عشق ملعون بالدم (الفصل الرابع)
ويبقى عبيرُ صوتك،
تلك النغمة التي تتسلّل إلى روحي كدواءٍ سماويّ،
تُهدّئ اضطراب قلبي كلّما أوجعه الحنين،
تُسكِت صراخ الشوق داخلي كما تُسكِت يدُ الأمّ رعشةَ طفلٍ باكٍ.
تعال…
دع أناملك تمرّ على جسدي كما تمرّ النار على الحرير،
توقظ بي ما مات، وتكتب على جلدي اسمك بحروفٍ من لهفةٍ وارتعاش.
تعال كما القدر… لا أستطيع ردّه، ولا النجاة منه.
قد انجبرتُ فيك كما تنكسر الموجة على صخرها،
لا خيار لي فيك، ولا خلاص منك،
سكنتَ عروقي حتى نسيتُ مَن أكون،
وصرتُ لا أشعر بوجودي إلّا حين تهمس،
ولا أتنفّس إلّا على إيقاعك،
ولا أعيش… إلّا بك.
ارتجف هواء البهو للحظة، حين انشق الصمت على صوت أمير وهو يقف عند الباب، وصوته غاضب كالسوط:
هي حصلت! انتي أدبتي؟! إيه اللي عملتيه ديه؟!”
تسمرت حبيبة في مكانها، اتسعت عيناها برعب، وانكمشت كطفلة مذعورة، تتشبث بكف ريم كأنها تستجدي النجدة…
كان قلبها يطرق صدرها بجنون، وقد أيقنت أن فارس أفشى السر لأمير، وأن النهاية قد وقعت.
انعكست دهشة الخوف في عيني ريم، فابتلعت لعابها بصعوبة، والارتباك يطل من ملامحها المرتعشة.
رفع عساف حاجبيه بدهشة، ونظر إلى شقيقه متسائلاً:
في إيه ياخوي؟ هي مين اللي أدبت؟ ونيلة إيه ع الصبح؟”
وقفت إنعام ببطء، عينيها تنتقل بين وجوههم، ثم استقرت على حبيبة، تلك الفتاة الصامتة المرتجفة، كأنها تستمع لصوت قلبها الذي يوشك أن ينطق باليقين. وهمسة بصوت يقطر بالشك: حبيبة أكيد.. أنا جلبي حس. سكوتها ديه وراه نصيبه.”
شعرت حبيبه بجفاف في حلقها وبلعت لعابها بصعوبه، قبل أن ينفجر صوت أمير، حادًا غاضبًا: لا! ديه العاجله، أم كيان… اللي عفصتنا برچليها!”
اندفعت الأبصار كلها نحو ريم في لحظة واحدة… شحب وجهها، وقطبت حاجبيها بدهشة، وارتبكت الكلمات على شفتيها المرتجفتين: أنا؟! أنا عملت إيه؟! إيه اللي چرى يا أمير؟”
أشار أمير نحو الباب بحدة، وهتف: محسن… أخوكي.”
تزامن صوته مع انفتاح الباب، ودخول محسن بخطوات واثقة متأنية، وصوته يعلو بالسلام: السلام عليكم يا چماعة.”
صرخت ريم بخفة الفرح والصدمة، وركضت إليه، لتسقط بين ذراعيه كمن عثر على أمانه الضائع، وهمسة بصوت متحشرج:أخوي!”
ضمها محسن بقوة، وقبل رأسها بحنان، قبل أن يهمس بصوت دافئ: كيفك يا خيتي؟ وكيف بتك؟”
أومأت داخل حضنه، والدموع تعاند عينيها وهمسة بخفوت: زينه يا أخوي.”
تقدم عساف بخطوات واسعة، تتبعه إنعام، وارتسمت ابتسامة دافئة على وجهها، وهتف بود صادق: أهلا… أهلا أبو نسب…. نورت نچع العزيزي.”
انسحبت حبيبة مع هند إلى المطبخ، وما إن أغلق الباب خلفهما حتى وضعت يدها على صدرها وكأنها تكتم ارتجاف قلبها، وهمسة بصوت لاهث يختلط فيه الخوف بالنجاة: الحمد لله… جلبي كان هيجف.”
حدقت فيها هند بدهشة وهي ترفع حاجبًا واحدًا، وقالت بفضول لا يخلو من ريبة: بت… انتي داسه حاچة؟ جولي… هببتي إيه؟”
هزت حبيبة رأسها بعنف، وبدت عيناها كعصفور يبحث عن مخرج من قفص، ثم غمغمت في ارتباك:أنا.. متي كت هدس يا هند… أنا معملتش حاچة.”
تقلصت ملامح هند بين الشك والتوجس، وغمغمت وهي تحاول أن تستشف ما وراء صمتها: هيبان… هيبان. تعالي ساعديني ندبوح دكرين بط لأجل خي ريم… عشان الغدي.”
شهقت حبيبة باستياء طفولي، وضربت قدمها بالأرض بحنق مكتوم وهتفت: أنا… أدبح البطه؟!”
رفعت هند حاجبيها بدهشة، وحدقت فيها باستنكار وهي تقول: نعم يا عمر… بطه؟”
اقتربت حبيبة في حذر، وكأنها توشك أن تبوح بسر خطير، ثم مالت نحو أذن هند، وهمسة بصوت خافت مرتجف: انتي مفكره البطه مش هتحس… ولا هتوچعها بالسكينه؟”
اتسعت عينا هند في ذهول، وارتسمت على وجهها علامات الصدمة كمن يسمع جنون محض، قبل أن تنفجر بحدة مذهولة: وه حكم عليها ربها يا بت عمي… دبح الطير حلال!”
أشاحت حبيبة برأسها نافية بعناد، وارتسمت في ملامحها براءة ممزوجة باضطراب غريب وهمسة: أنا مجولتش حرام… بس خليكي انسانه محترمه… وهملي البطه تعيش في سلام.”
زاغت عينا هند أكثر، حتى خيل إليها أنها أمام كائن لا يفك طلاسمه… وقفت لحظة مذهولة تحدق في السقف ، لكن حين التفتت حولها بارتباك لم تجد أحدًا في المطبخ غيرها.
اختفت حبيبة كأنها طيف، ولم يبق سوى أثر حيرتها. ضربت هند كفا على الآخر بدهشة وغيظ، وهتفت لنفسها:
كل ديه… عشان تهربي يا حبيبه؟ طب… ماشي!”
في الخارج،
انطلقت صيحة إنعام غاضبة، تحمل في طياتها لهبًا مكتومًا: كيف يا محسن… بت ولدي تعيش بره بيت أبوها؟”
وقف محسن أمامها بثبات وأدب، محاولًا أن يكبح غضبه، ثم هتف بصوت واثق: وانتي يرضيكي يا مرت عم… الخلج تاكل وشنا؟ طه الله يرحمه جرب يكمل سنه، وإحنا هملنا بتنا معاكم… لأجل خاطرك، ولأجل حرجة جلبك على ولدك.”
