بين احضان قسوته (الفصل الاربعين الاخير)

“أميرتي، ومعشوقتي، ونبض عمري، وروحي التي بها أحيَا…”
يا ذات العيون الكحيلة، يا من تسكنين طيفي ويعبث بكِ خيالي حتى حدود الهوس، أظنّه الجنون بعينه، أن تُعلّق روحي بروحك، وتظلّ معلّقة في فراغ انتظار كلمة… كلمة واحدة منكِ تُسكِتُ ضجيج عطش السنين.
كثيرون من حولي، يبتسمون، يتحدثون، يقتربون… لكن لا أحد منهم يعني لي شيئًا. وحدكِ أنتِ، رفيقة الدرب، كنتِ البداية، وستبقين النهاية.
فتحتُ لكِ أبواب العشق كلها، وكتبتُ اسمكِ على جدرانها كمن ينقش على الحجر عهدًا أبديًّا لا يُمحى. فهل يكفيكِ أنني بكِ اكتفيت؟ أنني وضعت قلبي بين يديكِ، ووهبته لكِ، ليكون لكِ حصنًا من تعب الدنيا، وسياجًا من نبضي كلما أثقلكِ الحنين؟
كلما مسّكِ التعب، أسقيكِ من جنون عشقي، حتى ترتوي روحكِ، ويخبو ظمأكِ القديم. أنتِ حبٌ وُلد ليبقى… لا يشيخ، لا يذبل، لا ينطفئ، بل يظلّ فتًى في وجه السنين، فتًى في وجه الأعوام والعصور.
لكِ عطركِ المختلف… عبير لا يُشبِهه شيء، فأنتِ الملكة، وهل تضع الملكاتُ إلا أندر العطور وأفخمها؟
يا بهيّة الحضور، إن الدنيا تلفّ وتدور، وما تزالين أنتي البدر بين النجوم، مهما تغيّر الزمان، ومهما قالوا عنكِ، تظلّين أميرة كل العصور، فارفعي رأسكِ، ولا تبالي.
تعالي… نُخرس هذا الاشتياق الذي ينهش أرواحنا، فالعشّاق أمثالنا لا يحيَون دون لمسة حنين، دون ضمّة تُعيد في القلب الحياة.
يا سيدتي… يا سيّدة قلبي ونور عيوني… إن قلبي بحبكِ متيّم… حدّ الجنون.
في ذلك القصر العريق، الذي اعتاد أن يحتضن الصمت والرهبة، علت اليوم ضحكات دافئة، وموسيقى شرقية ناعمة تراقص الهواء. الشمس كانت تودع السماء على استحياء، كأنها تؤجل الغروب حتى لا تطفئ على لحظة اللقاء بهاءها.
تجمعوا جميعًا في الحديقة الواسعة للقصر. الكراسي مزينة بشرائط بيضاء وورد جوري. المائدة الكبيرة تلمع فوقها الكؤوس والأطباق، وفوقها أرواح تفيض بالفرح والبدايات.
نظلي بدت كزهرة في أول تفتحها، فستانها الأبيض المطرز بخيوط فضية يحتضن خصرها برقة، عيناها تبرقان بين الخجل واليقين، وابتسامتها تسبق الكلمات.
رياض كان يقف بثبات الرجل الذي اختار، وأحب، وانتظر.
وحين نطق المأذون بالشهادة، ارتجف قلبها، وأغمض رياض عينيه للحظة كمن يقبل القدر على جبينه.
المأذون:
بارك الله لهما، وبارك عليهما، وجمع بينهما في خير…
تصفيق حار عم المكان، وصوت الزغاريد تصاعد من قلب البيت، والفرح سال على الأرواح كالماء الزلال.
همس رياض لها وهو يمسك يدها: من النهارده، إنتي بيتي… ولو الدنيا كلها اتقلبت، حضنك هو الأمان.
همسة ناظلي بصوت خافت وابتسامة مرتجفه: وإنت سندي… اللي عمري ما كنت أتخيله، وبقي حقيقي.
وفي الخلف، كانت دمع تحتضن يد سليم بقوة، وعيناها تبرق بالدموع.
نظر لها سليم بدهشة وغمغم : هتعيطي؟ ولا دي هرومانات الحمل؟
ضحكت وهي تمسح دمعتها: لا دي دموع الفرح مش قادرة أصدق حكايتهم … وانهم اتجمعوا بعد السنين دي كلها !!
كانت ونس جالسة على طرف الكرسي، تتماسك قدر استطاعتها، لكن نظرة جبران لم تفارقها.
اقترب منها وهمس وهو يمرر كفه على ظهرها بحنو : شايف التعب في وشك… بس مقدرش أمنعك من اللحظة دي.
همسة ونس بعناد ناعم : ده يومهم… وأنا لازم أكون معاهم. وبعدين، حضنك دوا بياخد التعب كله.
هدأت الضحكات قليلًا، وبدأ الكل يلتف من جديد حول الطاولة الصغيرة التي جلس خلفها المأذون، وبجواره عادل.
جلس عادل بثقة هادئة، وملامحه تحكي ألف قصة حب لم تكتب بعد، بينما كانت أميرة تقف خلف الكرسي، تتردد للحظة، قبل أن يلمحها فيرفع رأسه نحوها.
هتف عادل بابتسامة هادئة: هتيجي؟ ولا هنكتب الكتاب وانا بتخيلك يا عروسة؟
ضحكت بخجل وهي تقترب وغمغمت : لا والله، جاية… بس لسه مش مستوعبه
جلست إلى جواره، وعينيها لا تفارق الأرض. لم تكن خجلة منه، بل خجلة من نفسها… من قلبها اللي أخيرًا دق ووجد أمانه.
المأذون بدأ يقرأ…
والكلمات تتردد بصوت مهيب، والقلوب تتمتم معها بالدعاء، كأن الكل يهب قلبه ليحمي هذه اللحظة.
حين انتهى المأذون، قالها بثبات: بارك الله لكما… وجمع بينكما في خير.
أطلقت ونس زغروته من قلبها : ألف مبروك يا أميرة يا حبيبة الكل!
صفقت دمع وهي تدمع: أهو القلب اللي كان مكسور، اتلم… وربنا عوضك أحسن عوض يا ابله …
هتف جبران بصوت أجش : خد بالك منها يا عادل… دي أمانة في رقبتك…
ضحك عادل ورد:دي هحطها تاج على راسي، وجوه قلبي كمان… مش بس رقبتي !
نظر لعيني أميرة بعدها، وغمغم بصوت منخفض لكنه واصل للكل: أنا ماجبتش عروسة النهارده… أنا جبت وطن. واحدة هرجع لها كل ليلة، وأنا عارف إن حضنها بيلم كسري مش بيزوده.
فركت اميره يده بتوتر وهتفت بصوت مختنق :وأنا… أول مرة أحس إني مش خايفة. ولا مكسوفة. ولا حتى ضعيفة.
