نار وهدنه

(ناار وهدنه(الفصل الواحدوعشرون

(ناار وهدنه(الفصل الواحدوعشرون

الفصل ٢١
أحيانًا… تتحوّل أحلامنا إلى أوهام، لا لأننا أردنا لها الزيف، بل لأن يدًا خفية امتدّت فشوّهت ملامحها، ومسختها عن قصدٍ أو دون قصد.
نقف حائرين عند أطلالها، لا نملك سلطة الإحياء، ولا قدرة على الدفن، فنحن لسنا من قرر البداية… ولسنا من أنهى الحكاية.

لكنّ الأقدار… لها مقاصد لا نُدركها، ومسارات لا نختارها.
ربما كانت تخبئ لنا شيئًا لم نطلبه، ولم نحلم به، لكنه في عرف السماء خيرٌ من كل ما تمنيناه.
وربما… كان الألم طريق النجاة.

هكذا نمضي.
نحمل حنيننا في صدورنا، ونخبّئ خيباتنا في عيوننا، ونبتسم كي لا يُقال إننا انكسرنا.
لكننا نعلم — في أعماقنا — أن بعض الأحلام لا تموت… بل تُدفن حيّة فينا، ونعيش بعدها بنصف قلب.

لكن الظلال أصبحت حقيقة…ورائحة البارود بدأت تزحف إلى الصدور…..كان الخطر لا يزال في أول سطره.
وبدأ الرعب الحقيقي.

صرخت ضي : اجري يا حياه! اجري!!!

تشبثت بيدها، وبدأتا الركض بين الأجساد المذعورة، تصطدمان بكل شيء… لكن الموت كان أسرع.

ضربة مفاجئة! جاءت من الظلام كالشبح…
على رأس ضي.

وسقط جسدها على الأرض كزهرة قطفت بعنف، والدم بدأ ينساب من جبهتها…
صرخت حياه ، وركعت جوارها تصرخ بهيستيريا: لأااااا! ضي!! يا ناس!! حد يلحقنا!! دي بتموت! دمها بيتصفى! يا مصيبتـــــــي!!!

لكن صوتها ضاع وسط العويل…..

وعلى الجانب الآخر…

كانت تقي تلتفت بجنون وتركض ، تبحث عن صديقاتها…
لكن لم تلتفت بما يكفي.

يد خشنة تسللت من الظلام ، وأطبقت على فمها بعنف،
واليد الأخرى غرست إبرة في عنقها بخفة قاتلة.

شهقت…ترنحت… وقبل أن تغيب تمامًا عن الوعي، سمعت صوت خافت، كالفحيح: اللي ميجيش بالذوق… ييجي عافية..ولا كنتي فاكره هتقدري تهربي ..

سقط جسدها بين ذراعي الخاطف كدمية،
وحملها بهدوء كأنها ليست سوى طرد يجب نقله،
ثم انسحب من باب خلفي مظلم، بينما آخرون تبعوه كالأشباح….

وصلت الشرطة… لكن بعد فوات الوقت.
كان الصمت هو الجريمة الأخيرة.

المكان غارق في الدخان كان أشبه بساحة حرب بلا مقاتلين…
أجساد ممدة، كؤوس مكسورة، دماء مسكوبة على الأرض كأنها ختم النهاية،
ورائحة الخوف ما زالت عالقة في الهواء، ثقيلة… خانقة…

الوحوش مضوا…. أقدامهم لم تترك أثر… فقط الفوضى كانت دليلاً على وجودهم.
كأنهم لم يكونوا بشر… بل لعنة نزلت واختفت.

أما الضحايا…

فقد كانوا ما بين الوعي والغيبوبة، نزيفهم صامت، وعيونهم شاخصة في الفراغ…
كأنهم شهدوا شيئا لا يروى.

…….

عوده الي محيط الكافيه…

اقترب أحد الحراس من السيارة وهتف بقلق بدأ يتسلل إلى نبرته: اتأخرو أوي يا عربي… هو في إيه؟ بقالهم كتير جوه!

ألقى عربي سيجارته أرضا ودسها بكعبه، وهو يغمغم دون أن يرفع عينيه عن باب الكافيه: هدخل أشوف… قلبي مش مرتاح.

تحرك بخطوات سريعة، كأن نذر الخطر يزحف إلى أطرافه، ودلف من الباب.

دار بعينيه في المكان…الهواء خانق، الطاولات فارغة، والصمت كأنما يصرخ.

اتسعت عيناه كأنهما ابتلعتا الصدمة، وانفجرت صرخته في أرجاء المكان: مش جوه يا مختار! البنات مش جوه!

قفز مختار من فوق سطح السيارة كأن النار قد شبت في جسده، وهدر: يقطعك ويقطع خبرك ! يعني إيه مش جوه؟!

ركض نحوه، ودون أن ينتظر ردا، اندفع إلى الداخل، وخلفه باقي الرجال كالسيل المنفجر.

قبض على عنق النادل فجأة، وهدر بصوت أرعب من في المكان:كان في تلات بنات هنا… معاهم أصحابهم. دخلوا من ساعتين… راحوا فين؟!

تلعثم النادل، ثم حاول التحرر من قبضته وهو يهتف بنبرة مرتجفة: في إيه يا أستاذ؟ اسأل بالراحة!

دفعه مختار بعنف حتى ارتطم بالحائط، وصرخ مجددًا: انطــق!! راحوا فين؟!

هتف النادل، وهو يشير نحو الخلف: مشيوا من أكتر من ساعة! خرجوا من باب المطبخ…!

الجملة سقطت كصاعقة. تبادل الرجال النظرات… ثم انفجر عربي بسباب مكتوم وهو يصر على أسنانه.

اقترب مختار ببطء… كأن وقع الكلمات أشعل عظامه من الداخل، وغمغم بغل لا يكبح: خرجوا… من باب المطبخ؟ وإحنا مزروعين بره زي التماثيل؟

شد الهاتف من جيبه بعنف، وبدأ يعبث به بعصبية، ورفعه إلى أذنه…

لكن الخط لم يجب.والقلق أصبح صراخ لا صوت له.