ثم أدار عينيه نحو أمير، ورفع صوته بنبرة ملؤها الرجاء الممزوج بالحزم: يامرت عم… انت عندك ولد، كيف أمير ما شاء الله راجل زين، وبتنا لساتها صغيره… وديه ميرضيش حد. لأجل خاطري… هملي ريم تعاود معايا.”
كانت إنعام توشك أن ترد، لكن صوت فوزي، حاسمًا كالسيف، قطع عليها الكلام: عداك العيب يا ولدي… واحنا كمان ميرضناش حد يلسن على مرت ولدنا المرحوم طه بعفش.”
ساد صمت ثقيل للحظة، قبل أن ينهض محسن وأمير وعساف دفعة واحدة، وقد خيم الحزن على وجوههم. غير أن هذا الحزن ما لبث أن تبدل إلى ذهول قاطع، حين تابع فوزي بجد لا يقبل الجدل: بس كمان… هي دلوق هتبجي مرت ولدي التاني… أمير.”
ارتجفت الأرض تحت قدمي أمير، وجحظت عيناه بذهول ممزوج بالغضب، وصاح: أمير مين يا أبوي؟!”
تقدمت إنعام بخطى غاضبة، وصوتها يجلجل في الفضاء:
أمير انت يا ولدي! واحنا عندنا كام أمير؟ ولا هتكسر كلمة أبوك؟”
تجمدت ملامح أمير، قبل أن ينفجر كبركان هادر، يهز المجلس بصرخة تخللتها مرارة القهر: يما… أنا مهفكرش ف الچواز دلوق. ويوم ما اتچوز… اتچوز مرت أخوي طه اللي كان حته مني!”
ارتفع صوت فوزي غاضبًا، كالسوط يجلد الهواء: ااااامير!”
لكن محسن اندفع بحنق، يلوح بيديه بعصبية، وهتف متحديًا: لا يا أبو عمو… متخصبش عليه! بتنا إحنا أولى بيه… هي وبتها على راسنا من فوج.”
ثم رفع رأسه نحو السلم، وصاح بنبرة جافة، كمن يهرب من خنق المكان: رررريم… شهلي يا بت أبوي! خلونا نلحجوا طريجنا.”
ظهر خيال ريم وهي تنزل الدرج ببطء، ملامحها شاحبة وصوتها يتهدج: چاهزه يا خوي…”
لكن صرخة إنعام شقت الصمت كطعنة خنجر، قبل أن تهدر وتلطم وجنتيها بعنف: بووووه يا ولدي… توك اللي موت يا طه! يا حرجة جلبي عليكي يا ووووولدي…
وبينما كلمتها تتلاشى، انهارت على الأرض فاقدة الوعي، وانطلقت الصرخات من أفواه الجميع في فوضى عارمة، كأن البيت قد اهتز على أركانه: امااااااا
……………………………….
في سرايا الأنصاري،
كان البهو الكبير ساكنًا إلا من وقع خطوات سند الثقيلة وهو يقتحم عتبته، وصوته يدوي بنداء ملهوف: مريم… مررريم!”
خرجت مريم مسرعة من المطبخ، مسح الخوف على ملامحها وهي تجيب: نعم يا سند؟”
اقترب منها بخطوات متوترة، عينيه تبحثان عن شيء غائب، وهتف بنبرة مستعجلة: وين الغالي؟”
أشارت بيدها إلى الأعلى، وقد بدا في صوتها شيء من الطمأنة:لساته نعسان… أعملك الفطور؟”
هز رأسه بالنفي، وأطرق قليلًا، ثم تمتم بصوت يثقل صدره: مليش نفس يا مريم… الفرس محروج حرج واعر سد نفسي… وكمان لسه لما الغالي يصحى.”
أومأت برأسها متأثرة وقالت بعطف:يا حبة عيني… طب ما تچبلوا الدكتور؟”
جلس سند على الأريكة بتعب باد في كل حركة منه، وصوته المتحشرج خرج كأنه يقتطع من روحه:
شيعت الواد من الفچريه… معرفش عوج ليه ولد المركوب ديه.”
جلست أمامه، نظراتها مشبعة بالحزن، ومدت كفها تربت على فخذه في حنو ، ثم همسة: أجولك… إيه رايك نعك الچرح سمن بلدي؟ أهي حاچه تهديه هبابه.”
أومأ برأسه ببطء، وكأنه يتعلق بأمل بسيط، وقال:
زين… يا مريم، جومي خدي السمن واعطيهم لي بدر… وأنا هجوم أصحي الغالي.”
ابتسمت بلطف وأومأت: من عيني يا أخوي.”
تحركت مريم إلى المطبخ بخطوات حثيثة، بينما صعد سند الدرج، يثقل كل عتبة بطيف من هم دفين، كأنه يحمل على كتفيه إرث الحزن كله.
دلف سند إلى غرفة أخيه، وصوته يسبق خطواته بالقلق:
اصحي يا غالي… بكفياك نعس، مش عوايدك يا خوي.”
تململ فارس فوق الفراش، فتح عينيه بثقل، نظراته غائمة كضباب الفجر، ثم تمتم بصوت متحشرج لا يزال عالقا بأثر النوم: سند؟”
أومأ سند برأسه، نبرته تحمل عتابًا خفيًا: انت وعيلي حد تاني يا فارس؟”
أغمض فارس عينيه لوهلة، ثم اعتدل جالسًا، نظر إليه بدهشة مشوبة بالريبة، وغمغم: لا… شايفك يا خوي. بس انت مرحتش المزرعة ليه؟ مش النهرده معاد الشحنة؟ أدهم ماكد عليا من عشيه.”
جلس سند على حافة الفراش، ثقل الهم يطأطئ كتفيه، وصوته خرج مثقلاً بالتردد: فارس… بصراحه احنا مردناش نجولوك ف العشيه… لأجل ما تنعس بس.”
ارتسمت الحدة في عيني فارس، نبرته صارت حادة كسيف مسلول: في إيه يا خوي؟”
هز سند ساقه بعصبية ظاهرة، ثم نطق بالكلمة التي هوت كالصاعقة: هزيم… أتحرج ف بطنه.”
جحظت عينا فارس، وقفز من فوق الفراش كأن الأرض اشتعلت تحته، صوته انفجر بالجزع: كيف يا خوي؟! وأنا سالتكم… جولتوا كلهم زنين!”