وفي نهاية الحفل، حين بدأ الجميع في التوديع، وقف رياض يسلم على العائلة، ونظلي إلى جواره.
وهتف بسعاده : إحنا هنضطر نسافر من بكرة الصبح… شغل مهم في الشركة، وهيكون أول بداية جديدة لينا.
ابتسمت نظلي وعيونها مملوءة بالدموع : هتوحشوني أوي… خلوا بالكم من نفسكم، ومن بعض.
ضمتها ونس وهمسة بصوت مليان حب:وخلي بالك إنتي من نفسك… بجد مينفعش نحكم علي حد من غير ما نعرفه ونعاشره يا حبيبتي.. بجد كنتي نعمه السند لجبران والولاد وكنتي احن من اختي عليا في وقت كنت منهاره فيه ..
رتبت نظلي علي ظهر ونس برقه وهمسة: عمري ما هنسي الملاك اللي دخل حياتنا ورجع الحياه في القصر الكئيب ده من تاني انتي يا ونس اكبر مكافأة لجبران بعد صبر وحرمان سنين
هزت ونس راسها ودموعها تنهمر على وجنتيها واقترب جبران وضم نظلي بحب اخوي خالص وهتف : لولاكي كان ولادي ضاعوا مني في زحمه الحزن والكسره خلي بالك من نفسك ولو حسيتي بحاجة مش طبيعية، أو زعلك في يوم اخوكي في ضهرك في ثانية هكون عندك !!
وضعت يدها على فمها وغمغمت بدموع الفرح: وحشني حضنك يا جبران من سنين اول مره احس بيه اوي كده النهارده !!
ربت جبران علي راسها وقبلها بحنو بالغ واقترب رياض وهتف بمرح : كفايه دموع احنا بقالنا عشرين سنه بنعيط …
ضحك الجميع بمرح ..واقترب عادل ومسك يد اميره ومي وهتف بنبره راسيه : نستأذن إحنا كمان… البيت الجديد مستنينا….
هزت اميره راسها ومسكت يده وهمسة : يلا بينا !!
اقتربت ونس وهتفت : حضرتك اخت امي التانيه خلي بالك منها بالله عليك ..
ربت عادل علي راسها بود وقال: ده أنا هشيلها جوه قلبي… مش جوه بيتي وبس ..
ضحكوا جميعًا، وأجواء العائلة اتشبعت بالدفء… مشهد الوداع لم يكن حزينا، بل مشبعا بالأمل.
أحدهم ذهب إلى حياة جديدة، وآخرون ينسجون خيوط حبهم يوما بعد يوم…
لكن الرابط الذي جمعهم جميعًا لم يكن المكان…
بل القلوب التي اختارت أن تحب، وتمنح، وتخلص.
…………………………………….
بعد مرور أربعة أشهر…
في قصر الباشا
صباح هادئ في بيت يشبه الحلم، والشتاء يطرق النوافذ برقة لا تشبه قسوته المعتادة.
استفاقت ونس على صوت أنفاسه المتلاحمة مع دقات قلبها، كما لو كانا كائنا واحدا لا يفرقه سوى الجلد. كانت رأسها تستقر فوق صدره، وذراعه ملتف حول خصرها كدرع لا يخترق.
فتحت عينيها على ضوء رمادي ناعم، وتحركت بخفة حتى لا توقظه… لكنه كان يقظا، منذ أن بدأ جنينهما يتحرك في أحشائها وهو لا يعرف طعم النوم الكامل.
همسة، بصوت مبحوح بندى الصباح:إنت صاحي؟
شد ذراعه حولها أكثر، ودفن أنفه في شعرها، ثم أجاب بصوت غليظ ناعس: لو كنت نايم، كنتي صحتيني بأنفاسك… ريحتك لوحدها بتصحي الدنيا جوايا.
ابتسمت وهي تغمض عينيها ثانية:وانت دنيا جوه دنيتي
حاولت الاعتدال ولكنها تاوهت بالم بصوت خافت
فتح عينيه فجأة، وجلس مسندا ظهره إلى ظهر السرير، ناظرا إليها بقلق لا تخطئه عين: انتي تعبانة ؟ حاسه بايه وجع؟ شد؟ ضغطك؟ حرارتك؟ البنت كويسة؟
ضحكت، رغم ثقل بطنها ووجع خفيف في ظهرها:
كل حاجة تمام… بس في حاجة كنت عايزة أقولك عليها.
تبدلت ملامحه فورًا، بين التوجس والترقب وغمغم :فيه إيه؟
اقتربت منه بصعوبة، ووضعت يدها فوق يده التي تستقر على بطنها:آمل… فرحها النهاردة، وعايزه أروحه.
تجمدت يداه، وعيناه اشتعلت بنار لا رحمة فيها.
صمت… صمت رهيب، تلاه صوت كالهدير:انتي بتهزري؟!
هزت ونس راسها بهدوء وردت : لأ، بكلمك بجد… نفسي أروح، أفرحها، وأفرح أنا كمان…
نهض من الفراش كمن لدغته نار، وبدأ يسير في الغرفة ذهابا وإيابا، يكاد يمزق شعره بيده وهتف بغضب :بطنك ادامك داخله في الشهر التاسع، ضهرك مش مستحمل، رجلك بتورم، وبتقوليلي عايزة تروحي فرح؟! فرح؟! ده أنا ما مش قادر أسيبك تقومِ تشربي مية من غيري!
نهضت واقتربت منه ببطء، ووضعت يدها على صدره المرتجف وهمسة برقه :أنا محتاجة أفرح… مش كتير. نقعد شوية ونمشي… وأنا اوعدك، أول ما أحس بأي حاجة، هنمشي فورًا.
مسك جبران رأسه وغمغم : ونس… لو حصلك أي حاجة… لو بنتي جرالها حاجة… أقسم بالله هموت. أنا مش حمل ألمك، ولا حمل ثانية خوف. أنا بقيت مرعوب من الزمن… مرعوب حتى من نفسك لما تتعبي وما تقوليليش!
ربتت ونس على وجنته وهمسة: أنا مش هكسر قلبك، ولا عليا ولا علي بنتك… بس مش عايزة أعيش تسعة شهور في قلق وموت بطيء، وأفوت اللحظات الحلوة. مش كل حاجة لازم تكون خوف. فيه حاجات تستاهل نعيشها، حتى وإحنا خايفين.
نظر الي دموعها التي توقفت خلف جفونها، لكنها لم تسقط.وهو يغلي، كمرجلٍ يحتبس فيه العشق والجنون والقلق. ثم همس بصوت متهدج:لو حد بصلك… لو تعبتي لحظة… لو اتكعبلتي حتى… أنا هقتل أي حاجة تمشي على الأرض.
ضحكت من بين دموعها: طب هلبس فستان أحمر علشان تراقبني أكتر.
