عشق ملعون بالدم

عشق ملعون بالدم(الفصل الخامس)

عشق ملعون بالدم(الفصل الخامس)

فقد أحببتُك، لا كما يُحبّ الناسُ في وضح الضوء، بل كما تُحبّ الأرواحُ في صمت الخفاء.
وحين أحببتُك، نزعتُ عنّي كلَّ ما يسترُ القلب من حذرٍ وتجمُّل، ووقفتُ أمامك كما خُلِقتُ أولَ مرّة… عاريةً من الادّعاء، نقيّةً كطفلةٍ في حضنِ دهشتها الأولى.

أهديتُك نوري حين كان الكونُ حولي مظلمًا، وظلالي حين استوحشتُ الضوء.
سلّمتُك ما تبقّى من قوتي، وما تكسّر من ضعفي، وما تبعثر من ضحكتي على طرقات الخيبة.
أودعتُك رعشةَ أنفاسي حين يخونني الاتّزان، وارتجافَ يديّ حين يفيض الشوقُ عن احتمالي.

فتحتُ لك صدري كمدينةٍ أنهكتها الحروب، تستقبلُ الفاتحين لا بالبنادق، بل بالسلام.
أطلقتُ إليك أسراري كما تُطلقُ الطيورُ صغارَها نحو الفضاء، علّها تجد مأمنها في صدرك.
وسلّمتُك نفسي لتعرفني كما أنا…
بكلّ ما فيَّ من صدقٍ وخللٍ، من قداسةٍ وخطيئةٍ، من نورٍ يهب الحياة، وظلمةٍ تخشى الفقد.

فكن لي وطنًا حين يضيقُ بي المنفى، وسماءً حين تنطفئُ في صدري كلُّ النجوم.

تحرك نحوهم دون وعي، بينما حبيبة شهقت بذهول ورعب، إذ شعرت أنه يلتهمها بنظراته، فارتبكت وتراجعت بخوف خلف شقيقها

اندفع فارس، وضم أمير بين ذراعيه وربت على ظهره وهتف بصوت مفعم بالامتنان: تشكر جوي يا صاحبي… چبت أختك في الوجت ديه.”

ابتسم أمير وربت على كتفه بحميمية: إنت أخوي يا غالي… بس الغفير الغبي لازمن يتربى.”

جحظت عينا حبيبة، وضربت وجنتها بكفها كمن استيقظ على كابوس، وهمسة بصوت مذعور: ليلتك الطين يا حبيبة… حرجتي الفرس.”

اوما لها فارس بخفه ، واشتعل الغضب في عينيه، وتوعد لها من خلف ظهر أمير وغمغم بغل: مكتوب يا أخوي… بس أنا هربيه ربية صوح… أوعي تشيل هم.”

أشارت حبيبة بيديها المرتعشتين، وهزت رأسها نافية، ثم ضمت كفيها كمن يطلب الصفح.

ابتعد أمير خطوة وأمسك بذراع فارس، يهدئه وغمغم بثقة: متجلجش… حبيبة هتدويه، وهيجوم بالسلامة إن شاء الله.”

التفت فارس إليها وقال بابتسامة ماكرة، ورفع حاجبه  بمكر: ده ضروري يا دكتوره… ولا إيه؟”

ازدردت لعوبها بتوتر، وأومأت برأسها هامسة بصوت خافت: أيوه… أومال.”

ارتسمت على فم فارس ابتسامة جانبية عابثة، وأشار بيده نحو الإسطبل: اتفضلوا من هنه.”

تحرك بخطوات واثقة، تبعه أمير وحبيبة حتى دلفوا إلى الداخل. أشار فارس إلى الفرس وهمس:أهو… هزيم.”

شهقت حبيبة بفزع وامتلأت عيناها بالدموع عندما وقعتا عيناها على الحرق الغائر في بطن الفرس، كأن النار اشتعلت الآن أمام ناظريها من جديد…

اقتربت منه وتهاوت علي ركبتاها بجانبه، وامتدت يدها المرتعشة تتحسس أطراف الجرح بحذر، ثم عادت لتغطي فمها لتكتم شهقة أخرى.

همسة بصوت مبحوح يكاد يختنق: ياجلبي … ده متعذب جوي… سامحني يا هزيم، سامحني…

انحني أمير بجوارها، وربت على كتفها بلهجة مطمئنة لا تدري أهي لها أم للفرس: اهدي يا حبيبة… انتي دكتوره، هتعرفي تعلچيه صوح. وهزيم جوي وشديد ، متخفيش.”

أومأت برأسها سريعًا وهي تمسح دموعها بكف مرتعش، تحاول أن تستجمع قوتها…. مدت يدها إلى حقيبتها الطبية، أخرجت زجاجة محلول ملحي وأدواتها، ثم التفتت إلى فارس بعينين غارقتين في القلق: لازم يتثبت… الحرج عميج والوچع هيوچعه أكتر وأنا هنضفه.”

اقترب فارس، قبض على لجام الفرس بحزم، ويده الأخرى تربت على عنقه في حنو صبور. عينيه لم تفارق وجهها،

وكأن كل رعشة في أصابعها تفضحه أمامه وحده. هو فقط يدرك أنها ليست دموع طبيبة أمام مريض، بل دموع ذنب لا يقوى قلبها على احتماله.