أطرق سند رأسه، واليأس يتسرب من ملامحه، وغمغم بصوت متهدج:لأجل ما تريج چتتك يا خوي…”
ضرب فارس كفا بأخرى بعنف، والذهول والغضب يشتعلان في ملامحه، ثم هدر صوته كهدير العاصفة:
إن شاء الله عني ما ريحت! كيف أريح وهزيم هيتعذب بالحرج يا سند؟!”
رفع سند نظره إليه بيأس عاجز، بينما زفر فارس بعنف، التقط جلبابه بيدين مرتجفتين، وارتداه بعجلة، وهدر وهو يشده فوق جسده: چبتوا الدكتور؟”
نهض سند من مكانه ورد بسرعة: شيعت الواد يچيبه.”
سحب فارس هاتفه ومتعلقاته على عجل، واندفع نحو الخارج كالسهم، صوته يجلجل وهو يعصف بالغرفة:
وعوج ليه المكفي ديه؟!”
هرع سند خلفه، يحاول اللحاق بخطواته المتسارعة، وهتف بلهفة:دلوق يچي يا خوي…”
وكأن حرارة القلق قد أشعلت الأجواء، والجدران نفسها تضيق بأنفاسهم.
هبط فارس الدرج بخطوات سريعة متوترة، أنفاسه متلاحقة، كأن القلق يدفعه دفعًا نحو الباب…
وعند بوابة الداخليه للثريا، توقفت قدماه فجأة، إذ اعترضت طريقه إيمان، واقفة أمامه كجدار يحاول اجتيازه….
انعقدت ملامحه بالغضب، وخرج صوته هادرًا، خشنًا، يحمل أكثر مما يحتمل من الضيق: وبعدهالك يا بت… أوعي.”
ارتجفت إيمان للحظة، لكنها تماسكت، ورفعت يدها بخفة، تمسك بطرف الجلباب على صدره، وغمغمت بصوت مرتجف يحمل نبرة قلق صادق: متلهوج ليه؟! اصبر يا غالي… بدي أطمن عليك… أدرعت عليك.”
نظر إليها فارس بدهشة ممزوجة بالحنق، وعينيه تقدحان شررًا، كأنه لا يعرف إن كان يغضب منها أم من نفسه، ثم دفعها جانبا بيده دفعة حادة، وانصرف وهدر كمن يفرغ غليانه في الهواء: ناجص أنا… جلع بنات.. أوعي!”
انفجرت نغم بالضحك من طرف البهو، ضحكة خافتة في البدء، ثم تصاعدت في الهواء كأنها تسخر من الموقف كله، بينما لكزتها ليلة بيدها وهمسة توبيخا: بس يا بت… ميصحش، هتضحكي على بت عمك؟”
التفتت إيمان إليهما بوجه متجهم، ونظراتها نارية، وصوتها خرج غاضبًا كالسوط: همليها تضحك زين… وهتضحك كتير لما اتچوز الغالي!”
زادت ضحكة نغم صخبًا، كأنها تتحدى، ثم هتفت في وجهها: انتي هتكدبي علينا ولا على حالك؟ ديه مش طايج يوجف جدامك تلات ثواني… هيتچوزك كيف؟”
ضحكت إيمان بتهكم، وغمغمت بخبث يتقطر من كل كلمة: أحسن من الفجريه اللي مش بتكملها حتي خطوبها… وكل اللي يخبط ع بابك يوعالك وياخد ديله ف سنانه ويجول يفاكيك!”
هنا قطعت نغم ضحكتها فجأة، ارتسم الغضب على وجهها، واهتز صوتها لكنها هدرت بصرامة: انتي عيله جليلة الأدب وسفيها… وأنا مش هرد عليكي.”
نهضت ليلة على عجل، وسحبت نغم من ذراعها، وصوتها يحمل مزيجًا من العتاب والرجاء: ميصحش كده… عيب، انتو بنات عم، هملتوا إيه للغريب أومال؟ روحي يا إيمان دلوق.”
وضعت إيمان يدها على خصرها، وهزت جسدها بحنق، وصوتها يرتفع متحديًا: انتي هتزعطيني من بيت عمي وچدي إياك يا بت الكاتب؟!”
كانت الساحة تشتعل بنظرات متقاطعة، والهواء يتقلب بين الضحك والغضب …
حتي اهتز البهو على وقع صوت بدر الهادر، كالصاعقة التي شقت جدار السكون: بت دياب!
تجمدت الرؤوس في مواضعها والتفتت نحوه بدهشة، فإذا به يتقدم بخطوات غاضبة، وقبض ع ذراع إيمان بقبضة فولاذية، وهدر بوعيد:بت الكاتب، ستك إنتي واللي يتشددلك… وغير كده، هي مرت بدر الأنصاري… ولو صرمك ما يتحملش يچي عند مرتي ويوطي، يبجى ما تچيش بيتها تاني!
اشتعلت ملامح إيمان بالحنق، وزفرت غيظًا: بيتها كيف يـ…
لكن بدر قطع صوتها ودفعها بعيدًا بعنف يزلزل الموقف: بيتها غصب عنكي!
تعلقت ليلة بذراعه محاولة تهدئته: خلاص يا بدر، دي عيلة…
انحنت نغم تربت على منكبه وهمسة برجاء: خلاص يا ولد عمي، هملها المدبوبة ديه.
لكن إيمان أشارت بيد مرتجفة وادعت دموعًا زائفة، وهمسة بحنق: والله لجول لچدي…
رفع بدر إصبعه في وجهها بصرامة كحد السيف، وصوته كالرعد: لوع البنات ديه مش عليا يا بت. جولي لچدك، عشان أجوله على كلامك لمرتي، وهو يجطع خبرك.
ارتجفت إيمان، وابتلعت لعابها مذعورة، ثم أطرقت برأسها قائلة بانكسار: ماشي يا بدر… بكيفك.
ركضت خارج البهو، يجللها الغضب، بينما ظلت العيون تلاحقها…
عندها التفت بدر نحو ليلة، وفي عينيه حنان غامر يتدفق رغم الغضب، وهمس بصوت متهدج:حجك عليا يا روحي…
ارتبكت ليلة تحت وهج نظرته، وأطرقت بنبض يختلط بالشوق والتوتر: خـ… خلاص يا بدر.
أطرقت نغم رأسها بخجل وغادرت مسرعة، تاركة المكان مشحونًا.
اقترب بدر أكثر، وطوق خصر ليلى بذراعه، وجذبها إلى صدره بعشق جارف، تقلصت بارتباك، ووضعت كفها على صدره محاولة إبعاده، وهمسة بتلعثم: بـ… بدر…
انحنى إليها، وصوته يقطر شوقا واحتراقًا: ليل البدر… وحشتيني جوي. جلبي نار وجايده فيها عليكي يا ليلة…
دفعت صدره بغضب، وهتفت بحرقة: بدر… بس بعد عني!