اقترب منها، ثم مال على بطنها وقبلها بحنان هستيري:
ماشي يا مجنونة… بس لو حسيتي بدوخة، صداع، حاجة غريبة… تقوليلي فورًا….وإحنا مش هنقعد أكتر من ساعة.
وهنقعد قريب من الباب. ولو في صوت عالي، نمشي.
اومات ونس وقالت : كل اللي تقول عليه… بس تاخدني.
سحبها لحضنه فجأة، ودفنها فيه كما لو كان يحاول أن يخفيها من العالم: انتي دنيتي… مش هستحمل أفقدك، يا ونس روحي.
……………………………….
في قاعة أفراح
الأنوار تلمع في كل ركن، الموسيقى تنساب بسحر ناعم، والضحكات تعلو بين المدعوين كأنها موجات فرح تحاوط قلب القاعة.
دلفت ونس تمشي بجانب جبران، مرتدية فستانا ناعما بلون العاج، بطنها المنتفخة تظهر بوضوح، لكن تألقها خطف الأنفاس، كما لو كانت أميرة تحمل طفل ملك في أحشائها.
كان جبران متشبثًا بها، عينه لا تتركها لحظة، وكل خطوة يخطوها معها وكأنه يسندها بقلبه قبل ذراعه.
في طرف القاعة، وقف هاني، يعمل مؤقتا ضمن فريق التنظيم بعد أن انتهى به الحال في شركات المناسبات، بعد طرده من فندق الباشا من شهور طويلة، وكل مكان يذهب إليه كان أقل شأنا من سابقه.
وها هو اليوم، يراها… من أراد تشويه سمعتها وإلق الباطل عليها لكنها لم تعد كما كانت.
شهق بدون وعي، وجحظت عيناه وهو يراها تمسك يد جبران الباشا، الرجل الذي طرده، الرجل الذي لوح له بالهاوية وألقى به فيها.
همس لنفسه بصوت مكتوم : هي دي؟… لا، مستحيل…
حاول يركز أكتر، قرب من طرف القاعة، لكن الطاولة التي واقف وراها غطت جزء من الرؤية، فتحرك خطوة، حتي راي المشهد كامل.
ونس… حامل… فستانها مش سايب حاجة للشك، واللي ماسك إيدها هو… جبران.
وقف يشاهد بذهول وعدم تصديق، كأن الزمن قرر يعاقبه بمشهد لم يكن يوما يتوقعه …
اقترب من وائل الذي يضم امل بين أحضانه ويرقص بها وغمغم : عايزك ف كلمتين قبل ما تمشي !!
نظر له وائل بدهشة وقال: جاي وراك ..
انصرف هاني خارج القاعه وبعد قليل تبعه وائل وهتف ؛ في ايه مالك في اي؟!
أاقترب منه هاني بحنق مكتوم وهتف :أنا فرحت لما لقيت عروستك وحده تاني غير ونس.. تقوم تطلع ونس متجوزه جبران !! جبران الباشا مره واحده …
لكزه وائل بغضب شديد وهدر بعنف : بقلك ايه أنا مش قلتلك قبل كده متجبش سيرت اي بنت معايا…
وبعدين اسلك يالا وصفي ضميرك ..يمكن ربنا يكرمك !!
انصرف وائل الي الداخل وهاني ينظر في أثره بذهول وكلماته تنخر في عقله بدون رحمه ..
انصرف هاني همس، كأنه يعترف : أنا الوحيد اللي خسرت كل حاجة… عشان قلبي وسخ ولساني أطول من ضميري
خرج من بين الأضواء كظل مهزوم… في السكة اللي هو اختارها زمان.
كانت الموسيقى تهدأ قليلًا، ونس أسندت ظهرها على الكرسي المذهب، أنفاسها متلاحقة، تحاول التقاط بعض الراحة بعد رقصة لم تستطع جبران مقاومتها فيها… رغم ثقل جسدها وآلام الحمل، لكنها كانت تبتسم، لا لشيء، سوى لأن الحب الذي تغرقها فيه الحياة، كان كافيا ليرفعها فوق الألم.
اقتربت منها أمل، بثوبها الابيض الناعم وعيونها تلمع بفرحة ليس لها حدود، وجلست بجانبها، وعيونها مش قادرة تبطل تبص على بطن ونس المنتفخ.
همسة امل بنظره حنان : مش قادرة أصدق… إنتي هتبقي ماما، يا ونس! انتي؟ اللي كنا بنهرب من الحصص سوا؟!
ضحكت ونس بصوت خافت،وغمغمت بنبرة ناعمة:
ولا أنا مصدقة يا أمل… ولا مصدقة إنك بقيتي مرات وائل! شوفي الدنيا خدتنا ازاي؟ كأننا صحينا لقينا نفسنا وسط حلم كبير.
ردت أمل: بس الحلم اتحول حقيقية… وربنا عوضنا، أهو! انتي أخدتي جبران الباشا، وأنا أخدت احن قلب في الدنيا !!
ضحكت ونس بخفة، لكن عيونها ارتجفت لحظة، كأن الذكرى القديمة جت في طرف المشهد.
وهمسة بصوت خافت : فاكرة لما كنتي بتعيطي عشان فاكرة إن مفيش راجل ممكن يحبك بجد؟
هزت أمل راسها وعيونها بتلمع : فاكرة… وكان أكتر حلمي إني ألاقي حد يشوفني أنا، مش شكلي، مش وضعي، مش مين حواليا… بس يشوفني أنا.
ردت ونس بحنان :اهو وائل شافك… زي ما جبران شافني… بعد سنين من الحرمان والخوف والجرح.
سكتت ثانية، وبصت على بطنها، ومسحت عليه بإيدها.
وهمسة بصوت مخنوق بالعاطفة: عارفة يا أمل؟ لما شفت عيون جبران أول مرة حقيقي، من غير حواجز، حسيت إني مش لوحدي… حسيت إني أخيرًا لقيت اللي يحتويني… دلوقتي وأنا حامل روحه جوايا، أنا مش بس حبيته، أنا اتحولت له.
اخذت أمل نفس طويل، ومدت إيديها ومسكت إيد ونس، ضغطة خفيفة لكن دافيةوهمسة بابتسامة دافية:
أنا فخورة بيكي… وفخورة بنفسي إننا عدينا، واتجرحنا، ووقفنا… وحبينا صح.
اومات ونس بعين دامعة: وإنتي دايما في ضهري، من أول وجعة لحد أول زغرودة.
ضحكوا الاتنين، والفرح كان حواليهم عالي، لكن جواهم، كان فيه سكون ناعم… سكون الحب الحقيقي، اللي اتولد من حطام، واتربى على الإيمان.
……………………………
ف اليوم التالي
ف بيت المزرعه
كان الليل قد بسط رداءه على المزرعة، والصمت يلف الأرجاء، لا يسمع فيه سوى صوت حفيف الأشجار، وأزيز الحشرات المتوارية خلف ستائر الطبيعة.