في قلب الكافيه…اشتعلت الشرارة. وما بعد الآن… لن يطفئ شي
………………………………………….
في حارة داخل محل ياسر الهواري.

جلس ياسر خلف مكتبه، يراجع بعض الملفات، حين رن هاتفه.تناوله بتكاسل وقال لعمار: كمل دول يا شقو… هشوف مختار عايز إيه.

أومأ عمار وسحب الحاسوب، بينما ضغط ياسر على زر الرد، وغمغم: ها يا مختار…

لحظات فقط… ثم وقف كمن لدغته أفعى.
ارتطم الكرسي بالحائط من قوة اندفاعه، وصاح بجنون:
بتقول إييييييييييه؟! هربوا؟ من باب المطبخ؟ إزاي يعني؟! وهربوا ليه أصلاً؟!

انتفض عمار واقترب وقد بدأ القلق يزحف في أطرافه، وهتف:في إيه؟ حصل حاجة؟

أشار له ياسر بالصمت وهو يضغط على الهاتف بأصابعه المرتجفة، ثم انفجر صارخا: دانتو ليلتكم طين يا بن المرة! إقفل دلوقتي! ابعتلي الزفت  اللوكيشن على دماغك ودماغ اللي خلفوك!

أغلق الهاتف بعنف، وجسده كله في حالة غليان، وصرخ وهو يركض خارج المحل: عمار! البنات هربوا! هربوا من تحت عين الحراسة! تعال ورايا بسرعة قبل ما المصيبة تكبر!

ركض خلفه عمار وهو يعبث بهاتفه محاولًا الاتصال بضي، لكن الرسالة كانت كطعنة في القلب : الهاتف مغلق أو غير متاح.
رمش بعينيه وهو يردد: استر يا رب… يا رب ليه كده يا ضي؟!

ركض ياسر وهو يتصل بـ سلطان… وصوته كان مختنق بالغضب والرعب: البنات هربوا… من الحراسة! عرفوا يهربوا من باب المطبخ وسابوا الحرس بره واقفين زي الخشب!

هب سلطان وصرخ كالصاعقة….صوت سلطان لم يكن صوت بشر….كان زمجرة بركان قبل الانفجار…
هدر من الهاتف: إنت بتقووووول إيييييييه؟!!! والرجالة؟ الرجالة كانوا فين؟ نايمين؟!!

رد ياسر من خلف أسنانه: ماحدش نام يا سلطان… البنات دخلوا من باب وخرجوا من باب المطبخ، محدش شافهم.

سكت سلطان لحظة… ثم…فجأة انطلق.
صعد إلى سطح القصر كوحش كاسر، جسده يرتجف من شدة الغضب.وصرخ كمن فجرت بداخله كل أعصاب الأرض: ورب العزة… لهشرب من دمك بعد ما أشربك المر على إيدي يابت البدري! تهربي؟! تكسري كلمتي؟! دا أنا هخليكي تتمني الأرض تنشق وتبلعك عشان تترحمي مني !!

هتف ياسر بحنق وهو ما زال يركض: تعال نلمهم الأول… وبعدين خلي الأدب في وقته! دلوقتي لازم نلاقيهم يا سلطان قبل ما الدنيا تولع!

لكن الدنيا… بالفعل اشتعلت.
وما ينتظرهم في الدقائق القادمة، لم يكن مجرد لهو أو تهور…

أغلق ياسر الهاتف بعنف، وكان على وشك الانفجار من الغضب، حين أمسك به عاشور وسأله بقلق: في إيه؟ بتجري ليه كده يا ياسر؟

صرخ ياسر كأن النار تأكل لسانه: بنتك ومرات ابنك طلعوا يقابلوا أصحابهم وزوغوا من الحراسة يا عمي… عشان يدوروا على مزاجهم ويلفوا علي حل شعرهم!

شهق عاشور وضرب كف بكف وهتف بفزع: يا ليلــــــه طين!

هدر ياسر وعروقه تنبض بالغضب: ده لسه الطين جاي… ربنا يسترها، دول مستنيين لنا غلطة، واحنا قدمنها على طبق من دهب!

انطلق ياسر راكضًا، وخلفه عمار اللي رفع الهاتف بسرعة وهتف بـ عز: هو ده اللي حصل! تعال بسررررعة!

وجاء رد عز كطلقة رصاص: جايلك مسافات السكة!

تحرك عز بسرعة وهو يرتدي قميصه، فصرخت عليا بخوف: مصيبة إيه يا عز؟ خير يا رب!

رد دون أن يلتفت، والنار تشتعل في عينيه:
مفيش وقت… يلا لبسي بسرعة، الدنيا مقلوبه !!

في نفس اللحظة…
كان عمار وياسر قد صعدا السيارة، وانطلقا بسرعة البرق.
وهناك… على ناصية الشارع، توقفت سيارة علي ونوسة.

أطل علي برأسه وهتف بقلق: رايحين فين؟ في إيه؟

أشار له عمار بعجلة وهتف: ضي وحياة هربوا من الحراسة وبندور عليهم!

شهق علي، ثم نظر إلى نوسة وهتف: انزلي بسرعة، لازم أطلع وراهم!

نظرت له نوسة بصدمة وقالت: استهدى بالله يا علي… يمكن البنات حبوا ياخدوا نفسهم شوية، ما تكبرش المواضيع.

هتف علي وهو يرتجف من التوتر: في واحد ابن كلب حاطط ضي في دماغه… ومش بعيد يكون بيراقبها. أمال فاكرة سلطان اتجوزها بالسرعة دي ليه؟! عشان يأمنها!

همسة نوسة وهي تفتح باب السيارة: ما تخافش… هو لو عنده عقل، مش هيقرب منها طول ما هي على ذمة سلطان… ده لو عايز يعيش.

قال علي وهو يضغط على مقود السيارة: ربنا يستر…

ثم انطلق كالسهم… يده ترتعش على الهاتف وهو يحاول الاتصال بـ عمار،وعينيه تبحث في الشوارع كأن روحه تاهت…والخطر يقترب.
…………………………………..

