بين احضان قسوته ( الفصل الثامن والثلاثون)

هل شـــــــعرت يومًا ..
أن هناك جزءًا ناقصًا منك ، يسير في هذا العالم باحثًا عنك ؟
كأن روحك ليست سوى نصف ، نصف تائه فى إنتظار إكتماله .
ليس الأمر مُتعلقًا بزمان أو مكان .
و لا يخضع لمنطق الجمال أو الثقافة .
بل هو نداء خفى ، شعور يسرى فيك دون تفسير .
كأنك لحن غير مكتمل .
يبحث عن نغمته الأخيرة ليبعث الحياة فى أنغامه .
كأنك كتاب بلا خاتمة ، ينتظر الصفحة الأخيرة ليُروى كاملًا .
اللقاء ليس مُجرد مصادفة … بل وعد قديم .
موعد مؤجل بين روحين كتبهما القدر فى سطور الأبدية !!
نهضت ببطء، وتوجهت إلى غرفة الملابس بخطوات هادئة… لحظات معدودة فقط، قبل أن يخترق سكون الغرفة صوت تنبيه هاتفه، يعلن عن رسالة جديدة.
خرجت من الغرفة، والتقطت الهاتف بأصابع مرتجفة، لا تدري لماذا قلبها يقرع بهذا العنف…
نظرت إلى الشاشة، وارتفع حاجبها بدهشة عارمة… كان اسم المرسلة كافيا لإشعال نيرانها: هيام!! مستنياك متتأخرش عليا!!
ارتجفت شفتيها، وشعرت بغصة من الغيرة ممزوجة بالغضب تطبق على قلبها، فقبضت على الهاتف بقوة…
بلعت ريقها بتوتر، وغرقت للحظة في دوامة من الذكريات… تذكرت.. عيني جبران حين ينظر إليها بعشق، كلماته التي تحتضنها وقت خوفها، صبره على كل ما فيها… وهزت رأسها نافية، كأنها تطرد تلك الشكوك بعناد امرأة تعشق…
وضعت الهاتف على الطاولة، وتمتمت بصوت خافت أقرب للرجاء: أنا آه… غيرانة… بس برضو جبران مش خاين… وأنا واثقة فيه…
نظرت إلى باب المرحاض، وارتسم على ملامحها بريق من المكر والدهاء، وهمسة بسخرية ناعمة:استنى عليا…
تحركت نحوه بخطى ثابتة، وفتحت الباب بخفة، ثم دلفت إلى الداخل….
نظر لها جبران بدهشة ممزوجة بابتسامة عبثية، وأشار برأسه مازحا، كأنه يقول: تعالي، شوفي هتعملي إيه!
اقتربت منه بجرأة، ونزعت قميصها بأنوثة خجولة، ثم انزلقت معه أسفل الماء المنهمر.
رمقها جبران بنظرة دافئة وهمس بشوق:وحشتك ولا إيه يا فاليروز؟
لم ترد، بل اكتفت بهز رأسها، وعيناها تتوهج ببريق غريب… بريق يخفي خلفه غيرة مشتعلة، ووجعا لا تجيده الكلمات…
حدق بها، ومد يده يمررها برقة على وجهها، وقال بقلق حنون : مالك يا قلبي؟ شكلك مش طبيعي…
بلعت لعابها ، وأومأت بالإيجاب، وهمسة بصوت يغلفه مرارة :آه… أنا زعلانة.
رفع حاجبه بدهشة، واقترب منها أكثر، يمرر أنامله على شفتيها بلين، وهمس:ليه يا قلبي؟ مين زعلك؟
مطت شفتيها بانزعاج، وقالت بصوت مكسور تتخلله دموع محبوسة: إنت.!!
ارتسمت على وجهه دهشة مضاعفة، وأشار إلى نفسه متسائلًا بصوت مرتفع :أنا؟! إمتى يا ونس؟ أنا عملت إيه؟
رمشت بعينيها في محاولة لطرد دموعها، ثم قالت بحدة:
أول حاجة ضايقتني إنك طلعت ترد على التليفون في البلكونة… أول مرة تعملها، كنت دايما بترد قدامي….
وبعد ما دخلت الحمام، جتلك رسالة من واحدة اسمها هيام… أنا والله ما فتحتها، بس شوفت اسمها والكلمة الأولى… مستنياك، متتأخرش…
مين دي بقى؟ وبتستناك ليه؟ وعايزة إيه؟! أكيد معجبة بيك… أو بتحبك… اه ما هو مايتحبش حد غيرك أصلاً! تتحب اه …تنحب أوي كمان!
ظل ينظر إليها مذهولًا، يحاول استيعاب سيل الكلمات التي انهالت فوق رأسه دفعة واحدة، ثم قال بحدة نصف مازحة:إيه يا ونس؟! إيه كل ده؟! إنتي اتجننتي؟ ولا دي حالة بتيجيلك كل شوية؟!
عضت شفتها من بروده الذي زاد غيرتها اشتعالًا، وقالت بعناد:آه، بتيجيلي لما بغير… وممكن تتطور وأعضك عادي!
انفجر ضاحكا بصوت مرتفع ، وأغلق الماء، ثم لف منشفة حول خصره، وسحب أخرى ينشف بها شعره.
وغادر الكابينة وهو يضحك بمرح ،
ارتدت ونس برنس الحمام سريعًا. وهتفت بعناد وهي تخرج خلفه:إنت بتسيبني كده ليه؟! أنا عايزة أفهم… مين دي؟!
دخل غرفة الملابس وبدأ بارتداء ملابسه، ثم قال دون أن ينظر لها: ده شغل، يا قلبي… دي واحدة عندي معاد معاها عشان شغل، وكانت بتأكد المعاد…
أومأت برأسها، وقالت بنبرة متحدية:ماشي… أنا هاجي معاك، أشوفها بعنيا…
نظر لها أخيرًا، لكن بعين باردة ونبرة حاسمة:ونس… ده شغل. وانتهينا.
تململت بتوتر، ثم همسة بخفوت:ماشي يا جبران… أنا آسفة.
استدارت تهم بالخروج من الغرفة، لكنه قبض على ذراعها فجأة، وسحبها إلى حضنه، وحاوطها بذراعيه،
وهمس بجانب أذنها بلهجة عاشق لكن بحسم: أنا بحبك… ومفيش ست تانية تملي عيني. حطي دي قاعدة ثابتة في عقلك الصغير ده…
لفت ذراعيها حول عنقه، وهمسة بأنفاسها الحارة تلامس وجنته: أنا عقلي مش صغير… أنا بغير، يا قلبي، بغير عليك من الهوا مش من الستات!