كأن جبران غارق في نوم ثقيل، جسده منهك من السفر، وروحه مرهقة من الشوق، لكن ضحكة رنانة اخترقت سكون الليل، ناعمة، دافئة، مألوفة حد الانتماء.
فتح عينيه بتثاقل، ثم اعتدل فجأة، الحواس كلها تيقظت في لحظة واحدة. : ونس؟!
همس لنفسه، قبل أن ينهض بخطوات بطيئة نحو مصدر الصوت.
خرج من الغرفة، متجهًا نحو الصالة الكبيرة، وهناك كانت المفاجأة.
كانت ونس جالسة على الأرض، ملامحها مشرقة كقمر منتصف الشهر، والجهاز في يدها، تلعب بحماسة أمام شاشة التلفاز، وإلى جوارها ولد صغير، في العاشرة من عمره تقريبًا، يقفز ويهلل كلما ربحت هي الجولة.
صرخ الطفل بحماس: يااااه، إنتي جامدة جدًا! دي تالت مرة تكسبيني! أنتي كنتي بتلعبي قبل كده؟
ضحكت ونس بكسره : ولا عمري لعبت اصلا
اقترب منها الطفل وغمغم بحماس طفولي :
اهو البيبي اللي في بطنك ولد ولا بنت؟
ضحكت ونس وداعبت شعره وقالت : بنوته زي القمر !!
ضحك الطفل بعيون واسعة: طب هو جوه بطنك ضلمة؟
ضحكة ونس بصخب وقالت :امممم، أيوه ضلمة شويه… بس في نجمة صغيرة بتنورله كده زي كشاف في أوضتك
تفاجأ الصبي وقال : إزاي مش بتخاف وهي لوحدها ؟!
اومات ونس ببراءة صادقه : عشان سامعه صوت قلبي… وصوت قلبي بيطمنها، كأنه بيغنيله كل يوم.
هتف الصبي باندهاش: طب ممكن… أدخل أبص عليه؟ أشوفه قاعد إزاي؟
ضحكة ونس بمرح وقالت : لأ يا حبيبي مينفعش، اديلها يومين كمان وهي هتزهق من القعدة دي وتطلعلك بنفسها
وفي تلك اللحظة، خرج جبران من وقفته خلف الباب، يراقب المشهد بعينين مبتسمتين، وقلب يفيض دفئًا.
وهتف بصوت مبحوح من الضحك: إنتي اتجننتي رسمي! بتلعبي بلايستيشن مع عيل صغير وبتحكي حكايات عن كشاف جوا بطنك؟!
نظرت له بدهشة وقالت: ماهو حضرتك سبتني ونمت… ألعب مع مين؟ ده طلع ند قوي على فكره!
اقترب منهم وجلس علي الأريكة وهتف : ند إيه بس… سيبي البلايستيشن وتعالي نلعب سوا.
ضحك الصبي وقال: :حضرتك يا عمو هتلعب معنا ؟ يلااااا، أنا وونس فريق !
رفع جبران حاجبه وتمتم: فريق انت وونس؟! ده أنا هغلبكم لوحدي!
ضحكت ونس وقالت : وانا هعملكم فشار
ضحك الصبي وقال: وانا هقول لتيته عشان متخفش عليا
هرول الصبي وهتف جبران : مش ده ابن ابن عم رضا السايس
اومات ونس وقالت: اه هو يا حبيبي
مر الوقت وجلس الثلاثة يلعبون، والليل يتهادى من حولهم، كأنه يحتضن تلك اللحظات الصغيرة التي تخزن في القلب، كذكريات لا تُنسى.
ضحك، ومنافسة، وحنان…
وكان كل شيء في تلك الليلة يشبه الحياة كما تمنتها ونس ذات مرة:
بسيطة، عميقة، ودافئة… مليئة بجبران.
……………………………..
مر أسبوعان كلمح البصر منذ تلك الليلة التي ضحكوا فيها حتى نامت ونس على كتف جبران، وروحه تهدهد أنفاسها بحنو لا يقارن.
وحل اليوم المنتظر…فاليوم عيد ميلاد جبران الباشا، الذي لم يعر أعياد الميلاد اهتمامًا من قبل، لم يكن يتوقع أن تتحول تلك المناسبة البسيطة إلى حدث استثنائي… تقوده يد ونس الصغيرة، المليئة بالدهشة.
كانت الشمس لا تزال تتسلل برفق من بين الستائر، حين استيقظ ليجد السرير خاليا.
تنهد وهو يمسح وجهه بكفيه: يا بنتي نامي شوية بقى… هو انتي اتجننتي؟!
خرج يبحث عنها، وقف جبران علي اول الدرج ، ضيق عينيه، وابتسم رغم الضيق الذي يعتري قلبه
كانت الفيلا تعج بالحركة في هذا الصباح الهادئ، لكن داخله كانت هناك همهمات خافتة، ولمسات ناعمة ترتب تفاصيل صغيرة بحب كبير.
كانت ونس، تقف في المطبخ شعرها مرفوع بعشوائية، ترتب قالب كيك بنفسها، وبطنها الكبيرة تتحرك مع كل نفس.حولها بالونات معلقة، وشريط كتب عليه: “كل سنة وأنت الحياة اللي خلت عمري يبتدي. كانت تشير هنا وتعدل هناك، تنسق مع العاملة آخر لمسات الحلوى، رغم ملامح الإرهاق التي تغلّفت بها عيناها.
في الطرف الآخر، كانت دمع تكتب كلمة صغيرة تعلق بجوار الزينة، وسليم يبتسم وهو يحمل صندوقًا صغيرًا فيه هدية مغلفة وهتف : بقولك يا ونس، إنتي متأكدة إنك قادرة تعملي كل ده؟ أنتي في التاسع، يعني أي حركة زيادة خطر.
التفتت له ونس بابتسامة مرهقة:ما تقلقش يا سليم، دمع وجيلان مش سايبيني أتحرك خطوة من غيرهم… أنا بس عايزة أفرحه النهارده. جبران أول مرة يحتفل بعيد ميلاده وهو متجوز… ومراته حامل… لازم يكون يوم مختلف.
جيلان كانت ترتب البالونات وهي تضحك:يوم مختلف بس من غير ما تولدي في نص المفاجأة! خلي بالك من نفسك يا ونس، انتي بتغشي في الشغل كده!
ضحكت ونس: ماهو لو فضلت قاعدة، هزهق. خلوني أشارك ولو بحاجه بسيطه
اقتربت منها دمع، وضعت يدها على بطن ونس بحنان:
بس أول ما تحسي بتعب، تقولي علي طول … وعد؟
اومات ونس وهمسة : وعد.