في منزل الهواري

انفتح الباب دفعة واحدة… كأن زلزال اقتحم الدار.
اقتحم عاشور الهواري البيت كالعاصفة، ووجهه متشح بالسواد، كأن الموت يركض خلفه.

قفزت عايدة من مكانها وصاحت بفزع: استر يا رب… في إيه؟ حصل إيه يا حج؟!

ركض عاشور نحو غرفته، فتح الدولاب بعنف وسحب سلاحه الناري، عادت بطة من المطبخ، وصرخت حين رأته يحمل السلاح: يا ساتر يا رب! في إيييه؟ واخد الزفت ده ليه ؟!

وقفوا أمامه، لكن عاشور صرخ كالمجنون: البنات زوغوا من الرجالة! سبوني… عايز ألحقهم قبل ما يقعوا في إيدين الي يعرفوش ربنا!

تجمدت عايدة في مكانها، ارتجفت شفايفها، والدم انسحب من وشها.
أما بطة، فصكت صدرها بيدها وصرخت كأنها تشيع ميت:
يا لهوييييي! يا مصيبتنا السوده! البنات راحوا ف شربة ميه! كأن إيه لزومه الخروج والدخول بس يا ناس؟!

ركض عاشور خارج البيت، بينما بقيت النسوة جاثمات،
الهواء خانق… والرعب ينهش القلوب،
سكنت البيوت، لكن الصدور ضجت بالدعاء

………………………………
أمام الكافية

ترجل ياسر من السيارة وهو يكاد يدهس الأرض تحت قدميه،
تلاه عمار، ووقف الرجال في صف مرتبك، وجوههم مصفرة، والعرق يتصبب

اقترب مختار وهو يكاد لا يرفع عينه، لكن ياسر انقض عليه فجأة، أمسكه من ياقة قميصه، وهتف بصوت أشبه بالزمجرة: إزاي دا حصـل؟! انطق بدل ما أدفنك مكانك يا ابن المره!

تلعثم مختار، وأشار إلى الكافيه:و… وربنا المعبود يا معلم ياسر… مغفلناش عن الباب لحظة! بس… مكناش نعرف إن في باب في المطبخ… لو كنا عارفين كنا قسمنا نفسنا والله!

تدخل عمار بقوة وهو يفصل بينهما: خلاص يا ياسر! مش وقته دلوقتي!

نزل علي من السيارة وهو يتجه ناحيتهم بخطوات سريعة، وعينيه تلمع غضبا: واقفـين ليه؟! تعالوا نشوف الكاميرات بدل ما نضرب أخماس في أسداس!

تحركوا بسرعة نحو الداخل.
اعترضهم النادل وهو يفتح عينيه بفزع: في إيه يا جماعة تاني؟! ده إنتو ولعتوا الدنيا! ده مكان ليه سمعتوا !!

أشار له عمار بحدة: اجري نادي المدير… حالًا!

لكن ياسر لم يملك صبرًا، أمسك بالنادل من سترته وهدر بصوت أجش: بص يا صاحبي… دماغي واقفة… مش شايف قدامي… نادي المدير بسرعه قبل ما أعمل مصيبة وأنت أولها!

ركض النادل وهو يتمتم بالدعاء، وبعد لحظات خرج عليهم المدير، رجل أربعيني بوجه وقور، لكن ملامحه انكمشت فور رؤيتهم : خير يا فندم؟ أنا المدير، في حاجة؟

أشار له ياسر بيده وهو يلهث غضبا: عايزين نشوف الكاميرات… حالًا!

حاول المدير تمالك نفسه، وقال بحذر: بس ممكن أفهم؟ هو حصل حاجـة؟

رد عمار سريعًا، كمن يزأر: أخواتنا البنات كانوا هنا… وخرجوا من باب المطبخ… ومحدش يعرف راحوا فين! بنسألهم… مفيش رد… إنت لسه عايز تفهم؟!”

ضحك المدير بتهكم مريب وقال: يعني خرجوا بمزاجهم… فين المشكلة؟!

صفع ياسر كفا على كف بذهول، وهتف علي بانفعال:
– يا عم ما رجعوش البيت من وقتها! أنجز بدل ما نجيب عليها وطيه!!

تراجع المدير وقد أدرك أن اللعب مع هؤلاء ليس في صالحه، وقال بسرعة: طيب اتفضلوا معايا… نشوف الكاميرات.

تحرك الجميع خلفه، القلق يزحف في صدورهم كالثعبان.
جلس المدير أمام الشاشة وبدأ يرجع اللقطات.
توقف عند لقطة خروج البنات من باب المطبخ وصعودهم سيارة أجرة.

أشار ياسر للشاشة بعنف: وقف! هما دول!

اقترب عمار أكثر، وأخرج هاتفه: اعمل زووم… عايز رقم العربية.

كبر المدير الصورة بيد مرتعشة….سجل عمار الرقم بسرعة، ثم التفت إلى علي وهتف: يلا نتحرك…مفيش وقت !

تحركوا للخارج وكل خطوة منهم كانت تشبه استعدادًا لمعركة…لكن المعركة لم تبدأ بعد …

أخرج عمار هاتفه وعبث به ورفعه علي أذنه وهتف :
الو… إزيك يا متر؟ أنا عايز منك خدمة ضروري.
جاءه صوت علام المحامي هادئًا رغم قلقه: الحمد لله يا عمار، قولي بس محتاج إيه وأنا أعمله فورًا.

– هبعتلك رقم تاكسي… عايز عنوانه. ضروري.
– سيبها عليا. اديني بس ساعه زمن !!

أغلق عمار المكالمة، أرسل الرقم على الفور.
خرج خلفه ياسر وعلي، لحظات فقط ودوي صوت محرك سيارة جديد يعلن وصول عاشور الهواري.

هبط من السيارة بخطى ثقيلة، عيونه تشتعل كأنها تقدح شررًا:ها يا رجالة… وصلتوا لحاجة؟ لقيتوهم؟
هز ياسر رأسه، ونبرته تغلي: قربنا يا عمي… استهدي بالله.”