ابتسم بعبث، وهمس:وأنا بغير عليكي من نفسك… يا ونس دنيتي.
قبل جبينها بحنان، وقال وهو يهم بالمغادرة:أنا رايح الأوتيل… وعشان خاطري، متتحركيش كتير. عايز فترة حملك تعدي على خير يا قلبي…
أومأت برأسها وهمسة:حاضر يا حبيبي.
طبع قبلة عميقة بجانب شفتيها، ثم تحرك نحو الباب، بينما عادت ونس لتبديل ملابسها… لكن الغيرة ما زالت تسكن نظرتها، رغم كل الكلمات…
……………………………..
ف النادي مساء ..
جلست نظلي بصحبة ونس على إحدى الطاولات القريبة من الواجهة الزجاجية، تتأمل الأضواء المنعكسة على المسبح…
قطعت الصمت وهي تهتف بابتسامة خفيفة: يعني خلاص، اتصلحتوا؟ الحمد لله.
أومأت ونس برأسها في خجل، وعينيه تلمع بفرحه وسعاده وقالت بصوت خافت: آه… بس طلع روحي على ما فك! بس انا مبسوطه اوي حاسه روحي رجعتلي!
ضحكت نظلي وهزت رأسها بتفهم، قائلة:والله ده حتى فك بسرعة… شكلك ليكي تأثير عليه!
تهربت ونس بنظراتها، كأنها تخشى أن يفضح سر قلبها، ثم همسة: المهم إننا اتصالحنا… الحمد لله.
ضحكت نظلي مجددا، لكن الضحكة تجمدت على طرف شفتيها حين ارتفع صوت مألوف من خلفها، صوت لم يخمد صداه في ذاكرتها رغم مرور السنوات نظرت له بدهشة وتمتمت : رياض؟!
رفعت ونس رأسها ببطء، ونظرت إلى الرجل الذي اقترب منهما، رجل في منتصف العمر، تناثرت الخصلات الرمادية بين شعره كأسلاك من الفضة، تزيده وقارا لا يقاوم.
نظر إليها رياض بعينين أرهقهما الحنين، وقال بصوت مفعم بالشوق: إزيك يا نظلي؟
بلعت لعابها بصعوبة، وتوترت ملامحها وهي تلتفت إلى ونس، ثم إلى رياض، ووقفت مرتبكة قبل أن تغمغم:
الحمد لله… أنا كويسة… إنت عامل إيه؟ آه، اعرفك…
أشارت إلى ونس، التي كانت تتنقل بنظراتها بينهما :
دي مدام ونس، مرات أخويا جبران.
رفع رياض حاجبه ، ومد يده بوقار وهو يقول بنبرة وقوره :هو جبران اتجوز تاني؟! اتشرفت يا مدام ونس.
أومأت ونس بخجل وهي تقول:أهلاً وسهلاً، الشرف ليا.
ثم التفت إلى نظلي ومد يده مرة أخرى، هذه المرة وقد تحشرج صوته تحت وطأة الذكرى:مش هتسلمي عليا… ولا إيه يا نظلي؟
مدت يدها بخجل، وهزت رأسها نفيا وهي تهمس:لأ، هسلم…
أمسك يدها بلطف، وقبلها بحرارة لم تطفئها السنين، وهمس:وحشتيني… يا ناني.
سحبت يدها بسرعة كأنها احترقت بلمسته، وهتفت بارتباك: يلا يا ونس… إحنا اتأخرنا أوي.
رفعت ونس حاجبها، ونهضت قائلة بهدوء:يلا يا حبيبتي.
تحركتا معًا، بينما بقيت نظرات رياض معلقة بـنظلي كأنها آخر ما يربطه بالحياة. وقبل أن تبتعد، غمغم بشوق مكسور:هشوفك تاني… يا ناني.
نظرت له ولم تجبه….
وسحبت ونس وتحركت بسرعه أمسكت ونس بذراعها، وهتفت:ناني… استني! أنا حامل، بالراحة… جبران هينفخنا أنا وانتي ورياض كمان!
شهقت نظلي بخفة، وأبطأت خطاها وهي تهمس بارتباك:
ونس… حبيبتي، بلاش تجيبي سيرة رياض قدام جبران… أحسن…
ضحكت ونس برقة وقالت: ليه بس؟ مش هو ده رياض اللي كنتي بتحبيه زمان؟ أنا فاكرة لما قولتي كده يوم ما جيتي المستشفى…
جلست نظلي على طاولة قريبة، وأومأت برأسها بارتباك :
آه… هو.
اقتربت ونس منها، وجلست بجوارها وقالت بحنان:
يا قلبي، شكله لسه بيحبك… وانتي كمان بتحبيه.
أومأت نظلي بشرود حزين، ثم رفعت وجهها وهمسة:
بجد يا ونس؟ حسيتي كده؟ إنه لسه بيحبني؟
ابتسمت ونس بخفة، وهتفت:طبعا! كل حاجة فيه بتقول بحبك… يا ناني.
هزت نظلي رأسها نفيًا، وهمسة بصوت مرتبك:بس… ناني دي… ده كان بيناديني كده زمان… بس أنا كبرت، عندي أربعين سنة يا ونس…
رفعت ونس منكبيها وهتفت: وفيها إيه؟ العمر مجرد رقم… إنتي قلبك لسه أخضر… وبِكر كمان! انتي اتحرمتي كتير، وجبران رجع لحياته، وسليم اتجوز، وجيلان مسيرها تتجوز… هتلاقي نفسك لوحدك، وده أصعب شعور.
أطرقت نظلي رأسها، ودموعها تلمع في عينيها وهي تهمس: لا… أنا هتكسف، يا ونس… أخويا وولاده هيقولوا عليا إيه؟
اقتربت منها ونس وربتت على كتفها بحنان: كل واحد فيهم عمل حياة لنفسه… وحرام تضيعي عمرك لوحدك. جبران؟ سيبيه عليا.
همسة نظلي بصوت مختنق: إحنا بنتكلم كأنه رجعلي… دي مجرد صدفة.
ضحكت ونس بهدوء وقالت بثقة: هيرجع… أنا متأكدة.
ثم ربتت على يدها، وقالت: هروح الحمام وارجع… نروح قبل ما جبران يرجع، ماشي؟
أومأت نظلي بشرود:ماشي.
تحركت ونس بخطى خفيفة، تتلفت حولها، حتى وقعت عيناها على رياض، جالس وحده. اقتربت منه سريعا، وهتفت: حمد لله على السلامة يا رياض بيه.