رن صوت ضحكة ناعمة في المكان، تبعه دخول العاملة وهي تحمل كيك الشوكولاتة المزين: جهزت التورتة يا هانم، تحطي الشمع دلوقتي؟
هتفت ونس : استني لما يدخل الباشا ، هنولع الشمع سوا.
شهقت بخفوت عندما ناداها بصوته الغليظ: ونس
لفت عليه، وعينيها تلمع من الفرحة:صحيت؟ كنت عايزة أعملك مفاجأة قبل ما تصحى.”
نزل الدرج بسرعه وهدر بعنف : مفاجأة إيه يا ونس؟ وانتي تعبانه يا قلبي كده !هو يوم ميلادي مهم اوي كده
هزت راسها بتأكيد وردت : أكتر من كده كمان… ده أول عيد ميلاد ليك وأنا مراتك… وحبيت أعيشه معاك زي ما كنت بحلم.
اقترب منها، ومسك يدها،وهتف بصوت حاد وقلق:
بس انتي تعبانة… كل ده وانتي في الشهر التاسع، واقفة وبتتحركي ورايحا جاية؟ إنتي ناسية إنك ممكن تولدي في أي لحظة؟!
ربتت علي وجنته وقالت بحنان : ماهو عشان كده… كنت عايزة أفرحك قبل أي حاجة، يمكن يحصل حاجة وأنا ماعملتش حاجة تفرحك.
نظر إليها جبران، ونيرانٌ صامتة تتراقص في عينيه، مزيجًا من القهر، والخوف، وشيءٌ أشبه بانكسار الرجاء. لم يستطع كتم غضبه، ذلك الذي تشكل من حبٍ مكلوم، فاقترب منها هامسًا بصوت خنقته الحسرة:أنا مش عايز فرحة لو فيها تعبك… مش عايز غيرك إنتي، تكوني بخير، فاهمة؟!”
كادت أن تفتح فمها، أن تنطق، أن تواسيه، لكنه أدار رأسه عنها بيأسٍ موجع، وتراجع بخطًى ثقيلة كأن كل خطوة تغرز خنجرًا في صدره. تركها، وانصرف خارج الفيلا، يحمل على كتفيه كل ما بها من وجع.
جمدت في مكانها للحظات، ثم وضعت ما بيديها، وتحركت خلفه بخطوات بطيئة، كأن الهواء ثقيل، كأن الألم يسحبها إلى الأرض. عيناها لا تفارقانه، حتى رأته يدلف إلى الإسطبل، فتابعته بصمت.
دلفت خلفه دون صوت، وكأنها لا تريد أن تزعج حتى صهيل الخيول. اقتربت منه، وربتت برقة على منكبيه. نظر إليها، فالتقت عيونهما… كان الألم يسكنهما معًا. دموعها تلمع فوق جفنيها المرتعشين، وهمسة بصوت مرتعش:حبيبي… أنا مش بحب تزعل مني، وأنا كويسة أوي والله.
نظر لها بحنان غاضب يطفو على قسماته، وهتف بوجع:
أنا شايفك… شايف التعب على وشك، وجسمك! إنتي فاكرة إني مش حاسس بيكي طول الليل؟!
مدت يدها، ووضعتها فوق صدره، ثم أسندت رأسها عليه كأنها تلتحف به من كل شيء. همسة بخفوت كأنها تخاطب روحه: التعب… وأنا حامل بيبي منك؟ ده أحلى تعب في الدنيا يا جبران.
ابتسمت ابتسامة باهتة، ووضعت يدها على بطنها بحنان. لكن ما إن لامستها، حتى تقلصت ملامحها فجأة بألم قاتل، وهمسة بأنين موجوع: آااه… جبران…
جحظت عينا جبران برعب مفاجئ، واقترب منها بسرعة، طوق خصرها بذراعيه، احتواها كمن يحاول إنقاذها من الغرق، وصاح بصوت مرتجف: في إيه؟ مالك يا قلبي؟!
قبضت على قميصه بكل ما تملكه من ضعف، ثم صرخت بوجع مفزع، وفي اللحظة ذاتها، شعر جبران بدفء غريب يغمر ساقيه… ماء دافئ، اندفع فجأة من أسفلها.
تهاوت على الأرض، فازداد صهيل الخيل من حولها، كأنها تشاركها الألم، كأنها تشهد على لحظة فارقة من الحياة.
ارتعد قلبه، وهتف بصدمة: دي… دي ولادة يا ونس!
صرخت بألم يخترق القلب، العرق يقطر منها، ودموعها تملأ وجهها: آآه… بطني هتتفجر… وضهري!!
ركض عم رضا، السايس العجوز، وهو يصرخ بهلع: إيه يا باشا؟! الهانم بتولد؟!
رفعها جبران بين ذراعيه بقوة يائسة، صوته متهدج، مجروح: آه… لازم دكتور… بسرعة! مفيش وقت… نروح المستشفى!
ركض العم رضا، بينما تحرك جبران بونس نحو الفيلا، وصوتها يسبقها، يملأ أرجاء المكان وجعًا. اجتمع الجميع في دهشة ممزوجة بالفزع، وصاحت دمع باكية: ونس؟! إيه اللي حصل؟! يا لهوي… دي بتولد!
تراجعت جيلان برعب، وضعت يدها على فمها، ودموعها تهبط على وجنتيها وهي ترى الألم الذي يفتك بونس
اقترب سليم،و سحب باب الغرفة بسرعة، ودخل جبران بها، وجنونه يسبق أنفاسه، وهي تصرخ بين يديه، تحتضر حبا وألما: عايز دكتورة من تحت الأرض! بسرعةاااا!
ركض سليم، قلبه يدق بعنف لا يهدأ، واندفعت نعمة، زوجة عم رضا، بغطاء تلقيه فوق جسد ونس المرتجف، وهتفت: ده طلق حامي، يا باشا! المايه نزلت، لازم تولد دلوقتي!
صاحت دمع، تمسك بونس وتنتحب: اتصرفوا! عايزين دكتور بسرعة!
ضم جبران رأس ونس إلى صدره، صوته مخنوق: اهدي… سليم هيجيب دكتورة حالًا…
اندفعت نعمة من جديد، تصرخ:رضا جاب الدكتور عبد الله… ابني، يا باشا! هيولد الهانم!
صاحت دمع بنحيبٍ حاد: خليه يدخل… بسرعه!”
لكن جبران انتفض، صرخ بصوت قاطع: لأ! دكتور؟ إزاي؟ لازم دكتورة!
تعلقت به ونس، وصرخاتها تشق السكون، وعيناها تستنجدان به: جبران… مش وقته… سيبه ينقذ البيبي… أنا بموت!
دخل الطبيب، وهتف بصوت حازم: يا جماعة مينفعش كده… اتفضلوا بره، لازم أبدأ فورًا!
وقف جبران، كأن أحدهم سلب منه عقله: مين يطلع بره يا بني آدم؟! شغل إيه ده اللي عايز تشوفه؟!