مرت ساعه كأنها ساعات، القلوب تغلي كالمراجل، كل لحظة تمضي كأنها تقطع من روحهم قطعة…

حتى دوى رنين هاتف عمار.
فتح الرسالة، قرأ العنوان، وهتف بلهفة مشتعلة: ده عنوان السواق! يلا بينا!

انطلقت السيارات كأنها تطارد الموت ذاته. الطريق ينكمش أمامهم، والزمن يركض معهم. بعد مرور ساعه

اصطفت السيارات أسفل بناية قديمة، ترجلوا منها كأنهم إعصار من نار.
صعدوا الدرجات ثلاثًا ثلاثًا، إلى أن وقف ياسر أمام باب شقة خافتة الإضاءة وهتف :  هي دي، صح؟
عمار لاهثا وهو يتأكد من الرقم: أيوه… دي.

دق ياسر الباب بقبضة كادت تخلعه من مفصله، حتى انفتح فجأة.
شاب في أواخر العشرينات وقف أمامهم، يرتدي قميصها باهتا، وعيونه مليئة بالدهشة: خير يا جماعة؟! إنتو حكومة؟!
قبض ياسر على ياقة قميصه وهدر : البنات اللي خدتهم من كافيه في التجمع … وديتهم فين؟!

تجمد الشاب، وعيونه تلف سريعًا، لسانه يبلع الكلمات وغمغم  بتلعثم : حضرتك أنا بشتغل طول اليوم… أروح وأيجي… هفتكرهم إزاي؟

أخرج عمار هاتفه، وفتح صورة ضي ، ورفعها أمام وجهه:
البنت دي… واللي معاها. خدتهم إمتى؟ ووديتهم فين؟!

حدق السائق في الصورة ثواني، ثم اتسعت عيناه وهتف :
آه! آه افتكرتهم… دول… لأمؤاخذة… وديتهم كازينو في زايد.

قطب ياسر حاجبيه وغمغم : كازينو يعني إيه؟!
ابتلع السائق لعابه وهتف متوترا: يعني… كـ كباريه!

صرخ ياسر بجنون، وكأن الأرض انشقت تحت قدميه:
إيييييييه؟! كبااااريه؟!

دوى هاتفه قبل أن يكمل انفجاره، ورد وهو يكاد يحرق الجهاز في يده: البنات راحوا كباريه في زايد يا عز!

جاءه صوت عز الهواري كالرصاص: إنت بتقول إيييه؟! اعقلك هب منك يا ياسر؟!

– ده اللي حصل! إحنا عند السواق، وأكد الكلام… خادهم من التجمع  ووداهم هناك.

صاح عز بجنون : البنات دي محتاجة تتربى من أول وجديد! إنت رايح زايد؟!

– أه… إنت فين؟
– أنا أقرب… ابعتلي العنوان.

أشار ياسر إلى عمار: ابعت العنوان لعز حالًا!

أرسل عمار الموقع، وهو يضغط على أسنانه بغيظ وهتف:
ماشي يا ضي… أم ربيتك…عشان تاني تمشي من دماغك!

كور علي قبضته، وهمس بسخط:ألف مرة قلت المكان ده لا… لكن مفيش فايدة.

رد ياسر بصوت مبحوح: نوصل ليهم… ويكونوا بخير… وساعتها التربية سهلة!

رمى باب السيارة خلفه، وانطلق الجميع…
الشارع كان يشتعل تحت عجلاتهم،
والغضب أصبح سيفا مسنونا في أيدي الرجال.

مرت أكثر من ساعة، لكنها بدت لعمار وياسر دهر متجلدا.
أخيرا توقفت السيارات أمام الملهى، ترجل الرجال من سيارتهم بأعين متأججة كالجمر، وقلوب تعصف بها الريح.

كان المشهد أمامهم مرعبا؛ عربات الإسعاف مصطفة، سيارات الشرطة تغلق الطرق، والأضواء الزرقاء تومض بعنف، كأنها تنبه العالم لخطيئة ما وقعت.

الهرج يعم المكان… صراخ… بكاء… رجال أمن يصرخون… أجساد تحمل على النقالات…
ووسط كل هذا، كان اليقين الوحيد في قلوب الرجال هو: أن البنات هنا… أو ما تبقى منهن.

تحرك عمار أولا، شق طريقه إلى الداخل وسط الفوضى، ولحقه ياسر وعلي وعز، والقلق يغرقهم…

وفجأة… خرج عز من الملهى، وجهه لا يُقرأ، لكن جسده يصرخ كمن خرج من مقبرة لا من مبنى.

اقترب منه ياسر بلهفة وقال: إيه اللي حصل؟! البنات فين؟!

لم يرد عز، بل اندفع نحو سيارته وهو يصيح دون أن يلتفت: يلا ورايا علي المستشفى… مفيش وقت!

ركب الجميع سيارتهم، وانطلقت القافلة كطلقات غاضبة لا تعرف طريق العودة.

في أثناء الركض، دق هاتف ياسر، برقم سلطان
رفع الهاتف بصوت يكاد يتفجر: أيوه يا سلطان ؟ وصلت؟!

جاءه صوت سلطان متسارعًا: أه… طالع من المطار دلوقتي، وصلتوا لإيه؟!

صاح ياسر بغضبٍ محترق: البنات راحوا… راحوا كباريه في زايد!

جحظت عينا سلطان، وكأن المقود في يده صار سيفا يريد أن يشق به الأرض.
زمجر بصوت يوشك أن يفجر الزجاج: كبا… إيه؟! كباريه؟! ضي و حياة؟! … دانا هطلع ميتين أبوهم!
أنا مراتي… وأختي! يدخلوا كباريه كأن مفيش راجل في العيلة؟!
ماشي يا ضي… دانا هاجيبك من تحت الأرض… وهطلع على جتتكم السواد كله !

صاح ياسر بلهجة غاضبة ممزوجة بالعجز: بقلك رحنا الكباريه وملقناهمش! كان فيه لبش وحكومه، محدش عارف حصل إيه جوه!