نهض وابتسم بود وقال: الله يسلمك يا بنتي… أنا مش عارف أشكرك إزاي… مكالمتك ردت لي روحي. بس إنتي جبتي رقمي منين؟
أومأت وقالت: جبته من دادة حكمت.
ضحك وقال: دادة حكمت دي طول عمرها وش الخير عليا!!
أومأت ونس وأجابت: الكلام جاب بعضه… وعرفت إنها بتكلمك كل فترة تطمن على نظلي… قصدي ناني.
ضحك بمرح وقال: آه فعلاً… نظلي قطعت معايا من زمان، وبطلت ترد على مكالماتي. فكنت بكلم دادة حكمت اطمن عليها… بس تفتكري جبران باشا ممكن يوافق؟ إني أتجوزها بعد كل السنين دي؟
نظرت ونس حولها بتوتر حين سمعته يذكر اسم جبران، ثم قالت بصوت منخفض: متخافش… سيبها الموضوع ده عليا… أهم حاجة بس خليك طويل البال، واتحمل.
أومأ برأسه بعزيمة، وقال: أنا عشت سنين على أمل معدوم… دلوقتي لما الأمل بقى موجود، مستحيل أتنازل.
ابتسمت ونس وقالت: أكيد… عن إذنك، أنا اتأخرت.
قال وهو يلوح لها: أنا اللي متشكر… أوي يا بنتي.
عادت إلى نظلي وهتفت: يلا.
أومأت نظلي برأسها، ونهضت ببطء، تسحب قدميها وكأنهما أثقل مما تحتمل، ثم همسة: يلا.
وغادرتا معا، نحو القصر…
كلّ منهما تحمل في صدرها مشاعر متضاربة، ارتباك، فرح، وحنين قديم عاد ينبض في قلب لم يمت أبدًا.
…………………………………..
بعد مرور يومين…
خرجت ونس من المرحاض، وشعرها ما يزال مبللا ببخار الماء، خفق قلبها بنبض خافت من السعادة التي لا تعرف سبب لها سوى صوته….
رن هاتفها، فالتقطته كمن يلتقط نسمة شوق، وابتسمت بعشق وهي ترد على الفور:حبيب قلبي اللي وحشني…
جاءها صوته عبر الهاتف مفعم بالحنان والمرح:دنيتي الشقية… وحشتيني أوي يا ونس.
ضحكت بخجل ناعم، وقالت برقة:هتيجي ع الغدا يا بابا؟
صدر منه صوت نفي خافت، كأنه يكره أن يخيب لها رجاء، لكنه تمتم بخبث :لأ، عندي شغل كتير.
مطت شفتيها بغيظ طفولي وهمسة كمن يعلن العصيان:
مخصماك…
اعتدل على كرسيه، مال بجسده للأمام، وغمغم بخبث خافت:طيب إيه رأيك… تيجي إنتي يا حبيبة أبوكي؟
رفعت حاجبها بدهشة، وقالت بسخرية مرحة:إنت بتقولي أخرج؟! واجيلك؟! إفراج خلاص ولا إيه؟
ضحك بصخب وقال: يا بت انتي من يومين خرجتي مع نظلي وكنتم في النادي… إنتي بتاكلي وتنكري ليه يا قطة؟!
قهقهت بمرح وردت:أنا مش بنكر يا جبري، بس إنت مش بتشبع، وأنا بفضل أتحايل عليك بتوافق بالعافية!
رفع حاجبه بخبث وقال:خلاص بقى… تعالي المرة دي من غير ما تتحايلي كتير، أنا مستنيكي، والسواق تحت عند الباب.
ابتسمت بسعادة متعبة، كأن قلبها أُنهك من الاشتياق، وهمسة:حاضر… يلا باي.
أغلقت الهاتف، ونهضت. ارتدت ملابسها كمن يستعد لاحتفال سري لا يسمح للعالم أن يعرف عنه شيئًا. كأنها ما زالت فتاه مراهقه تذهب للقاء حبيبها خصله
مشطت شعرها سريعا، وألقت نظرة أخيرة على المرآة، ثم غادرت القصر . كانت السيارة بانتظارها.
ركبت، وانطلق السائق في صمت، بينما قلبها ينبض بعنف، كأنه يحاول أن يسبق عقارب الزمن والمسافة، ليصل إليه قبل أن ينهار من شدة الشوق.
حين توقفت السيارة أمام فندق الباشا، وجدته هناك، واقفا أمام الباب، كأنه كان يعد الدقائق والثواني….
فتح الباب بنفسه، وسحبها إليه بعنف العاشق، ضمها إلى صدره كمن يسترد روحه من الغياب، وهمس بصوت مختنق:وحشتيني…
أحاطت عنقه بذراعيها، وهمسة بأنفاس متقطعة: وحشتني أكتر… يا روحي.
تراجعت قليلا، ونظرت إليه بدهشة، وقالت: أنا وحشتك لدرجة إنك مقدرتش تستنى في المكتب يا جبري؟!
ضحك بمرح ورد:طبعا ! وبعدين… عشان ما تطلعيش وتنزلي كتير، وانتي حامل… تعالي معايا يا قلبي.
أمسك بيدها وسار بها نحو السيارة، ثم لف ذراعه حول خصرها برقة مشتعلة وقال:ينفع تيجي معايا من غير ما تسألي، واثقة فيا؟
أومأت برأسها بثقة عمياء، وهمسة:طبعا… لو على النار معاكي، يا روحي.
فتح لها باب السيارة، وصعدت السياره، وأغلقه، ثم قال وهو يصعد بجوارها: وإنتي الصادقة… على الجنة.
انطلقت السيارة بهما، وهو ينظر إليها كما لو كانت الحلم الوحيد الذي صدقه قلبه.
لم يكن يحبها فقط، بل كان يعشق هذا الحضور الذي أعاد الحياة لروحه، قبل جسده.
…………………………………………..
وصلت السيارة أمام مبنى زجاجي شاهق، واجهته تلمع تحت أشعة الشمس كأنها مرآة للسماء، تعكس المارين، وتمنح المكان هيبة لا تخفى. نزل جبران أولًا، دار حول السيارة بخطوات ثابتة، فتح الباب بنفسه، ومد يده إليها.
نظرت إليه وهي تضع يدها في كفه الكبير، وصوت قلبها يخفق كأنها عروس في ليلتها الأولى، لا زوجة عرفت لمسته، وعشقت عبقه، وألفت حنانه وجرأته.