تراجع خطوة والخذلان يكسو ملامحه، مزيج من الأسى والندم، وتمتم بصوت متكسر: ماشي يا ليلة… عارف إني زعلتك وحزنتك. بس إنتي عارفة… مكتش واعي… مكتش أنا.
اهتزت أنفاس ليلة وهي تتراجع ببطء، الدموع تنساب من عينيها، وغمغمت بمرارة: بعد عني يا بدر… كفاية اللي حصل.
مد يده المرتجفة يحاول الإمساك بها، لكنها دفعتها بعنف، وركضت إلى الداخل…
بقي مكانه، يلاحق ظلها بعينيه المشتعلتين عشقًا، وهمسة بحرقة:حجك عليا يا ليل البدر…
ثم مسح دمعة متمردة انحدرت على وجنته بكف مرتجف، واستدار وخرج، والحزن ينهش قسماته كنار تلتهم كل ما تبقى من كبريائه.
تسللت ليله إلى المطبخ بخطوات مرتجفة، لا تكاد تملك السيطرة على نظراتها التي تلاحق الباب خلفها،
كأنها تخشى أن يتبعها ظله. التقطت فاطمة ارتجافها بعين أم حنون، فتركت ما بيدها ونظرت إليها متفحصة، ثم سألتها برفق: مالك يا بتي؟
ازدردت ليلة لعابها بصعوبة، وأجابت بصوت واهن:
أنا عطشانة… يما.
مدت وهيبة يدها سريعًا، التقطت كوبًا وملأته بالماء، ثم قدمته لها وهي تحدق في وجهها بدهشة غامرة:
مالك؟ وشك كيف الكركم! يا بتي، إنتي زينة؟ ف حاچة هتوچعك؟
هزت ليله رأسها نافية، وصوتها يوشك أن ينكسر:
لا… بس زهجانه… بدي أساعدكم.
أومأت وهيبة، وهي ترفع صحنًا من على الطاولة، وتابعت بتوجيه حازم يخفي خلفه الحنو:إحنا خلاصنا طواچن المرج. هنروحوا الحوش نحطهم في الفرن ونرج الرجاج. وانتي… رصي اللحمة في الصواني، ورشيهم بالسمن البلدي، وكتري السمن زين، وشيعيهم ورانا. مع مريم، هتسبح عاصم وتندلي.
أومأت ليلة برأسها بطاعة صامتة، وهمسة بخضوع:
حاضر يا مرت عم.
غادرت وهيبة وفاطمة المطبخ بخطوات واثقة، بينما اقتربت ليلة من الطاولة وجلست ببطء…
شعرت بثقل ساقيها كأنها فقدت القدرة على حمل جسدها، فانحنت برأسها فوق كفيها، تبحث عن أنفاسها الهاربة، تحارب الدموع التي تهدد بالانفلات، وكأن جدران المطبخ صارت الحصن الأخير لضعفها.
……………………………..
في قلب الإسطبل،
كان الصمت يثقل الهواء إلا من أنين مكتوم يتصاعد من صدر الفرس الجريح…
مد فارس يده المرتعشة على عنق هزيم، يربت عليه بحنان يتفجر من قلب مكلوم، وصوته يتهدج كأنه يعتذر:
حجك عليا يا هزيم… والنعم مكتش أعرف اللي جرالك.
مال الفرس بعنقه نحو صاحبه، يستند إليه كمن يستجدي الأمان، أو كأن الألم الذي يعصف بجسده لا يجد له مهربًا إلا بين ذراعي فارس…
احتضنه فارس بقوة، عينيه تلمعان بدمع محبوس، وهمس بحرقة: هچبلك أحسن دكتور ف البر كلاته يا حبيبي.
ثم رفع رأسه بغضب يخالطه قلق وهدر صوته في الأرجاء: الدكتور عوج ليه يا سند؟
لم تمض لحظات حتى دلف سند ومعه الطبيب، وهتف بلهفة: اهو چي يا غالي.
أشار فارس بيد نافدة الصبر، وصاح بصوت يخنقه الجزع:
ارمح يا دكتور، الله لا يسئك.
اقترب الطبيب مسرعًا، جثا عند قوائم الفرس، وبدأ يمد يده بحذر و حنو، ثم غمغم مطمئنًا: خير يا فارس بيه… متخفش.
مال فارس بجسده إلى الأمام، عيناه متوسلتان، وصوته يتكسر برجاء مكتوم: اعمل اللي يطلع بيدك… وهديك اللي تجول عليه… هزيم لازمن يجوم منيها الوجعة ديه.
أومأ الطبيب بثبات، ورد وهو يهيئ أدواته: متخفش يا فارس بيه… ساعدني بس.
مد فارس يده دون تردد، يساعد الطبيب، بينما يده الأخرى ما انفكت تربت على عنق الفرس في حنان طاغ، كأنها تزرع فيه الصبر، وكأن قلب فارس نفسه صار الضماد الأول قبل أي دواء.
………………………….
في سرايا العزيزي،
كان الصمت يخيم على البهو الواسع، لا يقطعه سوى وقع عصا فوزي على الأرض وهو يتكئ عليها بثقل يشي بغضبٍ دفين…
دلف فواز بخطوات هادئة، يلمع في عينيه خبث مكتوم، وهتف بنبرة ظاهرها القلق وباطنها السخرية:خير يا اخوي، إيه اللي چري؟… أم عساف زينه؟
رفع فوزي رأسه ببطء، وقبضته تشتد على عكازه، وزفر بغيظ، ثم غمغم بصوت متحشرج من الغضب: وجعت من طولها… أول ما حست مرت طه هتروح بيت ناسها.
قطب فواز حاجبيه بدهشة متصنعة، واقترب خطوتين وهو يرد: هتروح ليه؟ مش جولت هتچوزها لولدك… أمير؟
هز فوزي رأسه، وقد علاه ظل من الحزن، وصوته جاء متهالكًا: أمير مرديش… ولا البِت. وأخوها چي يخدها… وإنعام متحملتش… ووجعت.
ارتسمت على شفتي فواز ابتسامة ماكرة لم يجرؤ أن يطلقها كاملة، فاكتفى بأن قال ببرود يقطر خبثًا: لو انت مجدرش علي أمير… ولا هو شايفلوا شوفه… أنا أجدر علي موسى واخليه يتچوز مرت ولد عمه… ويربي بت ولد عمه يا خوي.
تصلبت ملامح فوزي، وارتجفت يده فوق العكاز، وخرج صوته غليظا، يقطع الهواء:مرت ولدي وبته أمانة طه… وروحه هتغررغر ف حلجه آخر كلامه من الدنيا كان ريم وكيان أمنتك يا أبوي…وانا مش هضيع أمانة ولدي.. ومش هيهملوا بيتي واصل يا فواز.