ساد الصمت على الطرف الآخر للحظة، ثم سمع صوت سلطان، متخشب كتمثال رخام: يعني إيه؟ إيه اللي حصل؟ إنت فين دلوقتي؟!

ابتلع ياسر غصته، صوته خرج مجروحًا: رايحين… على المستشفى.”

صوت فرامل سلطان وهو يوقف السيارة بعنف شق سكون الليل، ثم صرخ بذهول: مستشفى؟! ليه؟! حصلهم حاجة؟! اتكلم بلاش تقطعني!

صرخ ياسر بنفاد صبر: معرفش! عز وصل قبلنا، وكان بيجري، وركب عربيته واختفى وإحنا وراه!

أغلق سلطان الهاتف بعنف، وهاتف عز، وصوته يهدر في صدره كالرعد.
فتح عز الهاتف، وما كاد يقول ألو حتى سبقه سلطان بصوت مفجوع: حصل إيه؟ انطق!

جاء رد عز كمن يصف مصيبة رأى جثتها بعينيه:
هجموا علي الكباريه، وحصل ضرب نار  وفي ناس كتير  اتصابوا، وناس ماتت الشرطة جات، ونقلوا المصابين المستشفى…

قبض سلطان على عجلة القيادة كأنها رقبة أحدهم، وصاح بلهيبٍ يحرق الهواء: أنهي مستشفى؟!!

– زايد التخصصي!

أغلق سلطان الهاتف، وانطلقت سيارته كالسهم يشق ليل العاصمة،جسده يرتجف… قلبه يصرخ… وضي وحدها في قلب العاصفة.

تمتم بحرقة، كأن صدره ينهار: ليه يا ضي؟! ده كان الاتفاق… ماشي يا ضي، دانا هقتلك… بس آخدك في حضني الأول… وأطمن إنك لسه عايشة!

…………………………………….
أمام المستشفى

توقفت السيارات أمام بوابة المستشفى، واندفع الرجال خارجها كطلقات نار…
القلق يتآكل وجوههم، والخوف ينهش صدورهم.
لم تكد أقدامهم تلامس الرصيف، حتى انزلقت سيارة سلطان بعنف، وكادت تنقلب من شدة السرعة.

ترجل سلطان من السيارة كمن خرج من قلب العاصفة، عينيه مشتعلة، وصوته يهدر: عملتوا إيه؟!

أشار له عمار وهو يركض بجواره: لسه هندخل نعرف!

اندفع الجميع إلى الداخل، يقطعون ممرات المستشفى كريح مسعورة، حتى وصلوا إلى قسم الاستقبال.

وقف سلطان أمام الموظفة كمن يحمل الدنيا على كتفيه، أخرج هاتفه، وفتح صورة ضي، وهتف بصوت كالسيف:
البت دي… جابوها هنا الليله دي ؟!

رفعت الموظفة عينيها للصورة، وبدت على ملامحها لحظة تذكر، ثم هزت رأسها بالإيجاب وقالت :أيوه… هي والبنتين اللي كانوا في النايت كلوب… إصابتهم خفيفة.

ضرب سلطان سطح الكونتر الزجاجي بقبضته حتى اهتز، وهدر بصوت أجش مشتعل : وهي… إصابتها إيه؟!

أعادت الموظفة النظر إلى الشاشة، ثم قالت بهدوء لا يليق بعاصفة مشاعرهم: ضربة في الرأس… عملت نزيف… بس حالتها مستقرة، في أوضة ١٠٨.

أومأ سلطان برأسه، لكن صوته كان لا يزال يرتجف بالغضب: والبنتين؟!

أشارت بيدها وقالت: واحدة رجليها مكسورة… والتانية متعورة في بطنها… بس اتخيطت.

أخرج هاتفه مرة أخرى، وفتح صورة حياة، ثم رفعها أمام وجه الموظفة: ودي… كانت معاهم؟

هزت رأسها بالنفي: آه كانت معاهم، بس محصلهاش حاجه… هي اللي كانت ماسكة البنت التانية لما جت الإسعاف.

انطلق الجميع كالسيل نحو الغرفة ١٠٨، ووجوههم لا تحمل سوى لون واحد… الرعب.

وعند باب الغرفة، كانت حياة جالسة على المقعد…
عيناها دامعتان، يداها ترتجفان، وجسدها منكمش كطفلة فقدت الطريق.

هتف سلطان وعاشور في آن واحد: حياااة!

رفعت وجهها إليهم ببطء، كأنها تخرج رأسها من بين الأنقاض، وهمسة بانكسار: سـ… سلطان… بابا!

تقدم منها سلطان كالعاصفة، قبض على ذراعها، ورفعها وهزها بعنف، وصرخ من بين أنفاس متقطعة: إنتو اتجننتوا؟! إيه اللي حصل؟! إزاي تروحوا المكان ده يا بت؟!!

أمسك به عاشور بسرعة، وسحبه من ذراع ابنته، وهتف بغضب: امسك نفسك يا سلطان! كفاية عليهم الخضة، واحمد ربك إنها جت على قد كده… قدر ولطف، يا ابني، مش وقت العتاب!

ارتمت حياة في حضن أبيها، تبكي بحرقة، وهتفت كمن تحاول الدفاع عن جريمة لم ترتكبها: إحنا… والله ما كنا نعرف… مجاش في بالنا كل ده… كنا فاكرين… كنا…

قاطعها عز بصوت مكتوم الغضب، تتصاعد منه نار باردة:
فاكرين؟! إيه اللي كنتوا فاكرينه؟!عشان مخكم أصلاً مش شغال! يا روح قلبي… بناتنا بقت تروح كباريهات؟!
دانا هطلع ميتين أمكم… بس نوصل الأول!

انكمشت حياة أكثر، وكأن كلمات عز سكاكين تنهش قلبها.
أما سلطان… فكان واقفًا أمام باب الغرفة كتمثال حي،
يحاول أن يتنفس…يحاول ألا ينهار…
يحاول أن يفتح الباب… ويدخل ليواجه ضي

في الداخل…

كان السكون يلف الغرفة، لا يسمع سوى صفير جهاز المراقبة ونبض ضعيف يكاد يضيع وسط ضجيج الهموم.