صرخت دمع بذعر: بابا… الدكتور هيولد ونس!
لكن جبران، كمن يتشبث بقشة وسط طوفان: لأ… سليم راح يجيب دكتورة!
اقترب الطبيب من ونس، وهدر بصوت حازم: الهانم مش هتستحمل لما الدكتورة تيجي!
تقدم جبران، احتضن ونس بقوة كأنها آخر ما يملكه،
صرخ بهستيريا: أنا مش هسيبها!
توسلت إليه ونس، عيناها متورمتان من الدمع: جبران… مش وقته… سيبه يلحق البيبي…”
تراجع بخوف، دموعه تتقاطر، ثم صاح: يلا! شوف شغلك بسرعة!
اقترب الطبيب، بدأ مساعدته لها، وهتف: اتنفسي لتحت يا مدام!
هزت رأسها بوهن، وكتمت صرختها للأرض، بينما الألم يمزق أحشاءها. صرخت، وملأ صوتها المكان.
قبض جبران على يدها، وهمس بدموع: هانت يا روحي… شدي حيلك يا ونس…
مسحت دمع العرق من جبينها، هتفت: يلا يا ونس… يلا يا روحي… كمان مرة!
أومأ الطبيب: برافو… كده، اتنفسي لتحت… اكتمي الصرخة! ساعدي البيبي معايا!
كتمت ونس نفسها، وضغطت، وصرخت من عمق أعماقها، حتى شق صراخ جديد الغرفة… بكاء ناعم… أول شهقة لطفلتها.
تجمد جبران، تجلدت روحه، ثم انحنى يقبل وجنة ونس، احتضنها بقوة وهمس: مبروك… يا قلبي…
هتفت دمع بدموع متدفقة: الحمد لله… أخيرًا… قلبي كان هيقف!
سلمهم الطبيب الطفلة، ضمّها جبران كأنها كنز عاد إليه بعد تيه، عيونه تلمع بفرحة لا عهد له بها. قبلها على جبهتها، وقربها من ونس، وهمس: شوفي يا ونس… جميلة إزاي؟ بنتي… حتة مني ومنك، يا حبيبي…
نظرت لها ونس، عيناها غائمتان بالدموع، وهمسة بوهن:
تجنن… يا جبري… حلوة أوي…
ضمتها، وتنهدت ببطء، وضمهم جبران معًا.
ثلاثة قلوب… في حضن واحد، تحت سقف شهد على الحياة تولد من قلب الرماد.
صرخت دمع فجاه بصوت ممزق، والألم يعتصرها، وضعت يدها على بطنها وشهقت كأن روحها تنتزع من جسدها، ثم صاحت بانهيار: آااه… إلحقوني! بطني بتتقطع!!
انتفض جبران من مكانه، وونس صرخت بذهول ودموعها تتساقط: يا نهار إسود… دي لسه ف السابع! إلحقها يا جبران!!
اقترب منها جبران على الفور،، واحتضنها وهو يهتف بجزع: إهدي يا دمع… ماتخافيش يا بابا، أنا جنبك.
تعلّقت به دمع وهي تتحايل عليه بصوت منهك ودموع لا تتوقف: لااا… مش قادرة! عايزة سليم… يا بابا ناديله، عايزة سليم!!
اندفع الطبيب ناحيتها بسرعة، كشف عليها بسرعة وغمغم بجدية: لازم مستشفى فورًا… دي ولادة مبكرة وهي في السابع.
بدأت دمع تنحب وتنتفض من شدة الخوف، تمسكت بـ ونس وهي تصرخ بهلع: إلحقيني يا ونس… أنا خايفة أوي!!
أمسكت ونس يدها، ضغطت عليها بقوة وهي تهتف بوهن: متخافيش يا قلبي… ربنا هيقومك بالسلامة، بس إهدي… إهدي عشان البيبي.
حملها جبران بين ذراعيه بسرعة واندفع للخارج، والطبيب خلفه.
وفجأة، وجد سليم أمامه ومعه الطبيبه ، ركض نحوه ووجهه شاحب، وهتف برعب: مالها يا بابا؟؟
ناولها له جبران بسرعة وهتف بأمر لا يقبل التردد: اجري يا سليم على المستشفى… دمع بتولد!
تلقفها سليم بين ذراعيه، صوته يرتجف: إييييه؟! دي لسه في السابع!
قال الطبيب بجدية لطمأنته: بتحصل يا باشا… دي ولادة مبكرة بس هنلحقها إن شاء الله.
وقف سليم متجمدًا في مكانه للحظة، عقله متوقف عن العمل، إلى أن صرخ فيه جبران: إجرررري يا ابني! اتحرك!! صوتها بيقطع القلب!!
هز رأسه وتمتم: حاضر… آه حاضر!
وانطلق يجري بأقصى سرعته نحو أقرب مستشفى.
عاد جبران إلى الداخل، اقترب من ونس وقبل جبينها، همس بحنان: هاروح مع سليم… الموقف كبير عليه، باين عليه تايه. خلي بالك من نفسك يا حبيبتي، مش هتأخر.
أومأت برأسها وهمسة بقلق: طمني يا جبران… أرجوك.
هز رأسه بتأكيد وهمس: حاضر، بس اهدي ومتشيليش هم.
نظر إلى نعمة وهتف بجدية: خلي بالك عليها، ولو حصل أي حاجة كلميني فورًا.
أشارت بيدها سريعًا:حاضر يا باشا… في عنيا الإتنين.
أومأ برأسه للمرة الأخيرة، رمق ونس بنظرة عشق، ثم خرج مسرعًا.
………………………………………
في المستشفى بعد وقت قليل
وقف سليم أمام غرفة العمليات، وجهه شاحب، وعيناه تدمعان من الرعب.
إلى جانبه جيلان وآدم، اقترب منهم جبران وهو يلهث:
إيه الأخبار؟! ولدت ولا لسه؟
هز سليم رأسه بنفي، صوته مخنوق: لسه… خدوها جوه، قالوا هتولد قيصري، ولادة مبكرة.
ربت جبران على منكبه وجذبه لحضنه وهو يهمس بثبات:
متخافش يا سليم… ربنا هيقومها بالسلامة إن شاء الله.
تمسك به سليم كطفل صغير، صوته مختنق: يارب يا بابا… يارب.
مسحت جيلان دموعها بطرف يدها، ارتجفت، فاقترب منها آدم وربت على رأسها وهمس: متخافيش يا جيلان… إن شاء الله هتقوم بالسلامة. إدعيلها.
أومأت برأسها وهمسة بخوف: يارب يا آدم… دي كانت تعبانة أوي، خوفتني من الجواز والخلفة والولادة.
ضحك آدم وهمس بمزاح: يا عبيطة! ده مفيش أحلى من الجواز والخلفة!