انعكست في وجه فواز لمحة حنق مكتوم، لكنه حاول سترها، فانحنى قليلًا وقال بفتور: مش جصدي إكده… أنا بجول.
لكن فوزي لم يمنحه مجالًا، فقطع كلامه بحسم كالسيف، صوته يزلزل الجدران: نهايته… جطم الحديت أحسن من نحته يا ولد أبوي… أوعاك تچيب السال ديه تاني.
تراجع فواز خطوتين، وأومأ برأسه متصنعًا الندم، ثم تمتم بتهكم مستتر: حجك يا اخوي… سامحني.
خرج الطبيب ، وخلفه أمير وعساف،ومحسن
فنهض فوزي من مجلسه بعصاه، وخلفه فواز، وهتف بلهفة تكاد تكسر صوته: طمني يا دكتور… خير يا ولدي؟
أشار الطبيب بيده مطمئنًا، ورد بهدوء مهني: خير يا حج فوزي… الحچه بس ضغطها عالي جوي. أنا عطيتها حجنه هتظبط الضغط، وفهمت الدكتوره تجيس الضغط ليها كل ساعتين. الحجنه هتنيمها تمن ساعات، وبعد ما تصحي هتبجي زينه إن شاء الله.
أومأ فوزي، وعلى ملامحه ظل من الحزن، ثم سأل بصوت مثقل بالرجاء: يعني بعد ما تصحي… هتيجي زينه يا ولدي؟
أكد الطبيب بإيماءة قاطعة وقال:هتبجي زينه، بس أهم حاچه زي ما فهمتهم چوه… الزعل ممنوع. الضغط العالي ده ممكن يجلب لچلطه لا قدر الله ويدخلنا ف متاهه احنا ف غِنى عنيها.
عندها التفت فوزي نحو أمير، ونظر إليه بعتابٍ نافذ، وصوته ارتجف بالحسم: لاه، متخافش يا دكتور… محدش هيكدرها واصل… من دلوق.
ارتسم الغضب على وجه أمير، فحول نظره من أبيه إلى أخيه، ثم اندفع نحو سيارته بخطوات عاصفة، صعدها وأدار المحرك بقسوة، وانطلق مبتعدًا في سرعة جرحت الصمت.
تنحنح الطبيب، وأعاد كلامه برجاء: ياريت يا حج… وأنا هاجي أبص عليها بكره بإذن الله.
مد عساف يده إلى جيب جلبابه، وأخرج مبلغًا كبيرًا من المال، وضعه في كف الطبيب وهتف: متشكرين جوي يا دكتور.
أومأ الطبيب شاكرًا، واتجه إلى سيارته وهو يرد: شكرا يا عساف… وألف سلامه ع الحچه.
ارتفع صوت الجميع في وقت واحد:الله يسلمك.
وحين انصرف الطبيب، والتفت محسن الي فوزي بحزن وقال: أنا ههمل ريم لحد ما الحچه انعام تجوم بالسلامه يا عمي بس بعدها يبجي عدانا العيب عاد
اوما فوزي بحزن يفتت قلبه وغمغم: عداك العيب يا ولدي صوح
صافح محسن فوزي وعساف ،بتوتر جلي علي ملامحه وانصرف بخطوات ثقيله .. والتفت فوزي ببطء نحو عساف، بنظرة يختلط فيها الحزم بالغضب، وقال بصرامة: عجل أخوك يا ولدي.
ثم ألقى نظرة حادة نحو فواز، كأنها طعنة مضمرة، قبل أن يعود ببصره إلى عساف، يردد بلهجة قاطعة: جوله… لو خرج من تحت طوعي… يبجي لا ولدي ولا أعرفه.
رفع عساف يده مهدئًا، وأجابه بهدوء متزن:لا يا أبوي… الحكاية مش مستاهلها. أنا هتحدت وياه… وخير بإذن الله.
هز فوزي رأسه في صمت، بينما أسرع عساف بخطواته نحو السيارة ليلحق بأخيه، خوفًا من أن يتفاقم الشرخ بينهم أكثر.
……………………….
ف سرايا الانصاري….
في المطبخ الكبير المضاء بنور العصر، كان الصمت يخيم كستار ثقيل….
كانت ليلة منحنية على الصينية، يداها تتحركان بارتباك، كأنها تحاول أن تلهي نفسها عن صدى ما جرى ف الصباح… عن وجه بدر الذي لم يبارح خيالها منذ هروبها منه.
وفجأة، ارتجف قلبها حين دلف بدر بخطوات واثقة، كأن الأرض ضاقت لتجمعها به مجددًا. مد يده بالطبق وغمغم ببرود متكلف: خدي يا مريم.”
شهقت ليلة بعنف، كأن رئتيها ضربتا بصدمة مفاجئة، وارتجفت الصينية بين يديها حتى سقطت على الأرض وتناثرت قطع اللحم في كل اتجاه.
لم يكن سقوطها سوى صورة مرئية لارتباك قلبها وهي تراه أمامها فجأة بعدما أفلتت منه بالامس وف الصباح ..
شهقت بعنف، وارتسم الرعب في عينيها المبللتين بالدموع، وهي تردد كأنها تستجدي الصفح:يلهوي… عچبك كده؟! دي مرت عم حمرتهم ف الفرن وشيعتهم دلوق.”
أسرع بدر يهز رأسه بالنفي، وصوته متهدج بالارتباك: أنا مش جصدي… انتي اللي ادرعتي…كنت چايب الصحن اللي فيه سمن بلدي لهزيم…
انحنت ليلة تجمع القطع المبعثرة بارتباك، لكن بدر استغل لحظة انشغالها، وأغلق باب المطبخ بهدوء وهو يختلص النظر حوله بخفه …
ثم هبط بجسده إلى الأرض يساعدها على جمع اللحم، يده تسبق يدها في كل حركة، حتى وضعا القطع معًا في الصينية…
وما إن همت بالوقوف حتى قبض على يدها، وشدها نحوه.
رفعت رأسها لتجد عينيه متقدتين بشوق موجوع، فارتجفت وحاولت سحب يدها،
لكنه أحكم قبضته كمن يتمسك بخيط النجاة الأخير، وهمس بحرقة تتخللها رجفة:ليله… اسمعيني… احب علي يدك.”
حاولت النهوض، فقبض على ذراعها، وجذبها إلى صدره دفعة واحدة…سقطت بين ذراعيه مرتبكة، أنفاسها متلاحقة، وصاحت برعب مبحوح: بعد عني يا بدر! انت هتخوفني!”
لكن قبضته كانت أشد من مقاومتها، وصدره كان كالسجن والملاذ في آن واحد…
غمغم بصوت متحشرج يقطر من قلب مثقل بالوجع: مش جادر يا جلبي… والله ما جادر.”