تحركت ضي على الفراش ببطء، كما لو أن جسدها أثقلته الجراح، أو أن قلبها يخشى النهوض قبل الجسد.
رفعت رأسها، ونظرت إلى الباب…
ثم مدت يدا مرتجفة، وفتحته نصف فتحة.

وما إن لمحت وجوههم…
وجوههم المشتعلة بالقلق، المنهكة من اللهاث، العابقة بالخوف والغضب والخذلان…
حتى خنقها الهواء!

ارتدت إلى الداخل كمن رآى الموت أمامه.
أغلقت الباب بهدوء يشبه الانهيار، ثم شهقت، واندفع أنينها المكبوت من بين ضلوعها.

كانت تبكي…لكنها لم تكن تبكي فقط.كانت تختنق.

ركضت بخطوات مترنحة نحو المرحاض، وأغلقت بابه بسرعة، وكأنها تحتمي من زلزال عاطفي عنيف.

انكمشت في ركنه، تحت صنبور الماء البارد، وأسندت ظهرها إلى الجدار، تطوي ركبتيها إلى صدرها كطفلة…
طفلة مذعورة، ضلت الطريق، وخذلت الجميع، ثم وجدت نفسها فجأة في مواجهة الحقيقة… في مواجهة سلطان.

وضعت يدها على فمها تمنع شهقتها من أن تسمع، لكن دموعها خذلتها…
انهمرت على وجنتيها كالسيل، تسابق بعضها وكأنها تحاول تطهيرها من كل لحظة ضعف…
كل قرار خاطئ…كل فكرة متهورة قادتها إلى هنا.

كانت تبكي بمرارة، ترتجف، وتتشبث بالجدار كأنه الملاذ الوحيد،
كأنها لا تملك من نفسها شيئًا سوى البكاء.

في الخارج… أمام غرفة ضي

كان المشهد مشحون بالقلق والانفعال.
احتضن عاشور ابنته بقوة، كأنما يحاول أن يعيد إليها الأمان المنفلت من عينيها، وهو يهتف بصوت خافت لكنه نافذ:خلاص يا ولاد، كفاية… البت قلبها هيقف من الرعب، كفاية قسوة.

تراجع سلطان قليلًا، وقد تجمدت خطواته، فيما تبعه عز وياسر بنظرات واجمة، وتحرك عمار وعلي باتجاه غرفة ضي، لكن…

توقفوا جميعًا عند صوت حياة، وهي تبكي بحرقة، ثم همسة بانكسار: تقي كانت معانا… وفي وسط الزحمة ضعنا من بعض.

توقف الزمن.
تبادلت العيون نظرات مذهولة.
التفت ياسر إلى سلطان، وغمغم بصدمة: يعني البنتين المصابين اللي اتقال عليهم… كانت تقي منهم؟!

هزت حياة رأسها بالنفي، وعيناها تغرقان في الدموع:
لأ… دول هنا، في الأوضة. تقي مجتش معانا أصلاً.

اقترب عز بقلق وهتف: يمكن روحت البيت.

أخرج ياسر هاتفه بسرعة، واتصل بتقي…
دقات الانتظار تمر كدهر، ثم جاء الرد الصادم:
الهاتف مغلق.

عض ياسر على شفتيه، وهز رأسه بأسى، ثم نظر إلى سلطان الذي أشار له بحدة: كلم أبوك بسرعة.

أطاعه فورًا، واتصل بوالده: أيوه يا با، تقي عندك؟

ردّ خليفة بصوت يملؤه الاستغراب: عندي فين؟ أنا في الحسين مش في البيت أصلاً!

أغلق ياسر المكالمة وطلب جنات…
ثواني مرت كأنها عمر، وهتف : جنات انتي فين ؟!

جاء صوتها القلق:أيوه يا ياسر، أنا في البيت، هكون فين؟

قال بنبرة متوترة: انزلي شوفي تقي تحت كده… بسرعة، يا جنات، بسرررعة!

هرعت جنات تهبط السلم بثوب البيت، وقلبها يدق بعنف داخل صدرها،فتحت باب الشقة وهي تنادي: تقي! تقيييي!

جالت بعينيها في كل زاوية، قلبها يضرب جدرانها كالطبل.
ثم رفعت الهاتف: تقي مش هنا يا ياسر…

تجمد ياسر، كأن كلماتها سكين نزع بها الأمل من صدره.
أغلق الهاتف، وهتف بحنق وذعر: مش في البيت!

قبض عز على ذراعه:تعالى… ندور في المستشفيات اللي قريّبة، يمكن ودوها هناك.

قال سلطان بصوت خفيض من بين أسنانه : أنا هخدهم على البيت… وجاي

وراكم على طول.

تقدّم عاشور وضع يده على منكب ياسر : يلا أنا جاي معاك.

وانضم إليهم عمار، بينما نادى على علي: علي، خليك مع أختك، أنا رايح مع عز وياسر.

ثم انطلقوا جميعًا…القلوب ترتجف من المجهول،
وكل واحد منهم يحمل داخله نفس السؤال المرعب:
أين تقي؟

دلف سلطان وعلي وحياة الغرفة بخطى متسارعة،
لكنهم ما إن دلفوا حتى تجمدوا في أماكنهم كأنما صعقوا…كانت الغرفة فارغة.

اتسعت عينا علي، وسارع إلى الخروج، لكن سلطان رفع يده فجأة وهتف بصوت خفيض: استنى… سامع الصوت ده؟

صمت الجميع لوهلة،وتناهى إلى مسامعهم صوت نحيب مكتوم يأتي من جهة المرحاض.
ركض علي نحو الباب، وبدأ يطرق بعنف: ضي! افتحي يا ضي، افتحي!

لكن سلطان أوقفه بإشارة حاسمة: اوع يا علي.