دخل بها إلى دار الأزياء، حيث استقبلهم عطر خافت، وإضاءة دافئة، وأجواء تنتمي لعالم من الفخامة. نساء أنيقات، وخامات تتدلى بنعومة، وألوان تعكس الحلم قبل القماش.
همسة ونس بخجل خافت وهي تتلفت حولها:المكان ده فخم أوي يا جبري… أنا مش بتاعت الأماكن دي…
ضحك بخفة، ولف ذراعه حول خصرها:من دلوقتي بق… المكان ده قليل عليكي… ده لو في قماش يتجاب من الشمس، كنت جبتلك منه فستان.
ابتسمت بخجل، بينما اقتربت منه إحدى الموظفات، ألقت التحية باحترام، فأشار لها جبران: الطلبات اللي طلبتها وصلت ؟!
ردت الموظفة بابتسامة احترافية : وصلت يا فندم ..
وبدأت تخرج القطع واحدة تلو الأخرى، أقمشة ناعمة، حرير، قطن فاخر، ألوان هادئة وكلاسيكية.
جلس جبران على أريكة وثيره، بينما هي أخذت تجرب ما يعرض عليها. كلما ظهرت أمامه بفستان جديد، كانت عيناه تفضحان شغفه، كأنها تتجسد له امرأة من خيال لا ينضب.
خرجت بفستان بيتي حريري بلون العاج، فضفاض قليلًا على بطنها المنتفخة قليلا بحياة زرعاها معًا، رفعت عينيها بتوتر:شكلي… يضحك؟
وقف، اقترب منها، رفع طرف ذقنها بأصابعه وقال بنبرة صادقة:شكلك يخض … خض قلبي من كتر جمالك… وانتي حامل… وشايلة جواكي حتة مني… ياااه يا ونس…بجد مش مصدق !!
وضعت يدها على صدره وهمسة:أنا بحبك أوي…”
ضمها من خصرها، ومال عليها وقال:وريني اكتر… عايز أشوفك في كل حاجة…
حين وصلت إلى قسم اللانجيري، ترددت، لكنه كان خلفها مباشرة، وهمس في أذنها بنغمة مرجفة:متتكسفيش… ده حقي… أنا جوزك، وبموت فيكي !!
سحب قطعة دانتيل بلون خمري، ناعم كأنفاس الليل، ومدها لها وهو يقول:دي… تخلي قلبي يوقف… تخيلتك فيها… وانا خيالي مبيغلطش عشان بحلم بيكي !!
هزت رأسها بخجل وضحكة مرتعشة: عيب يا جبري بطل جنان
رد عليها بنبرة عاشق: آه… أنا في حبك مجنون… ورايق، وراجل، وكلي ليكي.
هزت راسها بيأس ودلفت لتجرب ما اختاره لها، ارتدت ذلك الرداء وفوقه قطعه خفيف من الشيفون المطرز، يخفي أكثر مما ينبغي ، نظرت إلي نفسها بذهول وشهقت وهزت راسها بالنفي وغمغمت: يلهوي أنا مش هطلع كده ابدا ..
تحركت حتي تبدل ملابسها بسرعه.. ولكنها توقفت بصدمه ..عندما دلف عليها واغلق الباب.. ونظر لها بنظرات ناريه متفحصه ..جعلها تتململ بتوتر وهمسة بتلعثم : دخلت ليه؟! هتفضحنا ..يقولو علينا ايه بره ؟!
نظر لها بدهشة واطال النظر وبلع لعابه بصعوبه وهمس : كوين اوي !!ملكه جمال يا فاليروز ..
اقترب منها، وأدارها برفق، وهمس وهو يمرر كفه على ظهرها بحذر : لو عليا… هقفل عليكي باب عمري… متخرجيش منه أبدا…
التصقت به، ووضعت رأسها على صدره، وهو يضمها بقوة، نسي المكان ومن فيه، همس بشفتيه على عنقها :
من اول مره شفتك سحرتيني ولسه بتسحري عيني وتخطفي قلبي كل يوم من جديد !!
تراجع بها حتي اصطدمت بالحائط وحاوطها بذراعيه وضعت يدها على صدره وهمسة بارتباك : حبيبي احنا مش في البيت يا بابا عيب كده
ضغط عليها وهمس أمام شفتيها بصوت أجش يشتعل بالرغبه : مش مهم احنا فين المهم اننا مع بعض ..جمالك جنني وانا لازم اجننك !!
رفعت حاجبها بدهشة وهمسة: هتجنني ازاي ؟!
اقترب منها وهبط على شفتيها بقبله ناريه وهمس: كده !!
التهم شفتيها بعمق وهو يضمها لحضنه بقوه ويده تمسح على ظهرها بتملك مجنون ..
حاولت ونس دفعه ولكنه تعمق أكثر في شفتيها بقبله حارقه ..جعلت حلقه يجف بحراره.. شهقت برعب عندما انزلق الي عنقها وامتصه بشغف وهمس: كل ما ابقي عايز اجننك بتجنن أنا اكتر !!
دفعته بقوه وهمسة : كفايه ابوس ايدك.. هتفضحنا طيب يلا نروح !!
تراجع قليلا وحاول يتمالك نفسه ونظر لها بعشق وغمغم: غيري يا قلبي يلا هستناكي بره !!
هزت راسها بأنفاس منقطعه وهمسة: حاضر ..
خرج من الغرفه وهو يتسبب عرقا بحرارة تشتعل تحت جلده وأشار الي أحد الموظفات وغمغم : عايز مايه لو سمحتي !!
اومات الموظفه باحترام مهني وتحركت ثم توقف عنها هتف : ياريت بتلج!! وجهزي كل الحاجات اللي اخترتها
وزودي عليهم كل اللي أنا شاورت عليه… وهاتي باقي الكولكشن…
اومات برأسها وقالت: تحت امرك يا فندم !
خرجت ونس من الغرفه وهي تخفي عينيها بخجل
اقترب منها وضمها بحضنه وقبلها اعلي راسها وغمغم : جبتلك كل الحاجات اللي عجبتك يا حبيبي
مسكت يده وقبلة أطرافها، وهمسة بخفوت: مش عايزة من الدنيا غيرك يا بابا
رد عليها وهو يضع يدها على قلبه: هو ده بيتك… جوا قلبي ،
……..
غادرا دار الأزياء، يده تمسك بيدها كأنها امتداد لقلبه لا لذراعه، عيناها تبرقان من أثر كل ما اختار لها، لكن قلبها كان يعرف… أن ما يلبسها إياه ليس قماشا، بل حبا من نوع لا يشترى.
