل لمن عشقها حتى النخاع.

دقت طرقات خفيفة على الباب، كسرت سكون الغرفة المثقلة بالألم. نهضت ونس باضطرابٍ مفاجئ، وعيناها تبحثان عن أثره في الشرفة، لكن الفراغ أجابها بصمت أقسى من العتاب.

تقدمت نحو الباب، فتحته بأنامل مرتجفة، لتجد نظلي واقفة أمامها، تنظر لها بدهشة.

رمشت ونس بعينيها المثقلتين بالنعاس ووجع القلب، ثم تمتمت:تعالي حبيبتي، اتفضلي…

دلفت نظلي بخطى مترددة، وقالت بعتاب خفيف : اتأخرتي أوي يا ونس، الضهر أذن… وجبران كلمني، وزعلان إنك مفطرتيش لحد دلوقتي.

أومأت ونس برأسها بخفوت، وعادت إلى الفراش بجسد كأنما حملت الجبال على منكبيها، وغمغمت بصوت أشبه بالأنين: تعبانه اوي … حاسة جسمي مهدود… مش عايزة آكل… عايزة أنام.

اقتربت نظلي وجلست بجوارها، وجهها مشدود بقلق، وقطبت حاجبيها :انتو متخنقين ولا ايه ؟ في حاجة؟

رفعت ونس عينيها إليها، ودموع الندم تغشى نظرتها، وهزت رأسها بالإيجاب، وهمسة بصوت منكسر:جبران زعلان مني… عشان خرجت من وراه… وأنا كمان زعلانة من نفسي… بس والله لما الموضوع بيتعلق بجبران، أنا مش بشوف قدامي… بخاف عليه اكتر من روحي والله العظيم…

ابتسمت نظلي بدافيء ، ومسحت على منكبها بلطف:
محدش حب جبران ادك يا ونس… ولا هو حب في حياته زي ما حبك. أكيد واخدة بالك من نظرة عينيه لما بيبصلك… أنا عشت معاه عمري كله، عمري ما شفته بيبص لحد كده… حتى مراته الأولى، الله يرحمها، مكانتش تاخد منه النظرة دي…

تعلقت كلماتها بروح ونس المرتجفة، فانفلتت دمعة على وجنتها وهي تهمس برجاء مذبوح: بجد؟ وانا كمان بعشقه … طيب أعمل إيه عشان أُصالحه؟

نهضت نظلي، وسحبت يدها بحنو الأم، وقالت بحزمٍ رقيق: أول حاجة… تسمعي الكلام. تهتمي بأكلك وشربك. وبلاش عند… العند بيجيب نتيجة عكسية مع أي راجل… وبالذات راجل زي جبران. يلا، دخلي غيري هدومك… ننزل تفطري، وأنا هفهمك إزاي تصالحيه.

أومأت ونس صامتة، كأنها طفلة تلتمس الخلاص من ذنب فادح، واتجهت إلى غرفة الملابس، بدلت ملابسها وعادت مسرعة:يلا، أنا جاهزة… قولي والنبي !

أشارت لها نظلي لتلحق بها، وأضافت بجدية حانية:
يلا يا حبيبتي…

وفي طريق نزولهما، شدت ونس يد نظلي، فسارعت الأخيرة بالبوح: بصي يا ستي… أنا معنديش خبرة كبيرة في الرجالة، أنا متجوزتش أصلًا… بس كنت بحب راجل، ومكنتش أقدر اتحمل زعله… وهو كمان مكنش يقدر على زعلي ولا على دلعي… عشان كده بقولك: أي راجل بيحب مراته، هييجي معاها لو ادلعت عليه.

عضت ونس شفتها بخجل ظاهر، وقالت هامسة:أنا بدلع عليه… بس هو المرادي… بيقفل في وشي أي محاولة أُصالحه بيها.

ضحكت نظلي وهزت راسها وقالت :ليه بتديله فرصة يحبط المحاولة؟! إنتي أبدي … على طول بالفعل السريع… خليه هو اللي يبقى المفعول به!

ضحكت ونس برقه ممزوجة بالخجل وهمسة: هو في حد يعرف يعمل كده مع جبران الباشا؟

هزت نظلي رأسها بيقين لا يتزعزع:إنتي يا ونس… أنا متأكدة… بس إنتي جمدي قلبك.

تنهدت ونس وأومأت بتصميم خافت: حاضر!!