ثم اندفع سلطان، وركل الباب بقدمه، فانفتح بعنف ليكشف عن مشهد حفر في قلبه كالسكين.

كانت ضي منكمشة في زايرتعش كعصفور مبتل،ذراعاها تحيطان ركبتيها،
ووجهها مبلل بالدموع والشهقات المكتومة.

حدق بها علي، وقلبه يتقلب بين الغضب والخوف،
ثم انفجر بصوت غاضب: إيه اللي عملتيه ده يا ضي؟! انتي اتجننتي؟!

صرخت ضي بصوت واهن مرتعش: والله غصب عني! أنا مكنتش عايزة أروح!

قبل أن يرد.. كان سلطان قد قبض على ذراع علي وسحبه بعيدًا،

ثم اندفع نحو ضي، وجثا على ركبتيه، وضمها إلى صدره بقوة، احتواها كأنما يطفئ النار من حولها وهدر بعنف: بس يا علي! ضي مراتي… ومش هسمحلك تعلي صوتك عليها.

شهق علي بدهشة، وهتف بانفعال:ازاي يعني يا سلطان! ضي غلطت! أنا كتير قلتلها متروحش المكان ده…
دي مش أول مرة تغلط الغلطة دي!
وكل مرة بتكلم معاها بالعقل، بس واضح إن مفيش فايدة في دماغها العنيدة دي!

هزت ضي رأسها بيأس وهمسة بصوت متهدج: والله… والله مكنتش عايزة أروح…

ربت سلطان على ظهرها بحنان كظيم،
ثم التفت إلى علي، وصوته يخرج كهدير مكتوم:خلصت! قلت اقفل يا علي. ضي دلوقتي في ذمتي،
تخصني أنا… وأنا بس اللي أتكلم معاها.

أومأ علي برأسه، وانسحب بخطى مثقلة.

صرخ سلطان فجأة: حياة!

اقتربت حياة، وجسدها يرتجف من فرط التوتر: نـ نعم؟

  • هاتي هدوم ضي.

أومأت برأسها، وغادرت بسرعة.

في هذه الأثناء، كانت ضي تبكي في صمت،
وعيناها لا تجرؤان على النظر في عينيه،
وهمسة بصوت خافت متقطع: سلطان… أنا والله…

أشار بيده، وصرخ بنبرة غاضبة كاظمة: مش عايز أسمع صوتك دلوقتي يا ضي.

انكمشت أكثر، وتضاعف بكائها… جلس سلطان جوارها بجسد يأن قهرا … وراح يمسح على رأسها بكفه دون كلمة،
ثم دخلت حياة وأعطته الملابس،
أغلق الباب، وألبسها ملابسها بسرعة وصمت،
ثم حملها بين ذراعيه وخرج.

سارت حياة خلفه دون صوت،وعلي ينتظرهما خارج الغرفة.أشار له سلطان وقال : يلا.

فتح علي باب السيارة،ووضع سلطان ضي في المقعد الخلفي، ثم أشار لحياة فصعدت في الكرسي الامامي
وصعد علي خلف المقود، وجلس سلطان بجوار زوجته.

بدأت السيارة بالتحرك،والصمت المشحون يغلفها.

وضعت ضي يدها المرتجفة على رأسها، الدوار ينهشها،
نظر لها سلطان… وقلبه يشتعل،حملها برفق، وأجلسها فوق ساقيه،ربت على رأسها، فتشبثت بعنقه كالطفلة،
وهمسة بأنفاس متقطعة: أنا آسفة…

أغمض عينيه بقهر، وضغط على فكيه، ثم همس:
هنشوف الحكاية دي بعدين.

نظر علي لهما من المرآة، عيناه مشبعتان بدهشة ممتزجة بسعادة…فرغم كل شيء،
كان احتواء سلطان لأخته أقوى من أي عتاب.
……………………………….

في الحاره

توقفت السيارة أمام منزل الهواري، وما إن ترجل منها سلطان وعلي، حتى تبعتهم حياة بخطوات مرتجفة، بينما كان جسد ضي لا يزال بين ذراعي سلطان، تحتضنهما أنفاسه الغاضبة، وصدره المثقل بالخوف. دار على مدخل المنزل بخطى متسارعة، وفتح الباب بخفة مذعورة، ثم اندفع إلى الداخل.

كان باب شقة عايدة موارب، تجلس خلفه عايده كتمثال من حنين، ودموعها تنساب بهدوء من عينيها، حتى إذا وقع بصرها على سلطان يحمل ضي بين يديه، انشقت شهقة عميقة من صدرها، شهقة فرح مفاجئ، هزت قلبها من جذوره، فنهضت صارخة من الأعماق:ياااه يا مانت كريم يارب… تعالوا يا حبايبي!

دلف سلطان بخطى عاجلة، ووضع ضي برفق على الأريكة، كأنما يضع قلبه لا جسدًا، فاندفعت عايدة تضم ضي بذراعيها، كأنما كانت تحاول أن تطمئن عليها بجسدها قبل كلماتها.

ثم خرجت بطة من الداخل، وقد أنهت صلاتها لتوها، فهاج الغضب في ملامحها، وصاحت بخشونة مكتومة بالغضب: كده يا بنات ؟! تعملوا فينا كده يا بت؟! ده اسمه كلام؟!

ركضت حياة نحو عايده ، ودفنت وجهها في صدرها وانفجرت باكية، تتشبث بها كطفلة ضائعة. احتضنتهما عايدة معًا، ومسحت على رؤوسهما ببطء، وهمسة بعينين دامعه :اسمله الله عليكم… يا ضنايا.

صرخت عايدة بوجه بطة بجزع: سايق عليكي النبي تسكتي! واحمدي ربك إنه سترها. سبوهم، دول جسمهم متخشب من الرعب، قلبهم مهدود!

وقف سلطان بجوارهم كتمثال من نار، ملامحه مشتعلة بخليط من الحزن والغضب واليأس. زم شفتيه، وحدق فيهم طويلًا، ثم زمجر بصوت أجش:أنا هروح أشوف التالتة راحت فين… والحساب؟… لسه ما بدأش.