ارتعشت يداها فوق كتفيه وصدره، وحاولت دفعه بضعف تغلفه الدموع، وهي تبكي بحرقة لا تجد لها مخرجًا سوى صرخة: بدرر…”
ضمها بدر بقوة يائسة، وكأنه يسرق لحظة من العمر قبل أن تضيع، وانحنى عليها بقبلة حارةٍ ارتجفت على شفتيها؛ قبلة اعتذار واعتراف معًا، يقطر من أعماقه قبل أن يخرج من فمه.
تجمدت ليلة، شهقتها الأولى مذعورة، تلتها شهقات متقطعة كأنها تلهث خوفًا، فيما دموعها تسيل وتختلط بأنفاسه المرتعشة.
وبين شفتيها، تسلل صوته المتهدج، محمل بندم ثقيل يمزق قلبه: سامحيني يا ليله… والله ما كنت ف وعي… يا حبيبتي، أنا عندي موت ألف مرة ولا أمد يدي عليكي.”
لكن في أعماق بدر كان النزيف أعمق من كل كلمة تفوه بها…
كان يعرف أن هذا الزواج ليس إلا ساحة عذاب، لعنة تطارد من يعشق،
وقدر ثقيل هو الذي اختاره بنفسه…وفضل أن يجذبها معه إلى الجحيم على أن يتركها تبرأ بحب آخر…
كان يده المرتعشة على ظهرها اعترافا صامتا بأنه جرها إلى طريق مظلم يعرفه ويقبله، فقط لأنه لم يحتمل أن يراها ملكا لغيره.
ظلت ليلة تقاومه بدموعها وشهقاتها، ويدها تدفع صدره المرتجف، وفمها يحاول الإفلات من بين شفتيه،
لكنه ضغط يده على ظهرها يقربها إليه أكثر فأكثر، حتى بدأت مقاومتها تذوب ببطء أمام حرقة صوته وندمه…
أرخت يديها المرتجفتين على كتفيه، كأنها تستسلم لحرارة حضنه التي حملت كل ذنبه،
بينما كانت قبلاته المرتعشة تكتب اعتذار و اعتراف بقدر مظلم اختاره وحده… ثم فرضه عليها.
ارتج جسدها فجأة مع أصوات الزغاريد التي دوت في أرجاء الثريا، واختلطت بضجيج صاخبٍ في الخارج..
دفعت بدر بقوة ونهضت سريعًا، وصاحت بصوت مذعور:
دية حس أمي!”
رفع بدر رأسه بدهشة
وشفتيه تلمع بأثر قبلاتهم والبرود يغزو ملامحه وغمغم بصوت متحشرج : أمك؟”
أومأت برأسها، ومسحت شفتيها بظهر يدها وهي تركض للخارج وهتفت : امااا!
وهناك، وسط جمع متأهب، علت زغرودة شهيه طويلة، ثم صاحت بصوت غارق بالشوق: يا قلب أمك يا بتي… اتوحشتك جوي!”
أسرعت ليلة وارتمت في حضن أمها، وغمغمت بصوت متقطع من البكاء: اتوحشتك أكتر… يما.”
شدتها شهيه إلى صدرها ومسحت على ظهرها بحنان حارق، والدموع تملأ عينيها:زينه يا بتي… وچوزك كيفه؟ زين؟”
هزت ليلة رأسها نافية، لكن صوت بدر، الواثق الباسم، انطلق من خلفها قبل أن تستطيع الكلام: زين يما… الله يبارك فيكي. وانتي كيفك؟”
التفتت شهيه نحوه، عيناها تلمعان بدموع حارة، وضمت بدر وهي تردد بلهفة: زينه يا ولدي… مبروك يا ولدي.”
اقترب بدر أكثر، وحاوط خصر ليلة النحيل كأنه يعلن ملكيته أمام الجميع، وغمغم بثقة هادئة: الله يبارك فيكي.”
شهقت ليلة وهي تحاول التملص من قبضته، لكن شهيه لم تلحظ سوى دفء المشهد وابتسمت بحنان كبير، تلمح من بعيد مناغشات بدر لابنتها.
اقتربت دلال وهتفت بفرح غامر: مبروك يا حبيبتي… مبروك يا بدر… ربنا يرزجكم الخلف الصالح.”
ضمتها ليلة وهمسة بخفوت مكسور: الله يبارك فيكي يا مرت أخوي.”
وأومأ بدر بوقار وهو يردد: الله يبارك فيكي.”
ثم نزلت مريم وخلفها نغم، والهتافات تتعالى:أهلا… أهلا! ديه البيت فج نوره يا حبيبتي!”
ضحكت شهيه من بين دموعها وضمتهم واحده تلو الأخرى وهتفت: ديه نوركم يا بتي.”
تبادلوا السلام والتحيات في بهو الثريا، والضحكات تتناثر بين الوجوه،
بينما كان بدر يحاوط خصر ليلة كأنه يخشى أن يتركها للحظة. عيناه تلتهمان ملامحها بعطش لا ينطفئ، فيما هي تقف متجمدة، لا تقوى على الرد ولا على صد تلك النظرات.
قطعت شهيه المشهد بنبرة حانية وهتفت: أومال الحچه وهيبه وفاطنه وين؟”
أشارت مريم نحو الخارج وقالت: حدي الفرن… هروح أزعج عليهم.”
لكن شهيه أمسكت بيدها سريعًا وهتفت: لاه… خليهم يخلصوا يا بتي، متعطلهمش.”
أومأت مريم برأسها موافقة:حاضر.”
ثم أشارت مريم إلى الداخل، وصوتها يفيض دفئًا: اتفضلوا. يلا يا نغم، اعملي عصير على ما نحطوا الغدا.”
هزت نغم رأسها بحماس، وتحركت نحو المطبخ قائلة:
من عنيه.
ضحكت شهيه وهي تراقب بدر وليلة الغارقين في صمت محموم لا يشبه سكون الآخرين، ثم غمزت بدر وهي تقول بمزاح خفيف: اباي يا بدر… هملها يا ولدي، تجعد چاري هبابه.”
ضحك بدر بمرح عال، وشد ليلة إلى صدره أمام الجميع وهتف بعناد ومرح: أعمل إيه يما؟ بتك السبب… مجدرش أشبع منيها!”
شهقت ليلة بخجل شديد، واحمرت وجنتاها كقمر محاصر بالغيوم، بينما دمعة صغيرة ارتجفت بطرف عينها من فرط التوتر…
لكن ضحكة شهيه كانت واسعة، صافية، تحتضن اللحظة بسعادة أم لم تر ابنتها مبتسمة منذ زمن.
هتفت دلال وهي ترفع يدها بالبركة:يا خوي… الله أكبر! ربنا يحميكم من شر العين… عين الحسود فيها عود.”