بينما كانت تغسل الجرح بالمحلول، ارتعشت يدها مرة أخرى، فانحنى فارس أقرب وهمس بصوت خافت لا يسمعه أمير: ثبتي يدك يا حبيبة… بدل ما امير يحس!!

ارتعشت شفتاها، لكنها تماسكت، وأومأت كأنها تفهم التهديد والستر معًا…

صبت المطهر برفق، بينما شهق الفرس بألم هز صدره، فشهقت هي معه، وغلبها البكاء من جديد.

قال أمير بلهجة مشجعة وهو يظن أنها تبكي لأجله:
شدي حيلك ياخيتي … هو هيجوم كيف السبع، إنتي اللي هتنجديه.”

لم تجبه، بل أخذت نفسا عميق، وبدأت تدهن مرهم الفضة على موضع الحرق بحذر، كأنها تحاول تضميد قلبها لا جسد الحيوان وحده…

وفي كل لمسة، كان فارس يراقبها بعين لا تخلو من قسوة ممزوجة بحنو غامض، كأنه يعلن لها بصمته أنه يعرف سرها، لكنه اختار أن يحمله معها.

أحكمت حبيبة يدها حول الشاش المعقم، تتنفس ببطء كمن يقاتل ارتجاف قلبه قبل ارتجاف أصابعه…

مسحت بقايا المطهر، وبدأت تدهن المرهم الملطف على موضع الحرق… الفرس يئن ويضرب بحافره الأرض في موجة وجع، فتشهق هي مع كل حركة، كأن النار ما زالت تلسعها في أعماقها.

رفع فارس يده يهدئ الفرس، صوته منخفض عميق:
هدي يا هزيم… هدي يا حبيبي.”

لكن عينيه لم تكن على الفرس…كانت على حبيبة.
تتبع نظراتها المذعورة، دموعها المقهورة، الرعشة التي تفضحها رغم محاولتها التماسك… شيء ما اشتعل بداخله، خليط غريب من غضب وحنو، من رغبة أن يوبخها وأن يحتضنها في اللحظة ذاتها.

انغمس أمير في متابعة ما تفعله، لم ينتبه إلى هذا الصمت المعلق بينهما، ولا إلى الشرر الدافئ الذي يطل من عيني فارس كلما انحنت هي بجوار الفرس.

قالت بصوت مخنوق وهي تلتفت لأمير: هو محتاچ محلول… الحرج صعب وبيفجد سوائل.”

أومأ أمير سريعًا وقال : اعملي كل اللي يلزم، أنا معاكي.”

امتدت يد فارس دون أن يتكلم، تناول منها الكانيولا، وغرسها في الوريد الوداجي بخبرة يده القوية…

لم ينظر للفرس ولا لإبرة، بل ظل معلقًا بعينيها، يراقبها وهي ترفع كيس المحلول وتثبته…

لحظة صامتة التقت فيها نظراتهم ..وتقاطعت فيها أنفاسهما، كأن الفرس بينهما صار مجرد ستار يحجب اعترافًا لم يحن وقته بعد.

حاولت أن تفر من نظراته، أن تركز في شد الضمادة حول الجرح، لكن عينيه كانتا تطاردانها بلا هوادة، كأنهما تقولان لها ما لم يتجرأ لسانه على قوله…

كأنه يراها… يرى ذنبها مختومًا على ملامحها، ويرى وجعها غائرا في عينيها، كان يتمنى، بكل يأس متشبث بالحياة، لو استطاع أن يرفع عينيه عنها لحظة،

أن ينجو من سجن نظراتها، أن يهرب من قبضة لا ترى. لكنه كلما حاول الفكاك، ازداد يقينًا أنه أسير أمامها، مكبل بسحر لا يقاوم، سحر يجرد إرادته من قوتها ويستنزف أنفاسه حتى العجز، كأن عينيها قدر نافذ يسلبه حرية الوجود.

انتهت أخيرًا من تثبيت الضمادة، ثم مسحت جبينها بظهر كفها المبلل بالدموع والعرق. نهضت متثاقلة، ونظرت إلى الفرس وكأنها خرجت من معركة.

ابتسم أمير وغمغم براحة:براوه عليكي يا حبيبة… عملتي اللي مجدور عليه. الباجي على ربنا.”

لكن فارس لم يقل شيئًا.
اكتفى بأن يثبت نظره عليها، ابتسامة صغيرة ساخرة تمس طرف فمه، وفي عينيه نار أخرى لا يراها غيرها.

رن هاتف أمير، فابتعد بخطوات مسرعة وخرج من الإسطبل، يلوح بيده: استنوني، مكالمه مهمه.”

لم ينتظر فارس لحظة. خطف ذراع حبيبة بقوة، جذبها بعيدًا عن باب الإسطبل، حتى التصقت بجدار خشبي في الركن المعتم…

ارتجفت، ورفعت عينيها المذعورتين إليه، فيما كان هو يقف أمامها كالسد، يحاصرها بعينيه قبل يديه.