ركبا السيارة من جديد، وضعت رأسها على كتفه وهمسة: إحنا رايحين فين تاني؟ أنا حاسة إنك مخبيلي مفاجآت لسه…
رد وهو يقبل جبهتها: ما هو انتي المفاجأة… وأنا بحاول ألحقك… ألبسك على قدك، وكل ما ألبسك ألاقيكي أكبر، أوسع، أعمق…
ضحكت بخفة وهمسة: هتجنني يا جبران…وانا مش ناقصه
لم يجب. فقط شد يدها برفق، وأشار للسائق أن يتوقف أمام مبنى عتيق، فخم، واجهته منقوشة بزخارف ذهبية خافتة، وحروف نحاسية لاسم محل مجوهرات قديم، يشبه القصور أكثر مما يشبه المحلات.
نزل أولا، فتح الباب لها كعادته، وسار بها إلى الداخل.
رائحة العراقة سبقتهم، والمكان كأنما متجمد في لحظة ترف لا ينضب… الزجاج المصقول، الأضواء الهادئة، والصناديق المخملية التي تحتضن قطعا تشبه الأساطير.
قالت بدهشة: مجوهرات؟ ليه؟ أنا مش محتاجة حاجه…
وقف خلفها، ومال على أذنها وهمس بنبرة جعلت أنفاسها تتسارع: أنا محتاج… محتاج كل حاجه بتثبت إنك ليا”
ثم أشار للبائع: خلصت كل اللي طلبته منك
اوما البائع وقال : طبعا يا باشا كل الاطقم ألماس ناعمة… مختلفة… مش تقليدية… ومش شبه حد… زي ما أمرت
جلس جبران على مقعد وثير، وسحبها لتقف بين ساقيه، ذراعه تلف خصرها، وعينه لا تفارق وجهها المنبهر.
أخرج البائع اطقم ماسيا، رقيقا، تصميمه يشبه نبتة ياسمين ملتفة حول عنق وهمي.
التقطه جبران بيده، ثم أشار لونس: إرفعي شعرك…”
رفعت شعرها ببطء، وكأنها تسلم عنقها له بإخلاص طفلة، وخضوع أنثى تعرف لمن تنتمي. أدار العقد حول رقبتها وثبته، ثم قبل كتفها المكشوف وهمس: كل مرة أشوف رقبتك دي… أقول لنفسي: دي اتخلقت للالماظ ولي أنا ..
ارتجفت من كلماته، ومالت عليه وهمسة:هتفضل تحبني كده لحد إمتى؟
أجاب بدون تردد، وهو يلف إصبعه حول طرف العقد:
لحد آخر نفس فيا… وهسيبه فيكي…عشان تعرفي تلاقيه لما تشتاقيلي…
أشار لطقم آخر، أكثر جرأة… سوار يلتف حول المعصم كأفعى ماسية، وعينان زمرديتان تلمعان في رأسه.
قال لها وهو يمسك المعصم الأيسر:ده هيلف حوالين إيدك… زي ما أنا لافف حوالين قلبك…
ثم وضعه عليها، ورفع يدها يقبل ظاهرها، عينه تشعل النار في كل تفصيلة منها.
أخرجوا صندوقا صغيرا، وبه خاتم من الذهب الأبيض، مرصّع بحجر نادر يميل للزرقة العميقة، كأنه بحر مغلق.
قال البائع: ده تصميم حصري… اتعمل منه نسختين بس…
ابتسم جبران وأخذه، ثم ركع على ركبته أمامها وسط المحل… والناس من حولهم يراقبون بصمت مذهول.
قال وهو يدخل الخاتم في إصبعها: ده مش دبلة يا ونس… ده تعويذة… عشان كل اللي يشوفك يعرف إنك مش بس متجوزة… لأ… انت ملكة جبران الباشا.
ارتجفت شفتاها، وهتفت بدموع غامرة: أنا بحبك… بحبك لدرجة اول مره بخاف أموت وابعد عنك اول مره احس اني عايزه اعيش كتير اوي وعمري يطول واعيشه ف حضنك يا جبران
وقف، وحاوط خصرها وضمها لصدره بقوة كأنما يحميها من الكون كله، وهمس: هعيش معاكي كل ثانيه ودقيقه كأنها عمر كامل مش هنضيع لحظه واحده بعيد عن حضن بعض يا ونس دنيتي !!
ابتعد قليلا، ومسح دموعها بإبهامه، وقال بنبرة هادئة خطيرة: يلا بينا… لسه باقي حتة من المفاجأة…
سألته بدهشة: فين كمان؟!
قال وهو يفتح لها باب السيارة: هتعرفي… بس جمدي قلبك … اللي جاي احلى من اللي فات يا كوين فاليروز…
……………………………………
حين توقفت السيارة أمام فندق الباشا، ارتجف قلب ونس. شعور غريب تسلل إليها، كأن قلبها يعلم أن اللحظة القادمة ستهز كيانها للأبد.
ترجلت مع جبران الذي أمسك يدها بإحكام، وصعد بها دون أن ينطق بكلمة. عيناه تحكيان كل شيء… ولهفة خطواته تسبق الزمن.
ركبا المصعد، ارتفعت الأدوار، ومع كل طابق كانت أنفاسها ترتفع، وتعلو معها دقات قلبها.
حين وصلوا للطابق الأخير، فتح باب الجناح بنفسه، وقال بصوت رخيم: ادخلي… واستعدي تنسي الدنيا كلها.
دلفت بخطوات مترددة، ثم وقفت مذهولة.
الجناح لم يكن غرفة… بل جنة مصغرة. ستائر بيضاء تنسدل كأنها سحاب، ورود طبيعية بعطرها الغامر، والمكان مضاء بنور ناعم دافئ كنبض العشاق.
وفي منتصف الغرفة…
فستان زفاف يليق بملكة.
فستان أبيض عاجي، مطرز يدويا بخيوط من ذهب دقيقة، مرصع بلآلئ صغيرة من أعماق البحر، بتصميم خيالي يعانق الجسد كأنه شكل من أجله وحده.
شهقت ونس، وكادت تقع، لولا أنه كان خلفها، يضمها بذرعيه، يمسكها قبل أن تسقط من وطأة المفاجأة. ووضعت يدها على فمها، عينها تدمع، وكأنها ترى نفسها في حلم كانت تظنه مستحيلاً.
همس بعنفوان العاشق ف أذنها :اتعمل مخصوص… في باريس… على مقاسك، على شكلك، على حلمي بيكي من زمان.