نظرت له بدهشة، فغمز لها بعبث.
مر وقت طويل… ثم خرج الطبيب أخيرًا
هتف الطبيب ببسمة مرهقة: الحمد لله… ربنا قامها بالسلامة. ألف مبروك يا جماعة!
شهق سليم واقترب من الطبيب وهتف بفرحه وسعاده: بجد طيب ينفع اشوفها والولد كويس ؟!
اوما الطبيب برأسه وقال: هي كويسه اوي.. بس الولد هيدخل حضانه كام يوم بس صحته كويسه هننقلها اوضه عاديه وممكن تشوفوها !!
بعد قليل، تم نقل دمع إلى غرفة مزينة بالورود والبالونات البيضاء.
جلس سليم جوارها، يمسك يدها برفق، حتى بدأت تتحرك ببطء وتتمتم: آااه… سليم؟
اقترب منها، قبل جبينها، تمتم بحب: روح قلب سليم .. حمد لله على السلامة يا قلبي.
فتحت عينيها ببطء، وضعت يدها على بطنها وهمسة: أنا… أنا ولدت؟!
اقتربت جيلان وهتفت بسعادة: مبروك يا ديمو! جبران الصغير وصل بالسلامة.
نظرت لهم بدهشة وهمسة بوهن:بجد؟! أنا ولدت خلاص؟
ضحك سليم بمرح: الحمد لله يا قلبي… الصعب كده راح.
أغمضت عينيها بتعب، ارتمت في حضنه، تمسكت به وهمسة: عايزة أشوفه…
هز رأسه بحنان: هو في الحضانة عشان اتولد قبل معاده بكام يوم… وهيبقى زي الفل إن شاء الله.
أومأت برأسها بوهن، أغمضت عينيها من جديد، فربت على رأسها وهمس: ارتاحي… ارتاحي يا قلبي.
………………………………
بعد مرور عام
وقف آدم أمام الجامعة مرتديًا بدلته الرسمية، فبدا وسيماً بحق. اقتربت منه جيلان تنظر إليه بانبهار تحول لغضب وجنون، حين لمحت نظرات الفتيات الملتصقة به وكأنهن يوددن التهامه بأعينهن.
لكزته بقوة وصاحت بانفعال:إنت جاي ليه يا آدم؟!
نظر لها ونزع نظارته وهتف بحنق: هي دي الحمد لله على السلامة؟! ده أنا بقالي تلات شهور غايب عنك يا جيلان!
نظرت له بحنق ولكزته مجددًا، وهي تشير إلى السيارة:
افتح العربية واطلع… قبل ما يكلوك بعينيهم!
ضحك بمرح ومال نحوها، وهمس بمكر:بتغيري اوي كده يا جيجي؟
لكزته بخفة وهمسة بصوت خافت: اطلع يلا… بدل ما أقتلك!
هز رأسه وضغط على زر فتح السيارة، صعدت هي أولاً، ثم لحق بها، وأغلق الباب. انطلق بها بسرعة وهو ينظر إليها بعشق ممزوج بالعبث، وغمغم: خلاص بقى يا قلبي… فكي بقى.هنضيع الاجازه في الخناق من اول يوم ؟؟
نظرت له بحنق ممزوج بالغيرة وهتفت: قلتلك ألف مرة ما متجيش بالبدلة دي عند الجامعة! البنات كلها بتبصلك! واصلا انت اللي عملت فينا كده لما رجعت الجيش بمزاجك !!!
ضحك بمرح وغمغم: يعني من غير البدلة مش بيبصولي يا بت؟!وبعدين انتي عارفه انا كده مرتاح اكتر وعجبك كمان !!
هزّت رأسها نفيًا وهمسة: بالبدلة بتجنن يا آدم… أكتر!
ضحك مجددًا وقال بتحدي: طالما كده… مش هقلعها أبدًا!
لكزته بقوة وصاحت بصوت مكسور ودموعها تلمع بعينيها:يا قليل الأدب! إنت عايز البنات يبصولك؟! هو أنا مش مالية عينك؟!
ضحك بصخب وهتف: يا بت ما انتي بنت برضو! وعايزِك تدوبي فيا كده!
تراجعت جيلان إلى آخر الكرسي، وقالت بغضب:بقى كده؟! طيب، أنا مخصماك… ومش هكلمك أبدًا!
وصل آدم أمام البوابة القصر ، وصف السيارة، واقترب منها وهمس: إزاي يا بت وأنا ناوي أطلبك رسمي النهارده؟! وعشان كده لابس البدلة دي… والباشا مستنيني جوه، وأنا جاي فـ معادي مظبوط!
شهقت جيلان بمفاجأة، وألقت بنفسها في حضنه، فضمها بشدة وهمس لها: هتجوزك يا جيجي… أخيرًا!
لكن اللحظة تحطمت بصوت سليم الغاضب، يهدر بقوة:
ـ آآآآآدم!! جييييييلان!!
انتفضت جيلان من بين أحضان آدم، ونظرت إلى سليم برعب، بينما نظر له آدم بحدة وهمس: هيفهم غل غلط الحيوان ده انا عارفه !!
اقترب سليم وضرب سطح السيارة الأمامي وهدر بعنف:انزل! يا صاحب عمري… إيه اللي بتعمله في أختي؟! انزلوا!
ترجل آدم وخلفه جيلان، وهتف بهدوء: سليم… بلاش تهور! الحكاية مش زي ما انت فاهم!
اندفع سليم بغضب، وقبض على ياقة سترته وهدر:حكاية إيه؟! دي فيها حكاية أصلًا؟! بتحضن أختي في الشارع؟! وأنا اللي كنت بثق فيك؟! تخوني كده؟!
هز آدم رأسه نفيًا، وأشار لجيلان أن تدخل القصر، ركضت الي الداخل وهي ترجف ونظر آدم الي سليم وقال: لا يا سليم! أنا بحب جيلان… من سنين!
لكن ضربته القوية قطعت جملته، تلقاها آدم على أنفه وهو يصرخ: كمان ليك سنين مقرطسني؟! وإيه كمان؟! حصل بينكم أكتر من حضن ولا ايه ؟! وجيلان العيله بتضحك عليها … بتحضنك في الشارع!
وضع آدم يده على أنفه، وهتف: انت أكيد اتجننت! جيلان ما تعرفش حاجة في الدنيا! واخدة عليا عشان بتحبني واطمنت لي… مش أكتر! أنا بحبها… وبحافظ عليها زيك وأكتر، وعايز أتجوزها!
دفعه سليم بقوة وهتف:عشم إبليس في الجنة يا آدم! مستحيل آمنك تاني… مستحيل تتجوزها!
قبض آدم على ياقة قميصه وصاح: ليه؟! إيه مشكلتك معايا؟! أنا بحبها… وهي بتحبني!