دلفت فاطمة وخلفها وهيبة، وانطلقت الأولى بصوتها المفعم بالدفء قائلة بسعادة غامرة:يا خطوه عزيزه يا ام صابر… نورتونا يا خيتي.”
نهضت شهيه من مكانها، وفتحت ذراعيها مرحبة، كأنها تعانق الحياة من جديد:منور بيكم يا خيتي.”
تقدمت فاطمة وضمتها بشوق قديم، وهتفت: كيفك يا خيتي؟”
ربتت شهيه على منكبها برفق، ونبرتها تموج بالشجن:
الحمد لله… زينه جوي. بس بيتنا ضلم… وبينكم فچ نوره.”
ضحكت فاطمة والفرحة تلمع في عينيها:صوح يا خيتي… بيتنا فچ نوره، ودررنا زادة دره بي ليله.”
أطلقت شهيه زغرودة طويلة، فاهتز البهو بفرح صاخب، بينما هتفت وهيبة بمرح لا يقل عنهم:حطوا الوكل يا بنيتا!”
أومأت نغم ومريم ومعهما العاملات، وتحركن إلى المطبخ ليضعن الطعام على الطاولة… وما هي إلا لحظات حتى جلس الجميع في جو عائلي غامر، تسوده الألفة والضحكات المتشابكة.
قالت وهيبة وهي تنظر إلى الفتيات: شيعي للغالي وسند وصهيب يچوا يتغدوا يا نغم.”
أومأت نغم، ثم التفتت إلى إحدى العاملات وهتفت: روحي يا صفاء… ازعجي عليهم.”
أجابت صفاء بخضوع سريع: حاضر يا ستي.”
جلس بدر إلى جوار ليلة، عينيه لا تفارق وجهها، ثم انحنى برأسه نحوها وهمس بصوت خافت يشعل الدم في عروقها:خلي اللحمه اللي وجعت علي الأرض جدامي أنا.”
نظرت له بدهشة متوترة وهمسة: ليه؟”
مرر يده على ظهرها بخفة مشتعلة، ثم انزلقت أنامله بخبث نحو فخذها، وهمس بصوت مبحوح: كده.”
تململت ليلة بتوتر شديد، وحاولت سحب يده المستعرة وهمسة برجاء مرتجف: هتجرسني… أبوس إيدك يا بدر.”
التقط هو قطعة لحم ووضعها في فمه بلامبالاة مصطنعة، ثم غمغم بعبث مفضوح: اللحمه ديه مالها يما؟”
جحظت عينا ليلة برعب، والتفتت الأنظار نحوها بدهشة، فسارعت فاطمة بالسؤال: مالها يا ولدي؟”
أمال بدر رأسه بمكر، وغمز ليلة أمام الجميع وهو يقول:
تكون ليله نسيت… ورشت عليها عسل بدل السمن.”
انفجر الجميع ضاحكين، وضاع صوت ليلة المرتبك بين الصخب، فالتقطت كوب الماء بيد مرتجفة، وارتشفت رشفة صغيرة كأنها تستعيذ من نار حارقة تسري في جسدها.
لكن بدر لم يتركها تستعيد أنفاسها، سحب يدها بخفة وقربها منه، وهمس بصوت مشبع بخطر دفين:هتتلومي جوي انتي… يا ليل البدر.”
وضعت كفها المرتجف على صدره تحاول إبعاده، وهمسة بخوف مبلل بالرجاء: لم روحك… أبوس إيدك.”
انحنى أكثر، وصوته يتهدج بخشوع مبحوح: أبوس رچلك أنا… اديني فرصه أبوسك.”
شهقت ليلة بخجل مكتوم، ولكزته في صدره بضعف أوشك أن يفضح، بينما دمها يضج في عروقها كطبل معلن سرها المخفي.
دلف صهيب يتقدمه فارس، وصوته يعلو بثقة كمن يطمئن أهله: هيخف يا ولد عمي متجلجش، هو الدكتور هيچي يبص عليه تاني متي.
أومأ فارس برأسه، وقد بدت على ملامحه مسحة قلق مكتوم، وقال: المفروض يچي تاني دلوق، شيعت عويس يچيبه.
رمق صهيب بدر بنظرة غاضبة، ثم اقترب منه ولكزه في منكبه، غمغم بصوت خافت لكنه نافذ: انت جافش فيها كده ليه ياض؟
ارتفع حاجب بدر في عبث ولامبالاة، وأجاب بابتسامة متحدية: وانت مالك؟ مرتي وأنا حر.
شهقت ليلة بخجل عارم، وحاولت أن تنتزع ذراع بدر عن خصرها، لكنه زاد من ضغطه عليها، وأمال رأسه إلى أذنها وهمس بعبث ساخر: خلي أمك تفرح بينا بدل ما تتكدر علينا.
لكزته بخفة، وهمسة برجاء مرتجف: احترم نفسك… اوع.
ارتفع صوت شهيه بدهشة، كأنها تستنكر ما يحدث وتبرره في الوقت ذاته: اجعد يا ولدي، وهملهم… دول عرسان، كان المفروض ياكلوا ف جاعتهم لحالهم، بس بدر كتر خيره همل ليلة تاكل معانا… لأجل ما أشبع منها هبابه.
أومأ صهيب بسخط، وكأن ناره تشتعل من تحت جلده، وتمتم متهكمًا: فيه الخير يما… ماشي.
ثم مال على بدر مرة أخرى، ولكزه بغضب وقال بين أسنانه: استغل الفرصة علي كيفك؟ يا فرحتي فيكي… هو ديه آخرك يا عيني؟
بادله بدر لكزة أكثر عنفًا، وعيناه تضيقان بحدة، وغمغم بحنق: أبو حرج الدبش اللي هيتحدف منيك… امشي.
في تلك اللحظة غامت عيني فارس، وغرق في ذكريات الأمس التي ما زالت تشتعل في صدره
لمحة سريعة من حضنها، لحظة امتزجت بالدفء وهي أمامه على ظهر الحصان، ثم تمتم لنفسه وهو يبتسم ابتسامة حزينة: والنعم… حضنها لوحده نعيم بيكفيني.
جلس الجميع أخيرًا يتناولون الطعام في جو بدا للعيان مفعمًا بالسعادة،
بينما التوتر يتسلل خفيًا بين المقاعد؛ صهيب يرمق بدر بحنق متصاعد، وبدر يبادله نظرات باردة متعمدة، كأن بينهما صراعًا صامتًا لا يسمعه أحد.
مر الوقت سريعًا، وانسابت الساعات بينهم وهم يتبادلون أطراف الحديث،
حتى دخلت نغم تحمل صينية العصير، توزع الأكواب بابتسامة خجولة… الجو كان هادئًا ودافئًا،
لكن ما لبث أن انقلب فجأة حين اندفع عويس إلى الداخل، مطأطئ الرأس، وهتف بصوت مرتجف:
فارس بيه… الدكتور اندلي إچازته.