لم تستطع الرد. كان المشهد أكبر من أن توصفه كلمات.
دلفت دمع ومعها فتاتان أنيقتان، تنحنيان لها باحترام وهتفت : كنت متاكده أنه هيعجبك وصفت روحك للمصمم وطلع كده يا ونس
فتحت ونس فمها بدهشه وهتفت : انتي كمان يا دمع اتفقتوا عليا ؟!
اقتربت منها بعيون دامعه وهمسة بصوت راجي : ولو حته من روحي مش هوفيكي حقك يا حبيبتي!!
اقتربت منها ونس وهي تشعر بقلبها يهفو لشقيقتها وضمتها بقوه وغمغمت بدموع: وحشتيني اوي
شهقت دمع براحه وهي تشعر بضمت ونس لها …
هذه هي ضمتها ..هذا هو حبها الصافي لها بقلب مرتعش…
وهمسة : الحمد لله يا قلبي وحشتيني اوي !
اقترب جبران منهم وهتف : ممكن اقطع وصلت العشق الممنوع دي ..احنا لسه عندنا حاجات كتير !!
ضم ونس وابتسم ، وقبل جبهتها، وقال: أنا نازل ألبس… وهارجعلك عشان آخدك بنفسي…
ثم نظر إليها بلهفة خافتة:أنا عارف لما أرجع… هتلغبط من جمالك…. يعني متخديش علي رد فعلي وقتها
تركها ورحل، بينما قلبها يتخبط من الدهشة والفرح.
بدأت دمع تلبسها الفستان، خطوة بخطوة، وأعينهن تلمع بإعجاب: الفستان كأنه معمول من نور … عشانك أنتي وبس يا ونس ..
كتمت ونس أنفاسها وهي تنظر إلي المرأة ولا تصدق هذا الحلم يتحقق أمامها وأصبح واقع ملموس وكأنه خرج من خيالها !!
استقامت دمع بعد أن انتهت من تعديل طيات الفستان بشكل انيق وتحركت وفتحت علبه واخرجت منها حذاء ذو كعب عالي كأنه مصنوع من البلور مسكت يد ونس وقالت بمرح : اعتبريني النهارده الساحره الطيبه يا سندريلا
ضحكت ونس برقه وقلبها يرتجف بقوه وقالت :
دمع قلبي بيطب مني !!
ضحكت دمع حتي أدمعت عينيها واجلست ونس وجثت أسفل أقدامها والبستها الحذاء بهدوء وفرحه جعلت دموعها تقطر دون إراده.. مررت يدها علي فستانها بنعومه وهمسه: مبروك يا ملكه !!
قبلتها ونس علي جبهتها وهمس: الله يبارك فيكي يا قلبي ويخليكي ليا ..
ارتدت الفستان، تزينت، وتركت شعرها منسدلًا، زين بإكسسوار ناعم من الألماس والورود الصغيرة. خف مكياجها أضاء وجهها، كأنها كوكب نازل من السماء.
وفجأة… فتح الباب.
دلف جبران… وتوقف….لم يتنفس….لم يتحرك….لم ينطق.
تجمدت الدنيا حوله، وعيناه تمتلئان بنظرة رجل رأى الحلم… ولم يصدق أنه صار حقيقة : ياااه…كانت الكلمة الوحيدة التي خرجت منه وهو يقترب ببطء، كأنها كائن مقدس لا يجب لمسه إلا بخشوع.
وقف أمامها، عيونه تترنح فوق ملامحها، تمتم:أنا وقعت في عشقك تاني… من أول وجديد.”
ضحكت بخجل وهمسة: هو أنا حلوة كده بجد؟
مال عليها وقال بصوت غليظ وحنون:إنتي حسن فوق الحسن… ومراتي… وعروستي… وقلبي اللي هنزل بيه دلوقتي وأقول للدنيا كلها دي ليا.
ترقرقت عينيها بالدموع نظر لها وأشار بالنفي وقال بحنو : لا يا ونس مفيش دموع في فرح .. في ونس ..
في حنان.. وفي حب وعشق ودلع !
ابتسمت برقه ومد يده، فوضعت يدها داخله، وخرجا سويا.
نزل بها الدرج الكبرى للفندق، وهي تتعلق بذراعه كملكه عيناها تدمع، وابتسامتها لا تفارق وجهها.
وحين انفتح باب القاعة…انبهرت.
القاعة تحولت لقصر من الحكايات.
زهور بيضاء تتدلى من السقف، أضواء ناعمة تتحرك بخفة، موسيقى ساحرة تعزف كأنها تخرج من قلبه، حشد من الأحباب يصفق ويضحك، لكن لا أحد يعلو على صوت عشقهم…
أخذها إلى منتصف القاعة، نظر لعينيها، ولم ينتظر إعلانا.
بدأ الرقصة.
لف ذراعه حول خصرها، ويدها فوق قلبه، وعيناه لا تفلتان عينيها.
رقصا…كأن لا أحد هناك… كأن الكون انكمش، ولم يتبق سوى خطواتهما، وأنفاسهما، ونبض قلبين اتحدا.
همس في أذنها، وهما يتمايلان: النهاردة اتولدت من جديد… وقلبي بيقول مراتي… مراتي قدام الدنيا كلها.
انزلقت دموعها وهمسة :وأنا… أنا عشت علشان اللحظة دي بس…
لف ذراعه حول خصرها، أحاطها كأنه يطوق كنزا من الجنة، كأنما يخبئها من العالم، ليحفظها له وحده.
ضجيج القاعة تلاشى.
لم يبق سوى صوت أنفاسه تلفح عنقها، ونبضات قلبه التي تخبط في صدره بلا خجل.
نظرت إليه… فلم تر رجلاً فقط، بل العشق متجسد أمامها،
عيناه تتكلمان نيابة عن كل حرف لم يقل،
ونظرته تهمس: هذه اللحظة خلقت لنا.
وضع جبينه على جبينها، أغمض عينيه، وهمس بصوت خافت لكنه مشتعل: مش معقول… إنك بين إيدي كده…
إنتي الحلم اللي كنت بجري ورا سنين …حاسس كأني أول مرة ألمسك
تورد وجهها، وتهربت عيناها، لكنه أمسك بذقنها بلطف، رفع وجهها وقال بجرأة ناعمة:بصيلي… متخبيش عني وانتي مراتي…أنا اللي هشيلك بجنونك وخجلك،
أنا اللي هخلي كل نفس فيكي يترعش ف حضني !
بدأت الموسيقى تنساب كخيط ماء، وأجسادهما تتمايل بانسجام مخيف ..رقصها بين ذراعيه لم يكن رقصه…
بل خضوع عشق، طقس مقدس، انسكاب أرواح.