اشتد الخناق بينهما، تمسكوا ببعضهم بغضب، حتى شق الهواء صوت حاد: إيه اللي بيحصل هنا؟! إنتوا اتجننتوا؟!
اقترب جبران وفصل بينهما، نظر إلى أنف آدم بحنق وهتف:إيه اللي بتعملوه ده؟! إنتو جرالكم إيه؟!
صاح سليم بغضب وعروقه بارزة: طالِع بالصدفة… ألاقي البيه بيحضن أختي جوه العربية! في الشارع! كأنها بنت شمال!
دفعه آدم بحدة وهتف: ما تقولش عليها كده! مش هسمحلك يا سليم!
توقف جبران بينهم، ونظر إلى آدم بنظرة نارية وهتف:
ده حصل يا آدم؟!
نظر له آدم وهتف بجدية: حصل، حضرتك عارف إني بحبها…
قاطعه جبران بحسم: مش معنى كده إنك تقرب منها يا آدم! أنا وثقت فيك… وانت ما كنتش قد الثقة دي!
هز آدم رأسه وقال بانفعال: يا باشا أنا ما…
قاطعه جبران بصرامة: حصل إيه تاني يا آدم؟!
هتف بدهشة ونزق: محصلش أكتر من كده! أنا بحبها… وبحافظ عليها!
هز سليم رأسه بسخرية: مش باين! لا بتحبها ولا بتحافظ عليها يا آدم!
صرخ آدم : ليه؟! هو انت عمرك ما قربت من دمع غير بعد الجواز؟!
غمغم سليم بانفعال: دمع مش أخت صاحبي! ولو كانت أخت صاحبي… كنت أول واحد أفتح معاه الموضوع، مش أحب أخته من ورا ضهره! وعشان كده يا آدم… مستحيل تتجوز أختي!
صاح آدم:هتجوزها يا سليم! غصب عنك!
قبض سليم على سترته بجنون، وقبض آدم على عنقه، حتى دفعهم جبران بقوة وهدر:وبعدين فيكم! مش محترمين بعض؟! بس هتحترموا وقوفي بينكم… غصب عنكم!
نظر جبران إلي آدم وهتف بجديه: روح يا آدم دلوقتي وبعدين نتكلم !!
دفع آدم سليم بحنق، وغمغم وهو يصعد السيارة: ماشي… أنا همشي، لحد ما تعقل يا سليم! بس هرجعلك تاني!
انطلق آدم بالسيارة غاضبًا، بينما سليم ينظر خلفه بحنق، ثم ركض نحو سيارته وانطلق من اتجاه آخر. وقف جبران يحدق في الفراغ، ثم دلف إلى الداخل بغضب.
مر وقت قصير…
وتجمعت العائلة حول قالب الكيك في احتفال بعيد ميلاد مهرة جبران الباشا…وجبران سليم الباشا ..
لكن دون آدم أو سليم.
كان قالب الكيك في المنتصف، بسيطًا في شكله، لكنه يحمل من الرمزية أكثر مما يرى بالعين. وعلى ضوء الشموع المتراقصة، وقفت العائلة، كل يحمل قلبا يضج بالحكايات.
اقترب جبران من ونس وضمها بحضنه وشدد عليها وهمسة: كل سنه وانت طيب يا قلبي كل سنه واحنا مع بعض
قبلها بعمق على شعرها وهمس : كل سنه وانتي ف حضني عايزك تحضري نفسك بكره معزومبن علي فرح ابن واحد شريكي..
اومات برأسها وهمسة: تمام يا باشا!
جبران الباشا وقف في الصدارة، عيناه تلمعان بوميض لم يعرف عنه منذ سنوات. كأنما عاد قلبه ينبض بعد موت طويل. لم يكن عيد ميلاد طفلته فقط، بل كان عيد ميلاد قلبه، روح جديدة دفعت فيه بعد أعوام من الحرمان، من الوحدة، من الألم الصامت. مهره الصغيرة لم تكن طفلته فقط، بل كانت جسرا أعاده إلى الحياة، حبلًا يربطه بالعالم مجددًا. ونس، زوجته، لم تكن امرأة فقط، بل كانت معجزة تمشي على الأرض، نسجت له وحده. ولأول مرة، شعر أنه أسعد رجل على وجه الأرض.
ونس لم تزل عيناها تحاول تصديق ما بين يديها. كل الوجع القديم، الضرب، الإهانة، الليالي التي نامت فيها وهي تبكي بصمت، كل ذلك صار بعيدًا، كأنه من حياة لم تعشها قط. احتضنها جبران ليس فقط بذراعيه، بل بحنانه، بحمايته، بخوفه عليها. مهره كانت بركة من السماء، وهبة لم تطلبها لكنها استحقتها بجدارة. تنظر إلى قالب الكيك فتبتسم، لا لأنها ترى الشموع، بل لأنها ترى مستقبلًا لم تكن تجرؤ على تخيله. مع رجل يشبه الحلم في طُهره واحتوائه.
وقفت دمع بجوار جبران وونس، تضحك بخفة، تمسك يد صغيرها بحنان، لكن قلبها كان يفتقد سليم. كانت تعلم أنه غاضب، مجروح، لكن غيابه عن أول عيد ميلاد لطفلهما زرع حزنا عميق بداخلها . رغم ذلك، كانت تعلم أن حبه لها أكبر من خلاف مؤقت، وأنّه حتما سيعود. شعرت بالامتنان، رغم الغصة، فحياتها تغيرت، وسليم رغم كل شيء، كان سندا رفيقا، وكان حبا لم تتوقعه من رجل بمثل صلابته.
جيلان كانت واقفة في الخلف، تبتسم بشفتيها، لكن عيناها تخونانها، تسكنهما غيمة من حزن قاتم. لم تكن تتخيل أن يكون حبها لآدم سببًا في شرخ كبير بينه وبين شقيقها. قلبها معلق، بين خوفها على آدم، وبين وجعها من قسوة سليم، وبين ذعرها من فكرة أن يكون ما بينهما قد انتهى قبل أن يبدأ حقًا. تشعر أنها السبب، تشعر بالعجز، وكأنها طفلة تقف على حافة الانهيار، لا تعرف كيف تصلح ما تهدم أمام عينيها.
كانت الأسرة تغني لمهره وجبران والشموع تذوب، والكاميرات تلتقط اللحظة، لكنّ ما لم يلتقط هو زخم المشاعر خلف الوجوه. خلف الضحكات كانت قلوب تخفق، تنزف، تتمنى، وتحارب في صمت… أجل، كانوا حول قالب كيك، لكنهم كانوا أيضا حول ماض دفنوه، وحاضر يتلمس خطواته، ومستقبل لا يتمنون فيه سوى البقاء معا، كما هم الآن، لكن بلا خوف، ولا خصام.
تم بحمد الله تعالى وتوفيقه
الي اللقاء ❤️✋
ساحره القلم ساره احمد