زمجر بصوت منخفض مبحوح: عاچبك كده؟! هزيم كان هيموت بسبب تهورك! واعيه كيف كت هضيعيه؟!”

أجهشت همسه وهي تحاول الإفلات:والله ما كان جصدي… أنا… كت بدي اعاود فرس أخوي… ما حسبتهاش.”

اقترب أكثر، أنفاسه الساخنة لامست وجهها، وعينيه تتقدان بلهيب لم تعرف له اسمًا: انتي متحسبتهاش! والنتيچه فرس غالي علي جلبي يتحرج بالنار… انتي مفكره ديه لعبه يا دكتوره؟”

شهقت وهي تلصق ظهرها بالخشب أكثر وهمسة: امانه سامحني…  أنا غلطانه… والله غلطانه.”

أطبق كفه على معصمها، ضغط عليه بقوة محسوبة، ثم همس بنبرة حادة لا تخلو من عبث: السماح مش ببلاش… له تمن.. من اهنه ورايح هتيچي كل يوم… مرتين… صبح وليل… تعالچي هزيم لحد ما يخف… مفهوم؟”

أومأت برأسها سريعًا، والدموع تلمع في عينيها وغمغمت :
هعمل كده…وحدي… مش ههمله غير لما يخف أنا والله مش هجدر أنام من تأنيب الضمير.”

ابتسم نصف ابتسامة ماكرة، اقترب أكثر حتى شعرت بحرارة جسده تكويها وقال بصوت خافت مثير :زين جوي… بس أنا مش ههملك وحدك. سرك في يدي… وديه معناه إنك تحت يدي بردك .”

ارتعشت شفتاها وحاولت التملص منه وهمسة:تحت يدك كيف يعني ؟”

مد يده بجرأة، ولمس وجنتها، وغمغم وهو يحدق في عينيها: يعني أول حاچه… رجم تليفونك.”

شهقت وهي تدفع يده بتوتر: لأ! مستحيل.”

اقترب أكثر، صوته صار همسا مهددًا:  رجمك يا حبيبه ولا أجول لأخوك إنك السبب في اللي چري لهزيم؟”

ارتجفت كطفلة مذنبة، ونظرت له بعينين دامعتين:حرام عليك يا فارس … متعملش كده… أنا… أنا هديك الرجم.”

ابتسم فارس، ابتسامة نصر ممزوجة برغبة عارمة، وهو يراقبها تسجل الرقم بارتجاف في هاتفه. رفع عينيه إليها بعد أن حفظه، نظرته ملتهبة، لا تخفي ما يعتمل في صدره: براوه… كده تبجي عاجلة. من النهرده، رجمك معايا… وديه اول حاچه خدتها منيكي “

شهقت، كأن كلماته عرت سرًا لم تتجرأ أن تعترف به حتى لنفسها، واحمر وجهها بخجل حارق، بينما كان هو يزداد اقترابًا، مستمتعًا بكل لحظة ضعف وارتباك تفضحها أمامه.

أطبق فارس بيده على معصمها، سحبها خطوة أعمق في الركن حتى صارت حبيسة جسده والجدار الخشبي خلفها. عيناه متقدتان كجمر، تلتهمها بلا هوادة، بينما أنفاسه الحارة كانت ترتطم بوجهها فتضاعف رجفتها.

قال بصوت خافت مشبع بالتهديد والحنان معًا: انتي عارفه كيف أنا اللي ساتر عليكي؟ فاهمة يعني إيه السر ديه بيني وبينك؟”

ارتجفت شفتاها وهزت رأسها بيأس وهمسة :أنا… أنا مش جصدي… والله ما جصدي… غصب عني يا فارس.”

ابتسم ابتسامة ساخرة، ثم انحنى أكثر حتى صارت شفاهه قريبة من أذنها: غصب عنك… طب وأنا؟ غصب عني عيني مش جادرة تسيبك من ساعه ما شفتك. غصب عني اول ما وعيتلك دلوق جلبي چري ناحيتك كيف المخوت.”

شهقت وهي تحاول دفع صدره بكفيها المرتجفتين، لكنه قبض على يدها، رفعها وألصقها بجدار الخشب فوق رأسها، جسده يضغطها بقوة محسوبة. همس بصوت وقح لكنه دافئ: إوعكي تفتكري إني ههملك تفلتي مني… إنتي بجيتي في إيدي، زي ما رجمك في موبايلي دلوق”

همسة برجاء مخنوق: سيبني يا فارس… بلاش كده… بالله عليك ميصحش كده.”

ضحك بخفوت، ثم مرر أصابعه على كفها المعلقة فوق رأسها، ضغط برفق أولًا ثم بعنف محسوب جعلها تأن. قال بجرأة فاضحة: ميصحش ايه يا حبة الجلب الميت؟ ميصحش ابعد؟! ولا اجرب اكتر؟!

احمر وجهها حتى غطى الدم عينيها، أطرقت تحاول الهروب من نظره، لكنه التقط ذقنها بأصابعه الخشنة وأجبرها أن ترفع عينيها إليه. نظر إليها طويلًا، ثم همس وهو يوشك أن يلتصق بها أكثر: الطله في عنيكي يا حبيبة… بالف عمر والف حضن والف دواء

رفع كفه العريض ببطء، مر بأصابعه على خدها المبلل بالدموع، لمسة طويلة، ساخنة، مطبوعة كجمر لا يمحى. لم يتركه إلا بعدما ضغط برفق عند نهاية وجنتها، وكأنه يضع توقيعه عليها.

شهقت حبيبة وأطبقت جفونها في خجل حارق، كأن الأرض انزلقت من تحتها. وقلبها يخبط بجنون، وحرارة اللمسة تسري في دمها كالنار.

همس قرب أذنها وهو يبتسم بمكر مجنون: العلامة ديه… متتمسحش. كل ما تلمسي وشك، تفتكري انك كتي تحت يدي!!

تراجع نصف خطوة، يشيح بنظره ناحية الباب كأنه لم يفعل شيئًا، بينما في عينيه بركان يوشك أن ينفجر. وفي اللحظة نفسها دخل صوت أمير يقترب، ينهي مكالمته.

ابتعد فارس قليلًا، أعاد ملامحه إلى صلابتها المعتادة، ثم أدار رأسه نحو حبيبة في لمحة أخيرة… نظرة عاشق متملك، وابتسامة تحمل جنونه كله.

أما هي، فبقيت مكانها، ظهرها ملتصقًا بالجدار، وخدها يشتعل بالعلامة التي تركها، لا تدري هل تبكي من الخوف… أم من الجنون.

أشار أمير برأسه وهو يقطب جبينه بدهشة صادقة:
وين حبيبه؟”

رد عليه فارس وهو يرفع يده مشيرًا ناحية زاوية القاعة، وغمغم بفتور: أهي… كانت هتغسل يدها.”

التفتت حبيبة فجأة، لتجد نفسها بجوار حوض صغير وصنبور يتدلى بخجل من الجدار،

ثم عادت بعينيها إلى فارس بحدة مشوبة بالغضب المكتوم. تقدمت نحو أمير، وصوتها مبحوح بالدموع وهمسة برجاء متألم : أنا بدي أروح.”

لمح أمير الارتجاف في نبرتها، فعانقها بنظرات حانية، وصوته يقطر تفهمًا: حبيبه هتتأثر بسرعه… أكيد صعبان عليها هزيم.”

تدخل فارس بابتسامة جانبية عبثية، صوته يتسلل مثل وخزة: حنونه جوي.”

التفتت إليه بطرف عينيها، نظرة لاذعة تنضح بالحنق، ثم أدارت ظهرها وغادرت بخطوات سريعة تحمل معها كل الغضب المكبوت. تبعها أمير بخفة ضاحكًا بمرح صاخب، فيما هتف فارس من خلفهما: هستناكم الصبح.”

استدارت حبيبة للحظة، وقالت بصرامة مشبعة بالجدية:أول غيار يتغير بكره بليل.”

أومأ فارس برأسه، وفي عينيه لمعة عبث متعمد، وهو يردد:ميضرش يا دكتوره… بردك هتچي.”

ضغطت على شفتيها بعناد مكظوم، وغادرت بعجلة. لوح أمير بيده إلى فارس وهتف بحيوية: سلمته يا أخوي.”

ابتسم فارس ابتسامة بشوشة متناقضة، يغلفها الامتنان والوجع، وقال:تشكر يا صاحبي…!! واشكر لي حبيبه!!”

لم يرد أمير، بل اكتفى بإيماءة سريعة قبل أن ينصرف خلفها. وجدها بالداخل، تجلس وحيدة في السيارة، تمسح دموعها بكفها المرتعش. صعد إليها بهدوء، أغلق الباب، وأدار المحرك، ثم أشار بيده إلى فارس مودعًا قبل أن ينطلق.

ظل فارس واقفًا في مكانه، يتابع السيارة وهي تختفي في الأفق. عيناه اشتعلتا بمزيج قاتل من الجنون والحزن، كأن دموعها سرقت منه وهو العاجز عن أن يكون اليد التي تمسحها.

……

في سرايا العزيزي،

كان الظلام يخيم كستار ثقيل علي اركان الثريا ..
على السرير الخشبي العتيق، تحركت أنعام في بطء، وجفناها يثقلان كأنهما يحملان أوجاع السنين…

وأخيرًا فتحت عينيها، فوقع نظرها على ريم الجالسة بجانبها، تضم طفلتها الصغيرة بين ذراعيها كمن يتشبث بالحياة…

انقبض قلب أنعام بالشفقة، ومدت يدها المرتعشة نحوها وهمسة بصوت واهن: ممشتيش يا بتي؟”

رفعت ريم رأسها بسرعة، عيناها متورمتان من السهر والقلق، وهتفت بلهفة تنفطر لها القلوب: أخير فوجتي يا يما… وجعتي جلوبنا.”

أومأت أنعام برأسها، وعينان غائرتان في بحر من الحزن، وهمسة بمرارة: كان نفسي أروح لي طه.”

شهقت ريم، وانهارت دموعها على وجنتيها وهي تقترب منها، وهزت رأسها بالنفي كأنها تحارب القدر، وغمغمت بصوت مخنوق: ليه كده يا يما؟ بعد الشر عليكي.”