كان يقربها نحوه أكثر، وكأن المسافة حتى بين الجلدين لم تعد تكفي…كلما مالت برأسها على صدره، ضمها حتى تذوب فيه.
همس في أذنها، بنبرة حريرية ممزوجة برعشة:إوعي تفتكري إنك بس مراتي…انتي أنا…لحمي… دمي…
وكل حاجة فيا بتتحرك لما تبصيلي كده.
شهقت بخجل، لكنه لا يعطيها فرصة للهرب،
يداه تلفان خصرها برقة، ثم تشدانها،
شفتيه تلامسان جبهتها، ثم تهمسان:كنت فاكر إني جامد…قاسي… ماحبش…بس انتي؟كسرتي قسوتي … ودبحتي قلبي في حبك
وبرضو عايز أتدبح تاني وتالت.
ابتسمت، وذابت في عينيه، فاقترب منها أكثر، وقال وهو ينقل كفه ببطء على ظهرها: إنتي أول وآخر رقصة لقلبي…أنا عمري ما همشي غير على نبضك، ولا هرقص غير على موسيقتك، ولا هعيش إلا جواكي.
كان يدورها بخفة، وعيناها لا تنفصلان عنه.
كل دوران كان عناق،
وكل خطوة كانت شهقة حب.
الناس حولهم تصفق، لكن لا أحد يجرؤ على اختراق الفقاعة التي صارت بينهما…كأن الزمن توقف…
كأن الحياة اختزلت في ضمه،
وفي رجفة شوق بين جسدين ارتبطا بحبل مقدس.
همس في أذنها:أنا مش هتكلم الليلة…
أنا هتنفسك…وهخلي الدنيا تعرف إن في ملاك بين البشر… يخصني.
نظر لها بحنان وهمس: ونس انتي نسيتي الكلام يا بابا عايز اسمع صوتك !!
ارتعشت، وضمته أكثر، ورفعت رأسها نحوه وهمسة:
أنا مش عروسة الليلة…
أنا هبقي ليك عمري كله …وحلالك…وكل حاجة ناقصة منك من سنين.
قبل أناملها برقة، ثم انحنى يقبل بطنها بلمسة خاطفة، وهمس لها وحدها: وكل حاجة جايه منك… وفي اللي جوانا…كلي ملكك… من أضعف نقطة فيا، لأكتر نقطة وحشية…انتي حاميتي… وإجرامي…سلامي… وجنوني. حنيتي وقسوتي كل حاجه وعكسها يا ونس دنيتي
رقصا حتى ارتجفت القاعة،
حتى التصقت أرواحهما بما لا يفصل.
كانت رقصة…
لكنها لم تكن مجرد حركة…
كانت عهدا أبديا بلغة الجسد… أن لا فكاك بعد الآن.
……………………………
علي الجانب الآخر
رفع آدم حاجبه بدهشه ولكز سليم وغمغم: ابوك جاب كل ده منين؟! ده احنا عيال يا بني هواه قدامه !!
ضحك سليم وقال: الخبره تتجسد والرومانسيه ولا اجدعها مسلسل تركي …
ضحك آدم وعض علي شفته بعبث ونظر الي جيلان التي تضحك بمرح مع صديقاتها وغمغم : أنا هتجوز علي روحي وربنا !!
ضحك سليم بتهكم ونظر الي جيلان وصديقاتها وهتف : لا اوع تقولي ان عينك علي واحده من أصحاب جيلان ؟!
نظر له آدم ورفع حاجبه بدهشه وقال: وايه المشكله ؟؟
لكزه سليم وهتف : انت مش فاكر الحفله اللي عملتها عليا لما عرفت اني بحب دمع!! وهي كانت ف نفس سن جيلان واصحابها …
تنهد آدم بحنق وهمس لنفسه : واهو ربنا ابتلاني بعشق بيجري ف دمي ..
رفع حاجبه ونظر الي جيلان ثم سليم وغمغم: واهو حصل اعمل ايه ؟!
ضحك سليم بمرح وهتف: ولا حاجه.. استنا بقا لما تتفطم واتجوزها !!
ضحك ادم بتهكم واردف بيأس : اكون اتجننت ومشرف ف العباسيه وقتها …وعلي الفكر جيلان ودمع الفرق بينهم كام شهر يعني مش كبير ….
اوما سليم برأسه وهتف : عشان كده مستغرب
علي الجانب الآخر ..
تألقت القاعة بوهج الأضواء الكريستالية، تراقصت الانعكاسات على الأسقف العالية والثريات الباهرة، بينما العزف الحي لأوتار الكمان تصاعد بنغمة حالمة، تشبه صوت قلب ظل ينتظر النبض لعقود.
وقفت نظلي على مشارف القاعة، تتشبث بكأس العصير بين أصابعها المرتعشة، والذهول يكسو ملامحها، حتى قبل أن ترى رياض واقف عند الطرف الآخر…
كان مرتديا بدلة سوداء فاخرة، وقد زادته السنين وسامة لم تفتر، ونظراته لا تفارقها منذ لحظة دخولها….
وعندما صدح صوت العازفين بمعزوفة حالمة، اقترب منها بخطى ثابتة، ومد يده أمام الجميع، قائلًا بنبرة رخيمة، عميقة، دافئة:ترقصي معايا؟
ترددت لحظة، لكنها شعرت أن قلبها هو من خطا نحو يده، لا قدماها.
أمسك بيدها برقة، وسحبها إلى قلب القاعة، حيث انفتح أمامهما المجال… واختفى الجميع من الوجود، كأن اللحظة خلقت فقط لهما.
وضع يده خلف خصرها، وضمها بخفة، وهمس بصوت لا يكاد يسمع: لسه صوت قلبك نفس النغمة… ما تغيرش.
أغمضت عينيها، وخففت جسدها بين ذراعيه، كأنها تسلمت إليه بإرادتها لأول مرة…
كان يقود خطواتها في الرقصة ببطء، كأنهما يتعلمان كيف يعيشان مجددا… مع كل دوران، كانت ذراعه تشتد قليلًا حول خصرها، وكفه ينزلق في ملمسها بحنين متأجج…
همسة بصوت خافت: رياض… الناس بتبص…
انحنى وهمس عند أذنها: أنا ببصلك من عشرين سنة، ومش شبعان منك …
وهفضل أبصلك… لحد ما يطفى النور من عيني…
ارتجفت شفتاها، وارتفعت عيناها له، لتجده يحدق بها كأنها مخلوقة من دهشة… دهشة لا تشيخ.