………………………………..
امام منزل امل

وقف وائل عند بوابة بيتها كمن يقف على أعتاب قدر مجهول… خطواته مترددة، وأنفاسه تتقطع بين رجفة الخوف ولهيب الترقب، وصدره يضيق بيأس خانق.

كانت كل لحظة قضاها في الأيام الماضية تؤكد له أنها حبه الوحيد، إلا أن رهبة الرفض كانت تنهشه كوحش مفترس…

صعد السلم ببطء، كأن كل درجة تحمل فوقها ثقل مشاعره، حتى بلغ باب شقتها.

رفع يده، وضغط على الجرس، بينما قبض بأصابعه على باقة الزهور التي انتقاها بعناية. بدت له تشبه أمل حد الوجع.. ناعمة، رقيقة، بلون وجنتيها حين تخجل !!

وقبل أن يغوص أكثر في خياله، فتح الباب، وصوتها الخافت المنصدم صفعه بلذة وارتباك: وائل؟!

رفع عينيه إليها، ولسانه انعقد للحظة. جف حلقه، وكأن الزمن توقف على عتبة جمالها…

كانت بملابسها المنزلية البسيطة، لكنها بدت له كقنبلة أنوثة فجرت كل اتزانه…

تفرس فيها من رأسها لقدميها، وتمتم دون وعي: جامده أوي يا قنبلة السكر…

شهقت بصدمة، ثم دفعته بسرعة حتى كاد أن يتدحرج على درجات السلم،لو تمسك ف اللحظات الأخيرة ..

ثم أغلقت الباب خلفها بهدوء مصطنع وهي تهمس من بين أسنانها:انت اتجننت؟! إيه اللي جابك لحد هنا؟!

مد يده بها باقة الزهور وهتف:أنا جاي-

قاطعته بنبرة عناد مغموسة بالحزن: لأ! لو فاكر هتضحك عليا ببوكيه ورد وهنسى كلامك السخيف، تبقى غلطان يا وائل! أنا مش عايزة أعرفك تاني… يلا امشي.

استدارت لتعود إلى داخل الشقة، هاربة إلى الجدران التي اعتادت على احتواء وجعها. لكن وائل لم يسمح لها بالهرب هذه المرة.

قبض على ذراعها برفق، ثم وجذبها نحوه، وجثا على ساق ونصف، عاريا من كل كبرياء، عارضا قلبه بكفه وغمغم : أنا آسف…
همس بها بصوت متحشرج، متخم بمئة شعور لا اسم له، أنا بحبك أوي… وهموت واتجوزك!

شهقت، وجحظت عيناها برعب وذهول. لم تكن تتوقعه أمامها بهذه الهيئة، ولا كلماته التي اخترقت كل حصونها.

نطقتها كأن عقلها رفض التصديق: هااا؟!

ضحك بمرح ، وقبل يدها، وهمس بشغف:بحبك أوي يا قنبلة السكر…

فتحت فمها، وحركت شفتيها، لكن لم يخرج صوت. فقط نظرت إليه كأنها تراه للمرة الأولى.

قطب حاجبيه بدهشة وقال : مالك يا بت؟!

همست بشفاه مرتجفة: قـ… قول تاني كده… انت؟

أخذ يدها من جديد، وراح يطبع على باطنها قبلات دافئة، تنبض بكل ما عجز لسانه عن قوله:بحبك يا قلبي… وعايزك مراتي… قدام الدنيا كلها. عايزك ف حياتي من البداية للنهاية. عايز أعيش كل لحظة جوا حضنك… عايزك بجنانك وتوترك ولخبطة دماغك اللي بتبوظ كل حاجة حواليكي!

لكزته بخفة وهي تنحب في صمت، تغالب ضحكة غلبها الحنين: احترم نفسك… الله!

ضحك بمكر، وقال بعبث محبب: أنا مش هزعل لما تبوظي حاجة… أنا هصلح من وراكي… الا قلبي اللي دخلتيه وبوظتي كل حاجة فيه.

لكن تلك اللحظة الحلوة لم تدم طويلاً… إذ شق الهواء صوت جهوري، جعل الدم يتجمد في عروق أمل

  • مين ده يا بت؟! وانتي نيلتي بوظتي إيه تاني في يومك الإسود ده؟!

تجمدت مكانها، بينما وائل رفع رأسه ببطء، كمن استدعي إلى ساحة إعدام مقدسة.
ووووووو
…………………….
ساحره القلم ساره احمد

1 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments