بين احضان قسوته (الفصل السابع الثلاثون)

ما أبهى طيفكِ حين يمر بخيالي،
كأنكِ فراشةٌ وقفت أمام بائع الورد،
تأملت الزهر للحظة ثم مضيتِ،
فصاح خلفكِ البائع مذهولًا:
“سيدتي، أعيدي العطر لورودي!”
فكيف بقلبٍ كنتِ له العطر والنور والسكينة؟!
يا من سكنتِ أوردتي،
وهبطتِ على حياتي كنعمة من السماء،
إنكِ حين تبتسمين،
تتبدل فيَّ الأرض سماء،
وتنقلب العتمة نورًا،
وتغدو الحياة ممكنة!
لكن تلك اللحظة الحلوة لم تدم طويلاً… إذ شق الهواء صوت جهوري، جعل الدم يتجمد في عروق أمل
- مين ده يا بت؟! وانتي نيلتي بوظتي إيه تاني في يومك الإسود ده؟!
تجمدت مكانها، بينما وائل رفع رأسه ببطء، كمن استدعي إلى ساحة إعدام مقدسة.
ما إن دوى صوت والدها حتى انعقدت ملامح أمل برعبٍ طفولي، وتراجعت خطوتين كأنها تعود طفلة مذنبة تنتظر عقوبتها.
خرج الرجل كالإعصار، ملامحه غاضبة، وشاربه يرتجف من شدة الغليان، وراح يزمجر بعينين تقدحان شرراً:
مين ده يا بت؟! وإيه اللي جاي يعمله قدام الشقه وعلي السلم ؟! انتي نيلتي ايه ؟!
تراجعت بخوف ، ولم تقوى على الكلام، وشفتاها ترتجفان كأن البرد اخترق عظامها.
لكن وائل لم يتحرك. وقف أمامها، بجسده حاجز بشري بينها وبين أبيها، نظراته ثابتة، وصوته رغم توتره كان رجوليا وهادئا: حضرتك… أنا آسف لو ازعجتك أو جيت ف وقت مش مناسب، بس والله أنا جاي بنية طيبة… جاي أطلب إيد بنتك…
الصدمة جعلت الأب يضحك ضحكة قصيرة، مريرة، ثم صرخ فيه: جاي تطلب إيدها وأنت واقف بتبوس إيديها علي السلم ؟! دي قليلة أدب ولازم تتربى!
اندفع خطوة للأمام، رافعا يده بعصبية، لكن وائل تحرك بغريزة حامية، ومد ذراعه يحجزه، يضع نفسه بينه وبين أمل دون تفكير، وهتف برجاء حار : بلاش تمد إيدك عليها، أرجوك… هي مالهاش ذنب… أنا اللي جيت، وأنا اللي هتكلم!
نظر الأب إليه مشدوها من جرأته، لكن شيئًا في عيني وائل جعله يتريث للحظة
اوما وائل برأسه وقال: ممكن ندخل نتكلم جوه بدل الفضايح علي السلم
تراجع الأب خطوة للخلف، ناظرًا إلى وائل من رأسه حتى قدميه. ثم قال بصوت أقل حدة : يعني مش جاي تهزر؟
- ابدا عمري ، يا حج!!
أشار له الأب بالدخول، وفتح الباب وقال : تعالى… بدل ما احنا واقف عرضا للناس…
دخل وائل، وما إن عبر عتبة البيت، حتى خرجت والدتها من الداخل، وقد كانت تتابع المشهد من بعيد، وقلبها على ابنتها…
ما إن وقعت عيناها عليه حتى ابتسمت بحنان خافت وقالت :اتفضل يا ابني، البيت بيتك…
اوما برأسه وقال: يزيد فضلك يا امي !!
جلس وائل وسطهم، وما زال قلبه يطرق بعنف، لكنه ثابت، كما لو أن الحب وحده منح قدميه جذورا
وهتف : أنا اسمي وائل نجيب… عندي ٢٨ سنة، وبشتغل شيف في مصنع جبران باشا، مع أمل…
تنفس بعمق ، ثم أكمل بثقة: أنا بحبها… من كل قلبي، وشاريها بعيوبها قبل مميزاتها… ونيتي صافية، وجاي من باب البيت. عايز آخد خطوة حلال، قدام الكل….
صمت ثقيل نزل بين الثلاثة. الأب عض على شفته السفلى، ثم تنحنح وقال بنبرة حاسمة:اديني كام يوم أسأل عنك… ولو طلعت راجل زي ما بتقول، يبقى على خير….
تنفس وائل أخيرًا براحه لم يعرفها منذ أيام، وهتف بامتنان:ربنا يخليك لينا يا حج… والله مش هتندم…
وبينما كان يحدث والدها عن نفسه، وعن تفاصيل عمله في المصنع، كانت أمل خلف الستارة، تختلس النظرات كل بضع ثوان .. عيناها تلمعان، والفرحة تتوهج في وجهها كأنها فتاة تسمع اعتراف الحب للمرة الأولى.
وهمسة لنفسها: قالها… قدام بابا… قالها من قلبه… وأنا هعيش العمر كله أفتكر اللحظة دي…
في قصر الباشا ..
قطع حديث ونس ونظلي دخول جبران وسليم وآدم ودمع وأميرة، وكأنهم عائدون من أمر جلل أو واجب ثقيل.
نهضت ونس بدهشة، واقتربت من جبران المتجهم الوجه وهتفت بخفوت: كنتوا فين؟
رفع جبران عينيه إليها، وصوته خرج جامدا، مبحوح من أثر الأيام:بعد ما قبضوا على حازم وعيسوي… طلع تصريح الدفن… ودفنا صبحي النهاردة الصبح.
خرج صوتها وكأنه ميت بدون ذرة احساس :دفنتوه؟!
اقتربت دمع وضمتها بذراعيها ، وكأنها تعصرها بلهفة من أراد أن يسكت الزمان كله باحتضان واحد…
همسة دمع، والدموع تنسل على وجنتيها كأنها تغسل ذاكرة العذاب:خلاص يا ونس… الكابوس انتهى…
رفعت ونس عينيها للسقف، وكأنها تستجدي منه تفسيرًا، محاولة كتم دموعها التي استقرت كنصل في حلقها، وهمست بوجع:انتهى!! معقول إزاي اصدق؟
اقتربت منها أميرة، بعينين متورمتين من البكاء، وهتفت بنبرة لا تخلو من الرجاء: انتهى يا ونس فوقي يا بنتي … ربنا رحمنا. كنت عايزة أقولك إني خلاص… معدش ليا مكان هنا. هرجع بلدنا وأعيش مع أخويا…
تجمدت دمع في حضن ونس، ثم ابتعدت عنها بصدمة، وقبل أن تنطق، هتفت ونس بنحيب قاطع: لا يا أبلة! لما أخيرا هنعيش مرتاحين… عايزة تسبينا؟!
تمسكت بها دمع بقوة، كأنها تحاول انتزاعها من قرارها وقالت بعنفوان:وبعدين يا أبلة؟! أخوكي ده ليه سنين مش بيسأل عليكي! ومراته… دي عقربة! مش هتسيبك تعيشي ف بيتها كده والسلام!
تقدمت ونس بخطوات حارة نحو أميرة، ونظرت في عينيها المطفأتين وقالت: يعني يا قلبي… ربنا رحمك من نار صبحي، تروحي ترمي نفسك ف نار تانية؟!
هزت أميرة رأسها بالنفي، وصوتها خرج مهزوما:
طيب أروح فين؟! البيت اتقتل فيه اللي ما يتسماش… وأنا هخاف أقعد فيه، وحالة مي… مش هتسمح تقعد فيه بعد اللي شافته.
فتحت ونس فمها لترد، لكن صوت جبران قاطع الحديث، جاء حاسما، عميقا، يحمل في نبرته نهاية لكل نقاش:
البيت بيتك يا مدام أميرة… ومي دي زي بنتي، ولازم تتربى وسط إخواتها.
وإنتي… مش هتروحي حتة. ليكي جميل ف رقبتنا… ووقفتك مع ونس ودمع طول السنين دي مش هتضيع هدر…
هتف سليم بمرح، يحاول تخفيف جو التوتر:
يا ستي… لو مش عاجبك القصر ده، تعالي عندي الفيلا، اهو المكان اللي يعجبكم يا ست الكل تحت امرك !!
ضحكت أميرة بصوت خافت، كأنما الضحك بات غريبه على ملامحها، وقالت بامتنان:ربنا يخليكم لينا… ويكفيكم شر اللي ما تقدر عليه..
ثم التفتت إلى ونس وجبران، وكأن قلبها يشعر بما بينهما، نظرت إليهما بصدق خاشع، وهتفت بدعاء نابع من القلب:
وانتو… ربنا يسعدكم، ويهدي سركم، ويقومك بالسلامه يا ونس يابت قلبي لبيتك وجوزك ، قادر يا كريم.
رد الجميع بصوت واحد:آمين.
دخلت نظلي مبتسمة، وهتفت: الغدا جاهز… يلا يا جماعة.
تحرك الجميع لغرفة السفرة، كأنهم يبحثون عن دفء جماعي يغطي ما تبقى من وجع.
جلست ونس على الكرسي، ويدها تمسد حافة الطاولة بلا وعي، بينما عيناها تتجولان في وجه جبران الذي بدا بعيدا، صامتا، وكأنه هناك جسدا بلا روح… لم ينظر إليها، لم يكلمها، وكأن بينهما بحرا من المسافة لم يكن موجودًا أمس.
بلعت غصة تكورت في حلقها، كشوك مدبب يحشر في صدرها، ألم صامت لا يعرف له اسم.
وفجأة… دلفت جيلان.
كانت ترتدي فستان صيفي خفيف، قصيرا ينساب على ساقيها بنعومة قاتلة، بنصف الكم ، وضيق على الصدر، ينحدر باتساع من الخصر، وكانت تمشي بخطوة غير مبالية أنها تذبح بها آدم من الوريد للوريد.
وقفت بجوار الكرسي القريب منه، وقالت بنعومة:
ممكن أقعد جنبك… يا آدم؟
رفع آدم حاجبه، وفتح فمه ليرد، لكن صوت سليم جاء حادا كالسوط : إيه يا جيلان؟! قولي أبيه آدم… عيب كده!
نظر له آدم بامتعاض، قبض على سكين الطعام كمن يستعد لطعنه، وهمس بنبرة ساخرة:جربت تحشر دي في زورك قبل كده؟
ضحك سليم بتهكم وقال:أنا الغلطان… كنت عايزها تحترمك!
انفجر الجميع ضاحكين، بينما هتف آدم بحنق:ياخي انت مالك؟! أنا مش بحب كلمة أبيه دي!
ثم نظر إلى جيلان، وصوته خرج قاطعا :لو قلتي أبيه… مش هرد عليكي.
ضحكت جيلان برقة، لكن جبران تدخل بصوته الهادئ كصوت عاصفة تخفي سكونها خلف الهدوء:هو مش أخوها عشان تقول له أبيه… فبلاش منها.
نهض آدم فجأة، وقبل رأس جبران بصخب، وهتف:
الباشا باشا يا ناس!
دفعه جبران برفق وهتف بمرح: ارجع مكانك يالا !!
ضحك الجميع، وعاد آدم إلى كرسيه، ثم أشار إلى جيلان وهتف:تعالي يا چيچي… اقعدي جمبي !!
جلست جيلان بجانبه، وعلى وجهها ابتسامة ظافرة، وبدأ الطعام يوزع بين الأيادي، بينما بقيت عينين ونس مشغولتين… ليس بالمائدة… بل بالرجل الجالس أمامها، الذي لم يعد كما كان.
نظرت ونس إلى جبران .
تري أمامها، لكنه بعيد كالسماء. اشتاقت لكل ما فيه… ضحكته التي كانت تشعل ليلها بالفرح، جنونه، غيرته، حتى عقابه القاسي الذي كان رغم شدته يشعرها بأنها تخصه… تشتاق حتى لعنفه، كأنه كان حبا متنكرًا في قسوته …
راوغتها كلمات نظلي في أذنها… كلمات أثارت تمردا خافتًا في صدرها، فقامت بنزع حذائها ببطء، ومررت قدمها على ساقه بخبث ناعم. لم يرف له جفن. وجهه جامد، ملامحه منحوته كأنها خرجت من صخر. لا نبض… لا توتر… لا رد
رفعت حاجبها بدهشة، وكأنها تلمس تمثالا لا حبيبها. تمددت جرأتها أكثر… زحفت قدمها حتى وصلت ركبته، ثم استقرت بين ساقيه، عند رجولته.
شهقت حين شعرت بتصلبه الفاضح… وكأن الأرض انزلقت بها فجأة.
نظرت حولها في توتر، حاولت سحب قدمها، لكنه أمسك بها. رفع عينيه نحوها… نظراته كانت نارا مشتعلة، لا تطفئها دموع، ولا تروضها كلمات….
نظراته لم تكن غضبا فقط… بل كانت إعلانا: لقد نفد صبري، وستدفعين الثمن ونس
فهمت ذلك دون أن ينطق…. أحست بجسدها يتلوى من الداخل، تتنفس بصعوبة، تكاد تختنق، وقبضتها تشتد على طرف الكرسي…
ثم فجأة، ترك قدمها.
نهض كجبل غاضب، خطواته مثقلة بالقهر، وغادر الغرفة نحو مكتبه.
جلست ونس للحظة تلتقط أنفاسها التي خذلتها، حاولت ترتيب فوضى نبضها. اقتربت منها نظلي، ومالت عليها وهمسة: وراه مستنيه ايه؟!… ما تسبهوش زعلان؟!
هزت رأسها، ونهضت تسحب قدميها كأنها تسير فوق جمر.
وصلت باب المكتب، طرقته بخفة ثم دخلت وأغلقته خلفها.
كان يقف أمام الشرفة، ذراعيه مشدودتان فوق صدره، ظهره منكمش كأن الحزن طوى عظمه.
وجهه…
يا الله، كم من الغضب والخذلان يسكن وجهه!
كم قهرا في عينيه، وكم وجعا لا يحكى!
كان يبدو كرجل فقد وطنه، لا امرأة…
اقتربت منه بتردد، وهمسة بصوت يرتجف:
ـ جبران… أنا عارفة إن الكلام مش كفاية، بس… والله ندمانة، و… اتعلمت الدرس. والله ما هخبي عنك حاجة تاني.
ضحك… ضحكة كسرت قلبها.
ضحكة موجوعة، مبللة بالخذلان، تبعتها همهمة متحشرجة: انتهينا… مبقاش يفرق معايا يا ونس. وصلتيني لمرحلة بحس إنك بتوجعيني عن قصد. بتحرقي قلبي بإيدك.
تقدمت خطوتين، بعينين زائغتين وظهر منكسر:
ـ لا، بالله عليك… ما تقولش كده. أنا عقلي بيضيع لما بخاف عليك. لما بحس إنك ممكن تتأذي، بتشلني الفكرة. كل اللي بعمله، من خوفي، من حبي.
قبض على ذراعها فجأة، وصوته خرج كزئير وحش جريح: وانا؟! فكرتي فيا؟ لما خرجتي من جمبي من غير اذني ؟ لما سبتي المستشفى تاني؟ لما قررتي تشيلي التهمة عن أختك للمرة التالتة؟ أنا كنت فين؟ فين أنا من جنونك؟ من قراراتك؟! ليه أنا دايما الآخر في تفكيرك، رغم إنك الأولى في كل حاجة عندي؟
شهقت حين تركها فجأة… كأنه أسقطها من جبل شاهق في عاصفة.
وصاح… صوته ارتطم بجدران الغرفة كأنها ارتدت عليه:
ـ سيبتك ساعة أحاول أهون عليك خبر موت ابني… ابني اللي كنتي السبب في موته، وقلبي بيتاكل من الوجع… بس قلت أوقف وجعك.
وانتي؟ فوقتي وسبتي المستشفى ورايحـة تنتقمي من غير حتى ما تفتكريني!
كنتي فين وأنا بموت كل لحظة؟!
اقتربت منه كأنها تزحف على أشواك.
انحنت عند قدميه… وضمت ساقه بكل خضوع، بصوت منخور بالدموع: أنا بموت فيك، والله بموت.
لما أميرة قالتلي إنهم بيخططوا يقتلوك، الدنيا سودت قدامي…محستش بنفسي.
ولما فوقت وعرفت إنه قتل ابننا… حسيت بخنجر مسموم مغروس في قلبي.
كنت فاكرة إنك مستحيل تسامحني… خفت تبعد عني
رفعت رأسها نحوه، ملامحها مشوهة من البكاء، من الرعب، من الذنب : محدش قالي إني لسه حامل…
مكنتش أعرف، والله…ولما شفت الدم والجثة في البيت، اتشليت.المنظر كان… مرعب…كل حاجة طارت من دماغي.
رفع جبران رأسه، عينيه مبللتين رغما عنه.
انحنى، رفعها من الأرض كأنها صارت حطام بين يديه.
نظراته كانت نداء استغاثة من قلب يحتضر.
قال بصوت هامس لكنه صارم: لازم تتعلمي… مفيش قرار ييجي في دماغك من غير إذني، من دلوقتي…فاهمة؟
وتركها…
وخرج من الغرفة، كأن قلبه نزف دمائه وذهب
شهقت ونس… كأنها تغرق، كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة في غيابه. .. كأنها بدأت تموت فعلا.
سقط الصمت الثقيل فوق الغرفة كأنما هبط من السماء لعنة، لا يكسره سوى رجفة أنفاسها المبعثرة، وأنين خافت يخرج من صدرها المحطم…..
جلست أرضا، ضامة ذراعيها إلى صدرها كمن يحتضن شتاته، ودموعها تتساقط في صمت مذبوح لا يجد طريقًا للنجاة. لم تكن تبكي فقط على جنين رحل قبل أن يولد، بل كانت تبكي على قلبٍ يتشقق، على حبيبٍ يتصدى أمامها ولا تملك له شفاء، على خيبة زرعتها بيديها في أرض عشق عاش يتوسل النجاة.
أما هو، فخرج من الغرفة كما يخرج من نفسه، مثقل الخطى كأن الأرض تقسو عليه في كل خطوة، يجر قلبه وراءه كجثة لا روح فيها…
لم يكن غاضبًا فحسب، بل كان منكسرًا حتى نخاعه، يتخبط ما بين نار الحب وركام الخذلان. في عينيه سكن وجع لا يقال، وفي صدره اختنق نداء لم يسمع، رجل أفنى ذاته لامرأة، ثم وجدها تشعل النيران في ما تبقى منه دون وعي.
ولأول مرة، وقف كل منهما في الضفة المقابلة للآخر… متقابلين في المسافة، متنافرين في الوجع. بينهما عشق يحتضر، ونبض ينادي، لكن الجراح أعمق من أن تخيطها الكلمات، والخذلان أقسى من أن تداويه الدموع.
هكذا تركها… وترك نفسه… وكل منهما ينزف بصمت لا يسمعه سواهما.
في أروقة النادي،
وقفت جيلان بجوار إحدى صديقاتها، والقلق يتسلل إلى نبرتها، فقالت بصوت مرتبك:الامتحانات بعد أسبوع، وأنا حاسة إني تايهة… ولو مجبتش مجموع كويس، بابي هيزعل مني… وآدم كمان!
قهقهت رغد بخفة وقالت ممازحة:وكله الا زعل آدم طبعًا، مش كده؟
لكزتها جيلان بضيق وهمسة: لا والله… هو ده وقته هزار يا رغد؟!
رفعت رغد رأسها كأن خاطر خطيرا باغتها، ثم قالت بابتسامة ماكرة : بصي… عندي فكرة خطيرة!
نظرت إليها جيلان بعينين لامعتين وقالت في لهفة: قولي بسرعة!
ضحكت رغد برقة وقالت: انتي تتجوزي آدم، وأنا أدور على عريس… بلا تعليم بلا وجع دماغ!
أغمضت جيلان عينيها بيأس وغمغمت : اختفي يا رغد… انصرفي كده، وانتي عاملة زي شيطاني في ودني!
ضحكت رغد بصوت مرتفع وقالت بمشاكسة:طب خلاص نذاكر… وأمرنا لله!
ضحكت جيلان بضعف، لكن شهقة مباغتة أفلتت من بين شفتيها حين حجبت كف كبيرة دافئه عينيها وصوت خافت رجولي يهمس خلف أذنها بنبرة عبثية يعرف كيف تخترقها:أفشتك… يا بت الباشا!
استدارت بسرعة وصرخت بفرحة وهي تتشبث بقميصه:
آدم! وحشتني أوي!
أبعد يده عن عينيها ونظر إليها نظرة مشتاقة وهمس: وانتي وحشتيني… موت، يا قلب آدم!
أشارت إلى صديقتها وقالت: دي رغد… صاحبتي.
أومأ آدم برأسه باقتضاب وقال بنبرة جافة:أهلا… يا آنسة…
تجمدت ملامح رغد بدهشة من بروده، واكتفت بقول:
اهلا… عن إذنكم.
ثم انصرفت، تاركة جيلان تغرق في حرجها.
نظرت إليه باستياء وقالت:إيه اللي عملته ده؟! مش تسلم عليها بذوق شوية؟!
مط شفتيه بلا مبالاة وقال:أنا معرفش أتعامل غير كده… اتعودي.
زفرت بضيق، وقبل أن ترد، اختطف نظره ملابسها، لتتغير ملامحه على الفور، وحدق فيها بنظرة مشتعلة وهتف:
وإيه اللي انتي لابساه ده؟! مش قولتلك ميت مرة بلاش اللبس المقطعة دي؟! ده اسمه هبل… وقلة قيمة… وقلة ذوق!
رفعت حاجبها بدهشة وقالت:إيه كل ده؟! دي موضة يا آدم!
اقترب منها، وحدق في عينيها وهو يهدر بغضب مكبوت:
مش كل موضة تطلع تبقي مناسبة لكل الناس… مش لازم أكون تابع للقطيع عشان أعجب…. المفروض كل واحد له دماغ… يعقل بيها الأمور…
نظرت إليه بحيرة وردت بهدوء: أنا مكنتش فاهمة كده…هو بس كان لبس عجبني !!
أومأ برأسه وقال بنبرة دافئة رغم حزمها : انتي لسه صغيرة يا حبيبي… وأنا مش عايزك تبقي تابع لأي حد… لا موضة، ولا حتى أنا. أنا عايزك تعرفي الصح من الغلط… بقلبك… وبعقلك…
ابتسمت برقة، لكن ابتسامتها ذابت في ملامحها حين انفجرت كلماته فجأة بصوت غاضب:بس لو شفتك لابسة حاجة تبين جسمك تاني… هشوقك يا جيلان، انتي فاهمة؟!
رمشت بعينيها في ذهول وغمغمت بصدمة:آدم… انت مجنون!
أمسك بيدها وقال بجدية قاطعة:مجنون بيكي، آه… يلا، أروحك، عندك امتحانات، ولازم تذاكري… فاضل أسبوع.
توقفت فجأة، وتمسكت بذراعه، ثم قالت برجاء طفولي:
استنى… عايزاك توعدني إنك بعد الامتحانات توديني الملاهي… بيت الرعب وحشني أوي، يا آدم!
توقف، يحاول تمالك أعصابه التي أوشكت على الانفجار من عفويتها، تلك العفوية التي تخفي خلفها اشتياق مرعب.
نظر لها، ثم رفع حاجبه بمكر وقال بصوت خفيض:
وحشك بيت الرعب… يا بت؟!
عضت شفتها بخجل، ونكست رأسها وهمسة بخفوت:آه…
اقترب منها وهمس قرب أذنها بصوته الرجولي العميق، نبرته تحمل كل معاني الإغواء:بس نتجوز… وهنعيش ليل ونهار في بيت الرعب. هخليكي تعشقيه… واللي هيحصللك فيه هيبقى إدمان… هتعشقي كل همسة ولمسه هدوبي بين أيديه يا قلبي
أغمضت عينيها، وصدرها يرتفع ويهبط بجنون، ثم همسة بصوت مرتعش:قليل الأدب اوي…
هرولت أمامه وهي تتجنب النظر إليه، وجهها يكاد يشتعل من شدة الخجل، بينما هو، عيونه تلتهم تفاصيلها، وعض على شفته بحدة، يتمتم: يا رب… قرب البعيد! أنا جبت آخري!
واندفع خلفها، يركض بخطى سريعة ليلحق بها…كأنه يلحق بروحه قبل أن تنفلت من بين يديه…
ف المساء ف قصر الباشا
غمر الليل أرجاء القصر بسكون مهيب، كأن الجدران قد عقدت هدنة مع الألم، وقررت أن تنصت لصوت الصمت العالق بين القلبين المتباعدين….
كانت ونس تنام علي أرضية الغرفه في ذات الركن الذي تركها فيه، نفس الأرضية، نفس العتمة، ونفس الرجفة التي لم تهدأ منذ رحيله ، ظلت تنتظره كأنها تنتظر أن ينقشع ما بينهما من وجع بمجرد أن يفتح الباب…
وفجأة، انفرج الباب في هدوءٍ ثقيل… انساب بهدوءٍ أشبه بنبض يتسلل إلى صدر مريض.
دلف جبران، خطواته بطيئة لكنها واثقة، ملامحه ما تزال تئن من أثر الجراح،حتي وقعت عينيه عليها تتكور علي الارضيه غافيه والدموع تركت ندبات علي وجنتيها
نظر لها بعينين ظهر فيهما خيطا خافت… لا يشبه الغفران، لكنه يشبه الحنين…
توقف أمامها، ولم يتكلم…انحني وحملها بين ذراعيه وخرج بها الي جناحهم …
رفعت نظرها إليه، كأن كل أحزان الأرض قد تجمعت تحت جفنيها، لكنها لم تنطق أيضا…. كان الصمت بينهما أبلغ من كل اللغات….
دلف الجناح ووضعها علي الفراش برفق وهم بالنهوض تمسكت به ونظرت له ودموعها تنهمر وكأنها تذبح بدم بارد …
أخفض عينيه، وقال بصوت خفيض، أجش، يشبه جرحا لم يلتئم:كنتي كل حاجة ليا، ولسه انتي دنيتي .. بس الجرح في قلبي مش بسيط يا ونس…
ارتجفت شفتاها، وكأن كلماته صفعتها برفق: أنا لسه ليا حاجه في قلبك ؟
لم يرد. فقط زفرا بحنق ، وأراح كفيه على ركبتيه، كمن يحمل فوق كتفيه عمرا بأكمله….
ألقى نظرة لها، طويلة، متعبة، لكنها خالية من القسوة التي عرفتها آخر مرة وغمغم : أنا مكسور… مش من اللي حصل، لا ..منك إنتي… من خوفك اللي كان المفروض يكون لينا سوا، مش لوحدك…
مسحت دموعها وتمتمت بحزن عميق: مكنتش عايزه أتقل عليك، ولا أوجعك، كنت فاكرة إني لو شلت عنك… هحميك…
هز رأسه بشيء أشبه بالجنون وغمغم : طب وأنا؟… مين هيحميني من وجعك؟ من غيابك؟
اسندت ظهره علي ظهر الفراش ، وابتسمت بخفوت يشبه الانهيار:أنا فاشلة في كل حاجة حتى في حبك… بس والله بحاول.
اقترب منها قليلًا، لم يلمسها، فقط قرب وجهه أمامها، قرب ركبته من قدميها كما لو أنه يحاول أن يسمع نبض خوفها عن قرب وهمس بحيره : ما بحبش أكون بعيد عنك… بس البعد أوقات بيكون أرحم من إن الواحد يحس إنه وحيد وهو جنب اللي بيحبها…
مدت يدها بتردد، ووضعتها فوق كفه. كانت يدها باردة، مترددة، خائفة، لكنه لم يبعدها. تركها تستقر، كما لو أن اللمسة اعتراف خافت برغبة العودة : مش عايزك تبقى لوحدك… حتى لو أنا اللي وجعتك، هافضل جنبك لحد ما أوصل لقلبك تاني، لو لسه فيه مكان ليا.
أغمض عينيه للحظة طويلة، ثم همس بنبرةٍ رخيمة:القلب اللي اتكسر منك، برضو بيحن ليكي… بس خليه يتعلم يا ونس… يتعلم يحس بيا، مش بس يخاف عليا.
نظرت إليه، وكأن شيئًا ما عاد إلى الحياة بينهما. لم يكن صلحا كاملاً، لكنه كان الباب الأول المؤدي إليه.
وفي تلك الليلة… نام كل منهما في نفس الغرفه ، لكن كل على حدة. غير أن الحائط بينهما لم يكن من حجر، بل من وجع بدأ يتآكل رويدا… رويدا.
في فيلا سليم الباشا
عم الصمت لحظة قبل أن يخترقه صوته المرتبك وهو يصيح مذهولًا :يا بنت ركزي، أبوس ايدك! الامتحانات فاضل عليها أسبوع، وونس هتنفخنا لو مجبتيش مجموع!
رفعت دمع رأسها ببطء، والنحيب يختلط بضحكة ساخرة متألمة، ومسحت دموعها بظهر يدها وهتفت : يا لهوي يا ماااااا! أدي آخره اللي يتجوز وهو في ثانوية عامة! يا ترى يا سليم… ونس هتقتلني ازاي؟
أطرق سليم برأسه، وضيق عينيه بحدة، وتمتم بأسى مكتوم:أفتكر… إنها هتعذبنا الأول…
نهضت دمع في حركة حاسمة، وجثت وسط طاولة السفرة، محاطة بأكوام من الكتب والمراجع، ثم صاحت بعناد ممزوج بيأس: لا! أنا أموت نفسي من سكات… أحسن! أموت بكرامتي.
قهقه سليم بمرح، وقال بسخرية محببة: طيب… ما تذاكري؟ أسهل!
أطبقت على مجموعة من الكتب ورفعتها فوق رأسها، والدموع تتأرجح في مقلتيها، ثم صرخت باختناق:
ألم إيه ولا إيه يا سليم؟! أنا محتاجة معجزة!
اقترب منها، وأمسك يدها برفق، وطبع قبلة هادئة على أطراف أصابعها، ثم همس بصوت حنون:أنا هساعدك… تعالي كده، بصيلي. هاتي أكتر مادة بتحبيها، أو أسهل واحدة بالنسبة لك… نفتح نفسك على المذاكرة.
أومأت برأسها بتردد، ثم سحبت كتاب اللغة العربية، وابتسمت بخفوت:تعالى نبدأ بالعربي… أنا بحبها.
أخذ سليم الكتاب منها، فتحه على أولى صفحاته، وراح يشرح لها بصوته الهادئ، ونظراته الممتلئة تشجيعا. أما هي، فكانت تنصت له بكل كيانها، وعقلها لا يشغل بشيء سوى حلم صغير: أن تتفوق، أن تنجح، أن تسعد ونس .. وتثبت لنفسها أولا أنها قادرة.وتستحق غفران ونس ….
ف اليوم التالي مساء ..
ف جناح جبران الباشا ..
جالس جبران في زاوية الغرفة، ذراعه الأيسر مستند ع مسند الكنبة، وساقيه ممدودتان بتكاسل مزيف، لكن عينيه… عينيه كانتا يقظتين، تترصدان كل صوت خلف باب المرحاض
لم يكن يدري ما الذي دفعه للجلوس هنا، رغم أن جسده كله كان يرفضها… أو هكذا أقنع نفسه.
هدوء ثقيل خيم على الأجواء، حتى انفتح الباب على مهل، صوت خطوات خفيفه فوق الأرض الصامتة. رفع رأسه لا إراديا، ثم قطب حاجبه فجأة… كان ما يراه لا يمت للعادة بصله
خرجت ونس من المرحاض بشعر مبتل يقطر على منكبيها ولتف حول جسدها منشفة صغيرة بالكاد تغطي فخذيها. تمشي ببطء مدروس، كأنها تراقص الهواء، وكل حركة منها تحمل عن عمد نغمة أنثوية قاتله
رآها، وبلع لعابه بصعوبه وعينها احترقت بها وهو يشعر بالغرفه تتوهج بحراره غير طبيعيه ..
ارتبك للحظة، ثم تظاهر بالعودة للهاتف، لكن أصابعه كانت مشدودة كوتر مكسور.
اقتربت حتي وقفت أمامه وغمغمت بصوت رخيم ناعم، يتسلل إلى أعمق ما فيه:معلش… نسيت هدومي على السرير.
رفع حاجبه بدهشه وبلل شفتيه وقال: مفيش مشكله!!
اومات برأسها وأعطته ظهرها ثم انحنت… ببطء… تمد يدها لالتقاط قميصه من على الفراش ، فظهر ظهرها العاري ومنحنى جسدها وفخديها بتحد أنثوي لا يغفر.
ابتلع لعابه بصعوبه ،وهو يلوح بيده لجلب شيء من الهواء وقال وبصوت غليظ حاد :البسي جوا… يا ونس ف اوضه كامله للبس ..بطلي لعب !
ضحكت بخفة، ونظرت له وهمسة بصوت مثير :
أنا بلعب؟ ده أنا عايزه ألبس… وانت اللي قاعد هنا.
نظرت إليه نظرة طويلة بمكر أنثوي جديد عليها ، ثم رفعت ساقها علي طرف الفراش وبدأت بدهان المرطب لبشرتها ، كأنها تستعرضها… لا تسرع، ولا تخجل.
انزلت ساقها وقامت برفع الاخري وفعلت مثلما فعلت ف الاولى
ثم اقتربت منه وهمسة بإغراء متقن : حبيبي ممكن تحطي كريم ف ضهري؟! اصلي مش بطوله!!
رفع حاجبه وتنفس بعمق وتمتم بغضب :لا يا ونس !!
اقتربت منه وجلست على ساقه ولفت ذراعيها حول عنقه وهمسه بأنفاس ساخنه تلامس وجنته : ليه بس؟! بجد مش عارفه اطول ضهري!!
قبض على خصرها بقوه ومرر عينيه علي جسدها الذي ارتجف بين يديه باستجابه واشتياق مهلك …
نظرت له وبدون اي انذار ..أو تردد.. التهمت شفتيه بقبله عميقه.. رفع حاجبه بدهشه ..وراقت له تلك اللعبه كثيرا وابتسم بجانب فمه وفصل شفتيه وقال: قليلة الادب يا ونس !!
عضت شفتها وهمسة: لا لسه ؛
نهضت وابتعدت عنه وهي تسير بغنج أفقده صوابه
نظر لها وهز رأسه بيأس والتقط فنجان القهوه لكن توقفت يده ف نصف المسافه
عندما سحبت المنشفة عن جسدها، بجرأة أنثى قررت أن تخضع قسوة قلبه، حتى لو تعثر الزمن نفسه في عينيه
كانت واقفة أمامه عارية، بكل ما تحمله الكلمة من فتنة، وكل ما تحمله هي من جسد يعرف تمامًا كيف يكسره.
كان … ممسك بفنجان قهوته، يحاول جاهدًا أن يتظاهر بعدم التأثر، لكن عينيه فضحتا لهفته، ويده خانته.
ارتبك بعنف، وارتعشت أصابعه، فاهتز الفنجان بين يديه وانسكبت منه قطرات قهوة داكنة على صدره، على تيشيرته الأبيض، كأن جسده خجل من نفسه قبله.
بالكاد كان يتنفس… كل ما فيها ينادي غرائزه، يعذب صموده، يقلب كيانه رأسا على عقب.
شهقت ونس بخفة، وضغطت شفتيها لكتم ضحكة مغرية:
يا نهاري… حرقت نفسك؟
رد بعصبية وهو ينظر بعيدًا:حرقتني من ساعه ما فتحت باب الحمام يا ونس… مش من القهوة.
اقتربت بخطوات بطيئة، وهي ترتدي قميصه ببطء جنوني، لا تزال عارية تحته، كل زر تقفله كأنها تطفئ نارًا… وتشعل أخرى.
وقفت أمامه ، بقميصه الفضفاض على جسدها العاري، شعرها المبلل ينسدل كالسحر على كتفيها، عينيها تمطران رجاء ناعم، وكأنها تقول بلا صوت: إرجعلي… إرجع لقلبك اللي معرفش يعيش من غيرك….
مدت يدها تمسح بقعة القهوة عن صدره، وهمسة: مش قولتلك تلبس حاجة غامقة؟ الأبيض مش لايق على العند…
أفلت يدها فجأة وكأنها تحرقه،ونهض ودار ظهره لها، يحاول احتواء الانفجار في صدره، لكنه فشل.
قال بصوت متحشرج، نبرته مكسورة فيها رجولة ذبيحة:
ليه يا ونس؟… ليه بتلعبي على الوجع ده؟ ليه بترجعيلي كل لحظة بحاول أنساها؟
اقتربت منه، كأنها لا تسمع… فقط تشعر.
وضعت كفيها على ظهره، لمسته كأنها تلمس جرحا، أو وطنا وضمته إليها وهمسة: مش بلعب… أنا برجعلك… برجع لجبران اللي عايش جوا روحي… حتى وهو زعلان مني
التفت إليها فجأة، وعينها تموج بغضب حارق …
ونظر لها كمن يتأمل حلما، كمن يجلد بجمالها، ثم أمسك وجهها بين كفيه بقوة، وكأنه يخشى أن تهرب منه مجددا وهتف بحرقه : أنا مش قادر أبعد … مش قادر أكرهك، حتى وإنتي بتدوسيني برجلك.
اغرقت عيناها بالدموع، لكنها ابتسمت، برقة مكسورة: طب سامحني… أنا اتكسرت من غيرك… مش عايزة أعيش تاني يوم واحد وإنت مش جنبي.
ضمها فجأة إلى صدره، بقوة من افتقد، من احترق، من بكى على وسادة خالية…حاصرها بذراعيه كما لو كان سيخسرها في اللحظة التالية، همس في أذنها بصوت مجروح: حرمتي تزعلي قلبي تاني… وحرمت أبعد عنك مهما حصل.
انفجرت بالبكاء بين أحضانه، وهو يقبل رأسها، وجبينها، وكأنها شيء مقدس عاد إليه بعد تيه طويل.
نظر لها بدهشة وقال بعبث :احنا اتغيرنا خالص!! امال فين ونس؟! مش خايفه وانتي بتلعبي كده بالنار تحرقك ؟؟
رفعت رأسها نحوه،ونظرت له ودموعها تلمع بعينيها ووقفت على أطراف أصابعها وهمسة في أذنه: أنا نارك يا جبران… مش بس انت ما تنساش.
تنهد بعنف، كأن روحه ضجت به، ثم أمسك وجهها بين يديه بقوة، وقال:هتدفعي تمن اللعب ده… أنا ما بسامحش بسهولة.
ردت، وهي تمرر أصابعها على عنقه: وانا بدفعه… من غير ما تلمسني حتى. بدفعه كل يوم وانت بعيد.
كلمتها كسرت فيه شيء ما، جذبها إليه كمن انهار أمام ضعفه، ثم قال بخشونة عاشق:إنتي عارفة إنك دائي… ودواء ف نفس الوقت؟
ضحكت، ومرت يدها على صدره برقة:طيب انا كنت دائك ووجعتك اديني فرصه اكون الدواء وعمري ما هوجعك تاني يا جبران… بلاش تعاند روحك.
أسند جبهته إلى جبينها، وهمس: أنا اتعذبت من غيرك… متغيبش تاني… بلاش تعملي فيا كده أنا مش هقدر اتحمل تاني !!
لفت ذراعيها حول عنقه وهمسه امام شفتيه ومع كل كلمه تطبع قبله ناعمه علي شفتيه : أنا جيتلك… ولبستلك قميصك… وهخطفك في حضني من غير ما تمد إيدك… ولسه بتقول لي بلاش ألعب؟
رفعها بين ذراعيه، وضمها إليه بعنف، كأن كل الأيام التي فرقت بينهما اختصرت في لحظة واحدة من التنهيدة، من الانهيار، من الحب المجنون.
قال بصوت متقطع: والله لأخلي الليلة دي كفارة عن كل ثانية بعدتك فيها عني…
همسة، وهي تغوص في صدره: أنا كمان عايزه أكفر عن كل مره زعلتك فيه يا روحي
تحرك بها ووضعها ف وسط الفراش ثم مال على أذنها وقال ضاحكا بنبرة خافتة : بس على فكرة… انتي قتلتيني بالحركه بتاعة القميص ده كانت حركة قليلة الأدب.. عجبتني !
ضحكت وسط دموعها وقالت: عارفه…انت بتحب قلة الأدب وهي بتحبك بجنون.
شدها إليه أكثر وقال بخبث وهو يزيح القميص عن منكبيها :خلاص… إبقي اتحملي قلة الأدب اللي هتحصل !!
مرر يده علي ظهرها واحتضنها بقوة من يظن أن لحظة كهذه لن تتكرر، ومن ذاق مرارة الفقد، ثم وهب الحياة من جديد.
يداه تاهتا فوق ظهرها، تتحسسها وكأنها نسج من أمنية قديمة…
هبط على شفتيها بقبله أشبه بطوفان اجتاح شفتيها بعنف داخل فمه قبله ناريه دبت حريق في أجسادهم واستمر في تقبيلها وعيناه… لا تزال معلقة بكل تفصيلة فيها، تتنقل على وجهها، تتأمل عينيها المتوردتين بالشوق،
فصل شفتيه ونظر الي شفتيها المرتجفتين، ذلك الضعف الطاغي في أنوثتها، والذي لطالما أغواه، أغرقه، وكسر جبروته.
همس وشفتيه تلامس شفتيها :عارفة إنك نار؟ نار بتولعلي قلبي كله… حتى لما تكوني باردة في كلامك، عينيكي بتناديني بالعكس.
ابتسمت بخجل ممزوج بتحد أنثوي، وهمسة: كنت عايزاك تتلسع… عشان تفتكر إني لسه عايشة جواك.
ضحك بصوت منخفض، ثم طبع قبلة طويلة على جبهتها، انتقل منها إلى وجنتها ، ثم أذنها، وكان كل موضع يلمسه يولد فيه رعشة قديمة، وارتباك أنثوي لذيذ.
دفن وجهه في عنقها وامتصه بعنف وهمس: انتي اتخلقتي عشان تعذبيني… بس العذاب ده أنا بحبه، بعيش عليه.
أغمضت عينيها وتنفست بعمق، وكأن روحه تسكن أنفاسها، ارتجفت أناملها على صدره، ثم ارتفعت لتلامس عنقه، وغمغمت:أنا مش بلبس قميصك بس… أنا بلبس جرحك، وجعك، حنينك… عشان أفكرك إنك ليا، وإننا اتخلقنا لبعض.
رفع وجهها إليه بيده، عينيه تتوهج باشتعال داخلي، تمعن فيها للحظة، وكأنها لوحة من لهفة وندم واشتياق، ثم قبلها…
قبلة لم تكن فقط بين شفاه… بل بين قلوب احترقت، بين أرواح اشتاقت، بين جسدين يعرفان بعضهما كأنهما خلقا ليكملا بعضهما.
كان يهمس بين القبلة والأخرى: كل يوم بعيد عنك… كان موت….كل لحظة وانتي قدامي ومش في حضني… كانت خيانة لقلبي….
يداه انزلقتا إلى خصرها، وحملها إليه، ورفعها من على الفراش ، ثبتها على صدره كمن يحضن عمرا ضاع منه، وحنت عليه السماء أخيرًا.
همسة بصوت باكي :متسبنيش تاني… أنا بنهار وانت مش جمبي.
رد بنبرة مكسورة، صارخة بالعشق:حرام عليا أبعد… انتي أماني اللي بعد خراب سنين.
ثم جلس وأسندها بلطف على خصره ، وهو يقترب منها بنظرات مشتعلة، مملوءة بعشق ونهم…
جسداهما يتحاوران بصمت، بلمسات أكثر صدقًا من أي حديث.
صوت أنفاسهما يعلو، يختلط، يصبح لغة لا يفهمها سواهما…
وكل قبلة، كل لمسة، كانت اعترافا، وغفرانا، ووعد بالبقاء.
كان جبران يقبلها كمن يكتب تعاويذ العشق على جلد قلبها، وكانت ونس تستسلم له كمن يذوب في موطنه، وكأنها لم تخلق إلا لتهدأ بين ذراعيه.
اختراقها بهدوء حذر وهو يجاهد نفسه ويحاول التحكم قد المستطاع عضت شفتها وتنفست بصعوبه وهمسة بضعف وشجن : اااه اوي اوي يا جبري
هز رأسه بالنفي وهو يلهث من فرط النشوه والشبق وغمغم بصوت أجش مشتعل: يا مجنونه انتي حامل !!
قبض على خصرها بحميميه وحركها بهدوء مميت جعلها تأن وتتاوه بصوت مسموع وغمغمت : بحبك اوي..
التهم عنقها بنهب ثم انحدر الي نهديها ولعق بينهم وهو يضغط عليها برفق ويضاجعها براحه لم يعلم أنه يملكها
انتهت المسافات.وسقطت كل الحواجز…
وعاد العشق لعرشه، ملكا لا يهزم بينهما…
حتي انتهت ليله عاصفه بنار بارده مشبعه بالجنون ..
كان الصباح يتسلل من بين الستائر برفق، كأن الشمس خجلى من أن تزعج ذلك السلام المقدس الذي سكن الغرفة….
هدوء ناعم يلف المكان، لا يسمع فيه سوى صوت أنفاس متقاطعة… مطمئنة.
كان جبران ما زال مستيقظا، يتأمل ملامحها وهي نائمة فوق صدره، يمرر أنامله في خصلات شعرها المتناثرة كالفوضى على عنقه…
كانت تنام كطفلة… مستكينة، مستسلمة، كأن كل مخاوفها أُلقيت من على حافة الليل حين ضمها…
همس بهدوء وكأنه يخشى أن يوقظ الحلم:
“أنا خلاص بطلت أخاف… طول ما إنتي في حضني.
تحركت ونس بخفة، رفعت وجهها بنعاس، غمزت بعين واحدة، ثم همسة بنبرة ناعسة:أنا لسه مش مصدقة إنك هنا… وإني صحيت ما لقيتكش بعيد.
ضحك جبران بهدوء، طبع قبلة صغيرة على جبينها، وقال وهو يشد الغطاء حولها:ومين قالك إني هبعد تاني؟! ده أنا حتى نايم وقلبي صاحي بيحضنك.
مدت يدها وتسللت بأطراف أصابعها على ملامحه، كأنها تحفظه من جديد، همسة بخجل:كنت قربت انسي طعم حضنك… انسي ريحتك، صوتك، كل حاجة فيك.
شدها إليه أكثر، صوته كان دافئ وهو يقول: يبقى لازم أفكرك… كل يوم، كل ثانية، لحد ما تزهقي مني.
ابتسمت ونس، ودفنت وجهها في عنقه، وهمسة وهي تغمض عينيها من جديد:مش هزهق… ده أنا بقيت بتنفسك.
قطع تلك اللحظه الناعمه صوت الهاتف ..سحبه جبران ونظر به لحظات ..ونظر الي ونس وغمغم وهو ينهض : معلش يا بابا هرد علي المكالمه دي بره !!
أصلها مكالمه شغل …
قطبت حاجبيها بدهشة ..ولكنه لم يمنحها فرصه.. وتحرك من الفراش الي الشرفه… وغاب يتحدث الي الهاتف
تململت ونس بغيظ وهمسة : كل ده كلام أنا هوريك يا جبران ؟!
اخيرا انهاء المكالمه ..ودلف ووضع الهاتف علي الطاوله.. وتحرك الي المرحاض وغمغم: حبيبي جهزيلي هدوم عشان نازل الاوتيل !!
اومات برأسها وقالت: حاضر !
نهض براحه ودلفت غرفه الملابس ..لحظات وخرجت علي صوت الهاتف برساله …
خرجت من الغرفه والتقت الهاتف بأنامل مرتجفه ونظرت الي الشاشه.. ورفعت حاجبها بدهشة وهي تقراء اسم المراسل واول كلمتين من الرساله : هيام!! مستنياك متتاخرش عليا !!
ارتجفت شفتيها وقبضت علي الهاتف بغيره مخلوطه بالغضب ووووووو
………………….
ساحرة القلم ساره احمد