شدها إليه أكثر، حتى تلاصق جسديهما، وهمس بحرارة:
وحشتيني يا ناني…حياتي كلها اتعاشت غلط من غيرك.
والنهارده… كل شيء راجع لمكانه الصح.
توردت وجنتاها، وانحنى برأسه نحو رقبتها، يشهق عطرها الذي لم يتغير… ثم طبع قبلة خفيفة، لم يلحظها أحد، لكنها أشعلت حريقا في دمها.
كانا يدوران ببطء، خطواته ثابتة كأن الزمن ينصاع له، وكل خطوة تمحو عاما من البعد، وكل همسة تكتب بداية عمر جديد.
كانت الموسيقى تتصاعد حولهما، والعينان تمتلئان، والشفاه لا تنبس إلا بأسماء قديمة،
همسة نظلي ، بنبره مرتجفة، والعبرة تخنقها: أنا خفت أرجع… خفت أضعف…
رفع وجهها بكفه، وقال بنبرة تشق جدرانها:ده مش ضعف… ده انتصار،
إنك تلاقي نفسك بعد سنين من الضياع… في حضني.
من بعيد، جلست ونس تمسح دمعة سقطت من عينيها، تهمس لنفسها:رجعلها…ورجعت هي كمان.
ثم نظرت إلى جبران الذي كان يراقب ما يحدث في صمت، وقد رفع كأسه برضا، وهمس لنفسه:آدي فرحي الحقيقي… شفتي يا نظلي ؟ ناس اتصالحوا… وقلوب رجعت تنبض.
وما زالت الموسيقى تعزف…
وهم يدوران، كأن الفرح كله اختصر في رقصتهما،
وكأن هذه الرقصة، رقصة العمر…
التي جاءت متأخرة، لكنها أتت لتبقى.
………….
كانت الأضواء المعلقة تتمايل مع نسيم الليل الخفيف، والموسيقى الهادية بدأت تخف بعد رقصة طويلة جمعت نظلي ورياض بعد غياب دام طويلا
قبض رياض علي يدها بحنو وتحرك بها الي خارج القاعه
وغمغم بصوت هادئ وهو ينظر لعمق عينيها :لسه بتخافي تبصيلي كده؟!
شقت ابتسامه صغيره وجه نظلي وقالت :مش بخاف… بس بحاول أصدق.
رفع رياض يدها وقبلها وتمتم: أنا حقيقي… قدامك، وجنبك، ومعاكي… ومش هسيبك تاني.
حدقت نظلي حولها بتوتر واقتربت منه ووضعت يدها على صدره وشعرت بدقات قلبه تضرب بعنف وقالت :
عارف أول ما مشيت؟ قلبي كان بيوجعني… كل يوم.
كنت بصحى وأقول يمكن ترجع النهارده… ويمكن ما ترجعش أبدًا.
نظر لها بحنان وهمس بصوت متحشرج: وكنت برجع كل يوم… بس في خيالي.
نظرت له نظلي بثبات وقالت: بس النهارده… أنا اللي عايزة أرجع.
عايزة أرجعلك، وكل يوم أقولهولك…
إني بحبك. لسه بحبك… ويمكن أكتر من زمان.
تجمد رياض للحظه وادمعت عينيه وزفرا بعمق كأنه يشهق كلامها ويخترق قلبه وغمغم بصوت مبحوح :
يا نظلي… ده انا عمري بدأ لما سمعته منك.
ابتسمت ودموعها تنهمر وغمغمت بحنان حقيقي :
وعد… مهما الدنيا عملت فيا، مش هبعد عنك تاني.
إنت بيتي… وأماني… وقلبي.
سحبها لحضنه وضمها بقوة غربه سنين وغمغم : لازم نتجوز بسرعه
هزت نظلي رأسها بيقين وغمغمت بدموع: كفايه اللي ضاع مننا يا رياض
………
في آخر الفرح، وبينما الفرحه تغمر الأجواء حولهم جلست اميره في ركن هادي، بملامح خط عليه الزمن وجع سنين.
اقترب منها عادل بخطوات محسوبه وقال بلطف :
مساء الخير يا مدام أميرة… مش كده؟
نظرت له اميره بجفاء واضح وغمغمت : كده إنت مين؟
اوما عادل بابتسامه خفيفه تعلو وجهه: أنا عادل الكيلاني … صاحب جبران. شفتك قبل كده من فتره ، يوم فرح سليم و
قاطعته أميرة نبرتها الجافه : عاوز إيه؟
عادل بهدوء: ولا حاجة والله… بس كنت حابب أتكلم معاكي شوية.
كنتي لفتي نظري وقتها … وساعتها زعلت لما عرفت إنك متجوزة… ولما عرفت اللي حصل مع جوزك… قلبي وجعني عليكي.
نهضت اميره هتفت بصوت متهدج : بص يا أستاذ…ولا بيه انت ولا ما اعرف أبصر ايه
لو جاي تعطف عليا وتتنحنح وفر على نفسك أنا مبطقش صنفكم وابعد عني احسن ..
تراجع عادل خطوه وقد راقت له قوته وشراستها:لا والله… مش كده، أنا بس…
قاطعته أميرة بحدة :أنا شفت الويل مع راجل كنت متجوزاه، ودفني بالحياة. انا فيا اللي مكفيني، ومش ناقصة وجع تاني…ولو سمحت، ما تتكلمش معايا تاني
اوما عادل بهدوء حزين :ماشي… أنا آسف.
بس لو في يوم غيرتي رأيك… أنا موجود.
نظرت له بدهشة وقالت بحزن وقهر :أنا رأيي مش هيتغير … والرجالة بالنسبالي صفحة واتحرقت.
هز عادل راسه بأسى، وتراجع بخطوات ثقيله بحاله رثه وهو ينظر لها بحزن أخفت اميره دمعة مخنوقة انسلت من بين جفنيها، تخفي خلفها قوة مصطنعة… وانصرفت
…………………………….
علي باب القاعه
دلفت أمل مع وائل وهتفت بفرحه : يا بني هي متجوزه من فتره بس لظروف يعني معملوش فرح وقتها …
اوما وائل برأسه ونظر حوله بدهشة وقال: انتي عارفه انا كنت شغال هنا من فتره.. بس شكل صحبتك اتجوزت واحد ..
قطع جملته عندما وقعت عينيه على ونس بثوب الزفاف وحدق الي امل بذهول مخلوط بالغضب ووووو
…………………….
ساحره القلم ساره احمد