نظرت إليها أنعام بألم عميق، وارتجف صوتها بنحيب:
لاه… مش شر يا بتي. اللي خد حتة من كبدي… وانتي دلوق بدك تاخدي عوضه… اللي ربنا حنن عليا بيه.”

ربتت ريم على يدها بحنان موجوع وقالت: غصب عني وعلي حبة عيني… وانتي عارفه يا يما.”

هزت أنعام رأسها بالنفي، وصوتها خرج كأنه دعاء:
ليه يا بتي… على حبة عينك؟ هو أمير بعبع إياك؟!
ديه ميتخيرش عن طه، وأعجل كمان… هيصونك ويصون بتك في الدنيا اللي مفهاش أمان يا بتي.”

مدت أنعام يدها المرتعشة وربتت على فخذ ريم، وتمتمت بعزم أموي عتيق: فكري يا بتي… فكري زين. أنا لو مش خبره زين أن أمير رچل هيعوضك… مكتش فتحت خشمي.”

أومأت ريم برأسها، تنطق كلماتها بمرارة دفينة: يما… أنا عارفه أمير وهو كيف أخوي وأعز… وربنا العالم. بس مجدرش أشوفه غير أخوي.”

أطرقت أنعام برأسها، وقالت بصوت حالم، فيه حكمة الموجوعين: يا بتي… ديه عشان انتي مش بتفكر فيه غير أخوكي. أدي حالك وجت… وفكري زين.”

أومأت ريم برأسها على مضض، ونهضت وهي تلتقط أنفاسها، وقالت: هروح أُحضرلك لجمه تسندك عشان تاخدي الدوا.”

ابتسمت أنعام ابتسامة شاحبة وأومأت برأسها، وصوتها يكاد لا يسمع: ماشي يا بتي.”

وضعت ريم الطفلة النائمة بجانب أنعام، وتحركت إلى الخارج،

بينما عينا أنعام تتبعانها بحنو غائر، ثم التفتت إلى الصغيرة بحزن يعتصرها…

اعتدلت ببطء، واحتضنت الطفلة بين ذراعيها المرتعشتين، وهمسة بصوت خافت حنون، يقطر خوفًا وأملًا: مش هتطلعي محرومة من حنان الأب… يا بت الغالي. أمير أبوكي بردك… لازمن أطمن عليكي يا وصية الغالي انتي وأمك… جبل ما أموت.”

شدت الصغيرة إلى صدرها أكثر، ودمعة شارده انزلقت من عينيها ببطء، تسير على خدها كأنها توقع وصية أم قبل الرحيل..

………….

صباحا في بهو سرايا الأنصاري،

دوى وقع خطوات مسرعة على الدرج، إذ هبط فارس بخطوات متعجلة وصوته يعلو : نغم!”

أطلت نغم من المطبخ، تلمع عيناها بابتسامة دافئة وهي تهتف : يانعم يا غالي.”

أشار لها بيده إشارة نافدة الصبر وقال بنبرة آمرة: الحجي أخوكي بكوباية جهوه ساده تجيله.”

تطلعت إليه بدهشة، وانعقد حاجبها في عتاب رقيق:
كوباية يا غالي كتير عليك.”

لكن فارس هز رأسه نافياً، واضعًا يده على صدغه، وغمغم بصوت متألم : مصدع جوي… روحي بسرعه.”

في تلك اللحظة، خرجت فاطمة حاملة صينية عامرة بالطعام، ورفعت صوتها قائلة: خدي يا بتي الفطور لجدك وعمك فهمي في المندره.”

تقدم فارس منها، والتقط الصينية من بين يديها بخفة وقال:أنا هاخده… ونغم تعملي جهوه.”

أومأت نغم على الفور وركضت نحو المطبخ، بينما نادت فاطمة وهي ترفع صوتها خلفه:طب يا غالي متعوجش عشان تفطور.”

أجابها بإيماءة سريعة من رأسه، ثم اتجه نحو الخارج. وفي زاوية السفرة كانت تجلس وهيبة، تراقبه بعينين تفيض بالمهابة والصرامة، فأشارت له بيدها وهتفت:تعالي يا ولدي… الفطور.”

لكنه أجابها بصوت مقتضب:هودي الفطور لجدي وعمي.”

حينها نهضت وهيبة من مجلسها، يعلو نبرتها صوت الجدية:وه انت يا ولدي لاه… استني، أنا بدي اتحدت وياك انت واخوك سو.”

ثم التفتت نحو الداخل، تنادي بنبرة عالية:بت يا صفاء!”

خرجت صفاء مسرعة من المطبخ، تضع ما بيدها جانبًا وهتفت:نعمين يا ستي.”

أشارت لها وهيبة بيدها وأمرت:هملي اللي في يدك وتعالي… ودي الفطور للحچ.”

أومأت صفاء سريعًا، واقتربت من فارس لتلتقط الصينية من بين يديه، وقالت بخفض صوت:عنك چنابك.”

فأجابها فارس بإيماءة مقتضبة، وتركها تمضي بالطعام.

جلس فارس إلى المائدة، يمد يده إلى أطباقها، ثم رفع صوته بتحية مرحة تخفي خلفها إرهاقًا واضحًا:صباح الخير يا چدعان.”