هب فارس واقفًا بعنف، وصوته يجلجل كالرعد:
كيف يدلي إچازة وهو عارف حالة هزيم؟
رفع عويس يديه متوسلًا، وصاح بارتباك: مخبرش يا بيه…
أشار له فارس بيده في يأس مكبوت، وصدره يعلو وينخفض كبركان يوشك أن ينفجر: روح… ومتعودش غير بدكتور…بدل ما هولع فيك!
أومأ عويس بذعر، وانسحب مهرولًا إلى الخارج، لكن سرعان ما اصطدم في طريقه بـ سند، فزم الأخير حاجبيه بغضب وهتف: فتح يا أعمى!
رفع عويس يده معتذرًا، وهو يلهث: لا مؤاخذة جنابك…
أشار له سند بازدراء، وهتف بحدة: خلاص… غور من وشي!
ركض عويس مبتعدًا، فيما دلف سند إلى الداخل، نظر إلى وجه فارس المتجهم، وسأله بصوت خفيض: مالك؟
لوح فارس بيده بعنف، وصاح من بين أنفاس متقطعة:
الدكتور ابن الـ**** اندل إچازته وهو عارف حالة هزيم! زين ديه دكتور… كيف ديه؟
قطب سند حاجبيه بدهشة، ثم غمغم مهدئًا: طب هدي حالك… واتصل ع أمير العزيزي. أكيد عنديهم دكتور لمزارع الخيل بتاعتهم.
ارتعشت أنامل فارس وهو يمسك بهاتفه، دقات قلبه تدوي في صدره حتى كاد صوته يسمع، ثم همس كأنه تمسك بخيط نجاة: أيوه… صوح.
خرج فارس وهو يضغط الأرقام بتوتر، وضع الهاتف على أذنه، وبدأ يذرع الحديقة بخطوات عصبية… لحظات حتى جاءه صوت أمير مثقلا بالهموم: أيوه يا غالي…
أجابه فارس بلهفة لاهثة، يدور حول نفسه كالمحاصر:
بجولك يا صاحبي… بدي الدكتور البيطري اللي عنيدكم!
انعقد حاجبا أمير في دهشة، وصوته تسلل مرتجفًا بالخوف: طوفان زين يا غالي؟
أومأ فارس سريعًا، وأجاب: زين يا خوي متجلجش… ديه هزيم، جادت النار ف الأسطبل واتحرج. والدكتور ابن المره * غار إچازته.
نهض أمير من مجلسه بصدمة، وهتف: يادين أمي ع الغباء! كيف يندلي ويهمل الفرس يموت؟ ومين اللي جاد النار؟
كور فارس قبضته، عيناه تلمعان ببرق الغضب، وزمجر:
النار سرحت لوحدها… عشيه الغفير كان بيجيد نار عشان يدفه… والدكتور ده… بس ألمحه ف البلد، هخليه يمشي يتلفت كيف المخويت!
تحرك أمير بخطوات متسارعة إلى خارج غرفته، وهو يردف: ع العموم، إحنا معندناش دكتور… بس أختي حبيبة، هي لسه هتدرس…بس أوعدك شاطرة جوي.
خفق قلب فارس بشدة حتى كاد يحطم ضلوعه، وانحسرت أنفاسه داخل صدره، فتمتم متلهفًا: طـ… طب ينفع تچي بيها دلوق؟ ف علاج لازمن الفرس ياخده دلوق.
طرق أمير باب غرفة والدته، ثم قال بثبات: مسافة السكة يا غالي.
أطبق فارس عينيه لبرهة، كأنما حمل عنه ثقل جبل، ثم همس بصوت متهدج: تسلم يا حبيب الغالي.
أغلق الهاتف أخيرا، وارتمى على أحد مقاعد الحديقة، عيناه لا تنفكان عن التعلق بالبوابة، وقلبه يخفق بعنف بين رجاء وخوف.
…………………………
في غرفة انعام
فتحت حبيبة الباب بخطوات حذرة، وصوتها مبحوح بالقلق: خير يا أخوي؟
أدار أمير رأسه نحوها، نظر إلى والدته النائمة بعمق، ثم همس: عاملة كيف دلوق؟
أومأت حبيبة برأسها سريعًا، وهمسة بخفوت: زينة يا أخوي… هتصحي تيل ريجها وتنام تاني.
أشار أمير برأسه برضا، ثم رفع عينيه إليها وقال:
طب خير… تعالي البسي بدك معاي… واحد صاحبي النار جادت ف الأسطبل وفرس عنديه اتحرج.
تسمرت حبيبة مكانها، اتسعت عيناها برعب، وانقبضت أصابعها على حافة الباب كأنها تستند للحياة نفسها، وغامت دموعها وهمسة بارتجاف: يلهوي!… صاحبك مين؟
قطب أمير حاجبيه بدهشة من ردة فعلها، وقال بنبرة ساخرة: على أساس لو جلتلك اسمه هتعرفيه طوالي؟… طب الغالي يا ستي.
زفرت حبيبة بارتياح مكتوم، وكأن روحها عادت لتوها إلى صدرها، ورددت بارتجاف: أيوه… طب أنا هلبس وهندلي وراك.
أومأ أمير محذرًا: طب متعوجيش…
هزت رأسها بسرعة، ثم اندفعت إلى غرفتها، تبدل ملابسها بيدين مرتعشتين، وقلبها يدق بعنف وهمسة لنفسها كمن يفضح سرا لا يقال: الحمد لله… جلبي كان هيجف، فكرته فارس… ويكون الفرس اتحرج بسببي…
في سرايا الأنصاري،
مرت أكثر من ساعة، وفارس يجوب الحديقة بقلق عاصف، خطواته لا تهدأ، عيناه لا تفارق البوابة، يعد الدقائق كأنها سنوات.
وفجأة، توقفت سيارة عند المدخل. خرج أمير أولًا بخطوات واثقة،
وما إن ترجلت حبيبة من خلفه، حتى تعلق بصر فارس بها كأنه يرى طوق نجاة وسط الغرق…
ارتسمت على ملامحه ابتسامة واسعة، دافئة، حنونة، مسح بها القلق عن قلبه في لحظة واحدة… تحرك نحوها بخطوات متسارعة، مشدودًا إليها كما يشد المغناطيس إلى معدنه.
أما هي، فما إن وقعت عيناها عليه حتى شهقت بذهول، وارتعد قلبها رعبا…
شعرت وكأن نظراته تلتهمها التهامًا، كأن كل سرها مكشوف أمام عينيه… وعجزت عن الحركة، وتسمرت مكانها، يفضحها ارتجاف أناملها ونبضها المشتعل
ووووووو
ساحره القلم .. سااره احمد 🖋️