التفتت إليه عايدة بصدمة، وهتفت: تالتة مين؟!

لوح بيده بعصبية، وقال بعينين تقدحان شررًا: تقى… كانت معاهم!

ضربت عايدة على فخذها، وصفقت بطة صدرها، وهتفتا معًا: وهي راحت فين؟!

أشار سلطان إلى الباب بضيق: ضاعوا من بعض في الزحمة.

ثم التفت، وسار بخطى حازمة نحو الخارج، بينما تبعه علي سريعًا، ليصطدم على الباب بـ إبراهيم الذي كان يهم بالدخول.

توقف علي أمامه، وحدق فيه بحنق: انت كنت فين؟!

رمقه إبراهيم بدهشة، وهتف:كنت في سبق… إيه حصل؟

غمغم علي وزفر:لا… مفيش يا إبراهيم. خسارة الكلام معاك… خليك في اللي انت فيه!

ومضى خارجا، تاركا إبراهيم في ذهول، يتمتم: ماله ده؟!

ثم دخل الشقة بخطوات مترددة، فتجمدت عيناه حين رأى ضي على الأريكة، رأسها مضمد بشاش طبي، وجهها شاحب، وعيناها مطفأتان. شهق وهو يطرق الباب من الداخل، ثم اندفع نحوها، وهتف بفزع: ضي؟! ف إيه؟! إيه اللي حصل؟!

حاولت ضي النهوض، لكن جسدها خانها، فتلقاها إبراهيم بذراعيه، وضمها إلى صدره وهو يهتف: في إيه يا حبيبتي؟ مالك؟

انهارت بين ذراعيه، تنشج كأنما تبكي العمر كله، جسدها يرتعش كجذع نخلة في ريح شديدة. رفعت عايدة صوتها تهدئه:متخافش يا ابني… قدر ولطف… كانوا طالعين يتفسحوا، والمكان هجم عليه حرامي.

جحظت عينا إبراهيم وصاح : إزاي يا ضي؟! مش كان معاكو حراسة؟! كانوا بيهببوا إيه؟!

همسة ضي بصوت متهدج ودموعها تسبقها: احنا… احنا هربنا من الحراسه يا إبراهيم… وروحنا النايت كلاب اللي في زايد…

جحظت عيناه أكثر، وصاح بغضب مكبوت: تاني يا ضي؟!

هزت رأسها سريعًا، وتلعثمت: والله ما كنت عايزة أروح… البنات فضلوا يزنوا عليا… وكانت ماشية، لحد ما حصل اللي حصل…

أغمض إبراهيم عينيه بألم، ثم جذبها إليه أكثر، يمسح على رأسها بحنان وقهر: حرام عليكي… ليه تعملي في نفسك كده؟ وليه تعملي فينا كده؟

تشبثت به أكثر، وهمسة ببكاء: والله ما كان قصدي…
…………………………………….
أشرقت الشمس…

ارتفع الضوء في السماء كأن النهار ذاته خرج من غيبوبة الليل مذعورا…
لكن القلب ما زال معلقا في ظلام لا شمس له،
والوقت يمر ثقيلًا كجنازة لم تصل بعد إلى قبرها.

تفرق الرجال في الأرض، كل يحمل في عينيه رجفة القلق، وفي قلبه رجفة أكبر.

ياسر وسلطان معا، وعمار وعلي في جهة،
وعز ومختار في جهة ثالثة، كل فريق يمشط المستشفيات كأنهم يبحثون عن الروح الهاربة من الجسد.

ومع مرور الوقت،تكللت جبهة الشمس، واشتد وهجها فوق الرؤوس، لكنهم لم يشعروا بحرها… فالقلب كان يغلي بنار أخرى.

توقف سلطان وياسر أمام إحدى المستشفيات،
ترجلا من السيارة، ودلفا بخطى سريعة مشوبة بالرعب إلى قسم الاستقبال.

أخرج ياسر هاتفه بيد مرتجفة، وأراها صورة تقي،
وهتف بصوت متحشرج، كأن الكلام يخرج من جرح مفتوح: البت دي… جابوها هنا  ؟

نظرت إليه الممرضة،ثم إلى الصورة،قبل أن تهز رأسها بالإيجاب وترد: أيوه يا فندم…

تجمد الزمن،وتعثر قلب ياسر خطوة للخلف،
ثم بلع لعابه بصعوبة، وقال: هي فين؟ و… ومالها؟ حصلها إيه؟

أشارت الممرضة إلى أحد الأطباء الواقف خلفها وقالت :
دكتور حاتم… هو المسؤول عن حالتها.

دون تردد، اتجه سلطان وياسر إليه،
عيونهما تتعلق بالرجل كأن مصيرهما معلق على حبال كلماته.

وقف سلطان أمامه، وصوته خرج كطلقة مكتومة: يا دكتور… البنت اللي جابوها المستشفى الليله دي…
إحنا أهلها… مالها؟ طمنا.

رفع الطبيب عينيه إليهم،وفي نظرته شفقة موحشة…
ثم زفر أنفاسا ثقيلة، وقال بصوت منخفض كأنه يخجل من وقع الحروف: للأسف… البنت وصلت وهي في حالة نزيف حاد…و… وده بسبب تعرضها للاغتصاب…
بطريقة… وحشية جدًا.

ساد صمت مفاجئ…كأن العالم توقف عن التنفس.

جحظت عينا ياسر كأنهما رأت الموت عاريًا،
بينما تجمد جسد سلطان، كأن الطوفان قد مر به فجأة وتركه خاليا من كل شيء.
ووووووووووووووووووو

متنسوش التفاعل ياحلوين بفوت والكومنتات

ساحره القلم ساره احمد🖋️

4.4 5 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
4 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Salma Mohamed
Salma Mohamed
12 أيام

❤️❤️❤️❤️❤️

Nedaa
Nedaa
12 أيام

روعة ❤️

Mero ❤️
Mero ❤️
12 أيام

تحفة😍

ام تسنيم
ام تسنيم
11 أيام

😘🥰🥰❤️