أجابه أدهم وهو يتفحص ملامحه المنهكة:صباح الورد… عوچت ليه؟”

هز فارس رأسه بضجر، عينيه يثقلها السهر، وغمغم:أنا منعستش أصلًا.”

أومأ بدر وهو يمد يده لقطعة خبز، ثم قال مازحًا:طول الليل چمب هزيم في الاسطبل.”

التقط سند بيضة مسلوقة، وقشرها على مهل قبل أن يرفع حاجبيه وهو يسأل:وكيفه دلوق يا غالي؟”

أومأ فارس برأسه في ارتياح، وقال:الحمد لله… اخت أميره طلعت شاطره صوح. هزيم هدي بعد ما غيرت له على الچرح.”

ابتسم سند وهو يميل برأسه، صوته يقطر إعجابًا:شاطره وهي لسه هتدرس! مش كيف دكتور الحمير اللي حدانا.”

تبدل وجه فارس إلى قسوة مفاجئة، قبض على يده بقوة، وصوته خرج غاضبًا متهدجًا:ديه بس… أوعاله! ابن الكلب ديه… هطلع ميتين أمه وادفنه وسطيهم.”

انفجر أدهم وبدر بالضحك، يبادلان نظرات مليئة بالمرح:الغالي هيتحول لما نوصلوا للخيل… أعز عنديه من البني آدمين!”

غير أن بدر سكت بعدها لحظة، انخفض صوته في صمت ثقيل وكأنه يبوح بحقيقة دفينة:اهو… بيحب حاچه من غير ما يتوچع.”

نظر إليه فارس بعينين يائستين، وكأن الكلام اخترق قلبه، ثم غمغم بحدة كسيرة:مين اللي جالك… أمانه، اسكت.”

ارتفع صوت وهيبة بنبرة محبة وهي تنظر إلى أولادها حول المائدة:اباي… أنا جعدتكوا عشان تلتوا مع بعض. اسمعني يا ولدي.”

أومأ فارس برأسه مطيعًا وهو يرد بهدوء:جولي يما.”

أمال سند رأسه قليلًا، وقال غامزًا: لتي انتي يما.”

ازدادت ملامحها إشراقًا بالفرح، وأكملت بحماسة صافية:ايوه… انا الت براحتي… بص يا ولدي، مرت بخيت العمده حدتتني في التلفون.”

تبادل فارس وسند نظرات سريعة، فيما التفت أدهم إليها منصتًا. فتابعت:بدها يچوا على نغم… لولدها عماد.”

قطب فارس حاجبيه بدهشة واضحة، سأل : هو عماد چاي من السفر؟”

هز سند رأسه نافيًا:لا… ديه چي السبوع اللي فات.”

ابتسم أدهم بخفة، وقال مؤكدًا:چي السبوع اللي فات؟ زين… زين.”

مال سند بجسده على الطاولة، وصوته ينزل جادًا: جولتي لي نغم يما؟”

لكن وهيبة هزت رأسها نافية، وأجابت بحزم رقيق:هي البنته هيجلولها من دلوق ليه… لما يچوا الول.”

تحرك فارس في مكانه، ملامحه مشدودة بالرفض، وقال بنبرة حاسمة: لا يما… جولي لي نغم الأول كان زمان يما… الواحده تشوف عريسها ليله الدخله.”

أومأت وهيبة برأسها موافقة، ثم قالت باستسلامٍ صادق: أجولها يا ولدي.”

سند بدر يدها وهو يومئ برأسه: اه… جوليلها. وجوليلهم ينورونا… بيت العمده زنين… وعماد صاحبنا من زمان.”

تنهدت هيبة قائلة:ماشي يا ولدي.”

في تلك اللحظة، دخلت نغم بخطوات هادئة تحمل الفناجين، وضعت فنجان القهوة أمام فارس وهي تقول:الجهوه يا خوي.”

أومأ لها فارس شاكرًا، ثم أشار بيده بحنان:اجعدي… افطوري يا نغم.”

ابتسمت بهدوء، وهزت رأسها رافضة: فطرنا من بدري يا اخوي.”

عاد فارس يلوح برأسه دون إلحاح، ثم تابعت نغم سيرها عائدة إلى الداخل…

لحظتها، ظلت وهيبة تحدق في أثرها وهمسة بدموع مترددة في عينيها: يارب تكمل المره ديه يا بت جلبي.”

مد فارس يده، وربت على يدها بقوة مفعمة بالحنان، وصوته يغلفه الرجاء: إن شاء الله اللي فيه الخير هيكمل… يما.”

رفعت وهيبة رأسها للسماء، تردد بخشوع: يارب… يا ولدي.”

صعدت ليلة الدرج بخطوات متسارعة، يسبقها ارتباك لا تعرف سببه،

بينما كان قلبها يخفق بغير انتظام، كأن شيئًا ما ينتظرها في الأعلى…

في الأسفل،

كان صوت بدر يعلو، يخترق صمت البيت الثقيل: أنا نسيت تلفوني فوج، هطلع أچيبه واطلع على المصنع… أجابلك في المصنع يا أدهم”

أومأ أدهم برأسه ونهض: رايح جدامك”
ارتسمت ابتسامة باهتة على وجه بدر، واندفع صعودًا بخطوات سريعة، لا تشبه خطوات من يبحث عن هاتفه.

وصلت ليلة إلى غرفتها، يسبقها أنفاسها المضطربة، وما إن أوشكت على إغلاق الباب حتى شعرت بجسد يقتحم مسافة الأمان حولها…

حملها بدر بين أحضانه في حركة خاطفة، كأنما يخشى أن تهرب منه أو من قدره،

ودلف بها إلى الغرفة وأغلق الباب بكتفه. شهقت برعب وهزت رأسها بعنف، فاقترب منها صوته هامسًا في أذنها، أجش، متقطعًا بين اللهفة والسيطرة: أنا بدر…”

تصلبت بين ذراعيه لوهلة، لكن صدرها ظل يرتفع ويهبط بأنفاس مضطربة…

أنزلها برفق متعمد، ثم حاصرها بينه وبين الجدار، كأنه يريد أن يجعل العالم كله خلفها، ولا يبقى أمامها سواه…

حدق في صدرها بعينين لامعتين بالشغف والوقاحة، وهمس: اهدي… ياريتني كنت نفسك اللي بيدخل چواكي”

بلعت لعابها بصعوبة وهمسة متقطعة: بدر… حرام عليك… درعتني… جلبي بينط نط”

ابتسم بعبث، وفي حركته ذلك المزيج من الرغبة والغضب المكبوت، ومد يده على صدرها مرورا خفيفًا جعلها ترتجف…

اقترب أكثر حتى كاد صوته يحترق فوق شفتيها وهمس:سلمتك يا ليله… سلمتك يا شوفي”

نظرت له بدهشة وسحبت يدها بتردد وهمسة:
شـ… شوفك”

أومأ برأسه كأنه يعترف بذنبه وقال: أيوه شوفي… انتي يا ليله من غيرك مش هشوف في الدنيا غير السواد”

كان يقترب منها ببطء، كأنما يدور حول نار يعرف أن لهيبها سيحرقه، وهمس أمام شفتيها بصوت أجش يقطر عشقًا ووجعًا: بحبك جوي يا عشج بيموتني ويحيني… يا عشج حرج جلبي… هموت عليكي… يا كسرتي وجوتي”

انزلقت دموعها على وجنتيها، دموع وجع وحيرة، وغمرها صوته وغمغمت بحزن: أنا كل ديه يا بدر…”

أومأ برأسه، وسند جبهته على خاصتها كأنه يستسلم للقدر واللعنة التي تحيطهما، وهمس بصوت مبحوح، يختلط فيه الرجاء بالعجز: هموت يا ليله في بعدك… هموت يا حبيبتي…”

كانت الغرفة تشتعل بينهما، تتسع لأنفاسهما وتضيق بعقدتهما،

ذلك الحاجز الغامض الذي يمنع اكتمال لحظتهما، فيبقى كل شيء بينهما نصف مشتهى ونصف ممنوع، يترك الجسد يرتجف.. والقلب يئن.. ولا يكتمل أبدًا..

تتشبث ليلة به وكأنها تتشبث بالحياة ذاتها، لفت ذراعيها حول عنقه في ارتجاف حارق، وخرج صوتها من أعماقها بأنفاس لاهثة: نموت سوا يا حبيبي… أنا بين يدك… خدني يا بدر”

ضمها بدر بقوة، كأنما يريد أن يبتلع كل المسافة والوقت بينهما، وغطى شفتيها بقبله نارية،

قبلة تشبه الانتقام من كل لحظة ابتعاد، كل انكسار، كل انتظار… انحدرت شفتاه إلى عنقها، ينهشها بعنف مشتعل،

ويده الأخرى تضغط على ظهرها، تلصقها به أكثر، حتى ارتطمت بجسدها بالباب، وهمسة بصوت مبحوح:
براحه يا بدر…”

هز رأسه بالنفي بعناد، وعيناه تتوهجان، ينحدر إلى نهديها، ويده الأخرى تبحث بعجلة عن تحررها من قيود ثيابها….

ارتفعت أنفاسهما معًا، تملأ أركان الغرفة الموصدة، أنين ليلة يضرب على قلب بدر، وغمغماتها تشعل النار في جسديهما، حتى صارت الغرفة كأنها تشتعل معهما.

رفعها بين ذراعيه في حركة خاطفة، فالتفت ساقيها حول خصره تلقائيا،

وهو يلتهم نهديها بعطش متوحش، يده الأخرى تضغط على النهد الآخر كمن يعلن امتلاكه…

شهقت ليلة، وهمسة بصوت مرتعش في حضنه: كفاية… بس… أنا مش جادرة أبعدك”

ابتسم بوحشية، وانحنى نحو أذنها وهمس بصوت أجش، متخم بالشهوة: تبعدي كيف يا عمري؟… ده إنتي نار جايده في حضني… رچليكي وهم ملفوفين عليا كنك بتتوسلي اجتحمك…. وصدرك ديه… يا خراب بيته من فتنة… مليان ومرسوم كإنه معمول ليا أنا… عشان أعضه وأسيب عليه وشمي”

جحظت عينيها بذهول، وهمسة بصوت خافت، مرتجف بتلعثم حار : ايه اللي هتجولوا ديه؟؟ كلامك صعب جوي!!

رفعها فجأة أقرب إلى صدره، والتفت ساقيها حول خصره أكثر، واندفع بشفتيه على نهديها، يلتهمهما بجوعٍ متوحش، يترك على بشرتها قبلات وعلامات تشتعل بها. وهو يلهث بوقاحة وهمس: متتلوميش يا بت… ده صدرك ديه تاج أنوثتك… ومالهمش صاحب غيري… والله حتي لو خلفنا ما ههنيهم عليهم من غير ما أكون أنا اللي طابع عليهم بناري”

ارتجفت في حضنه، شهقاتها الصغيرة تخرج متقطعة، تتشبث بكتفيه بأصابع مرتعشة، عيناها نصفهما مغمض ونصفهما مشتعل، كأنها تائهة بين خجلها ولهفتها. همسة بصوت مقطع، مخنوق بالشوق والخجل: ما… ما تعملش فيا كده… بس…يلهوي مش جادرة أوجفك… كمل”

تقلصت في حضنه أكثر، وجسدها يهتز مع أنفاسه، وكل ارتجافة منها تقول إنها ليست فقط خجولة، بل مولاعه ومستسلمة له بالكامل،

كأنها تسلم روحها قبل جسدها…لم تستطع ليلة أن تحتمل أكثر، فانهارت في حضنه، تتشبث بصدره كمن يبحث عن ملاذ أخير….

غير أن صدر بدر نفسه لم يعد ملاذًا؛ كان الألم يزحف في أحشائه زحف السم، يلتف حول قلبه حتى كاد ينتزعه…

عض شفته السفلى بعنف، محاولًا أن يخفي صرخته، أن يقهر العاصفة التي تفجرت بداخله…

ضغط بكفه على حافة الباب حتى كاد الخشب يتحطم تحت يده، فيما مرر اليد الأخرى على ظهرها بقسوة لا إرادية، كأن الألم صار يتحكم في أنامله.

تأوهت ليلة بألم حاد، غاص صوتها في منكبه وهي تكتم صرخة ممزقة، ثم ارتجف جسدها كمن يطعن من الداخل…

تحول حضن بدر الدافئ إلى شوك مدبب جليدي، ينغرس في لحمها بلا رحمة… العرق البارد بدأ ينزلق من جبينه، قطرات متتابعة كأنها دموع جسد يساق إلى هاوية.

تبدل هواء الغرفة. صار ثقيلاً، خانقًا، يزحف على الصدر كصخرة..
وبدأت همهمات غريبة تلف المكان، همسات متقطعة، كأنها أصوات قادمة من بين الجدران، أصوات تخترق الحواس لا تشبه البشر…

الجدران نفسها ارتجفت، وكأنها تتشقق من الداخل. والبرودة… يا إلهي البرودة! لم تعد برودة عادية، بل صارت كأنها قبر مفتوح في أعماق الليل، مظلم، يبتلع الأرواح قبل الأجساد.

حاول بدر أن يرفع يده، لكنها زحفت بصعوبة قاتلة، كأن وزناً جهنمياً يسحبه للأسفل…

احتضن ليلة التي بدأت تفقد وعيها، وجهها شاحب، أنفاسها متقطعة، كأن اللعنة التفت حول عنقها.

وضمها بقوة مميتة، ثم اندفع بآخر ما تبقى من قوته نحو الباب. فتحه بعنف، وكأن يداً من الجحيم دفعته للخارج.

تهاوى بدر على الأرض، سقط على ظهره بعجز مدوي، وليلة فوق صدره كجسد هارب من الموت. كانا معا كتوأم مطرود من غرفة ملعونة، يدان خفيتان من الجحيم لفظتهما إلى العراء…

مرت لحظات ثقيلة، كأن الزمن نفسه يتعثر في خطاه، حتى بدأت الأجواء تعود تدريجيًا إلى طبيعتها…

رفع بدر جفنيه المثقلين بالألم، وصدره يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة…
كانت ليلة ما تزال بين ذراعيه، جسدها واهن كغصن مكسور، فمرر يده المرتجفة على ظهرها في محاولة يائسة لطمأنتها، وهمس بصوت متحشرج، تنزف كلماته وجعًا: ليله… حبيبتي.”

جلس بصعوبة وهو يحملها، يضمها كأنها كنزه الأخير، وربت على وجنتيها بأنامل مرتعشة، ثم غمغم بصوت موجوع منكسر: حجك عليا… أنا بضعف… أنا ضعيف جوي.”

تململت بين ذراعيه، وشيئًا فشيئًا فتحت عينيها ببطء، لكن أول ما أبصرت المكان، ارتجفت نظراتها، واتسعت عيناها بالرعب…

كادت تصرخ، فخشي بدر أن يسمع صدى صرختها اللعنة نفسها، فكتم شفتيها بكفه بحنان يائس، وهز رأسه كمن استسلم لعجزه، وصوته يتفتت وهمس: خلاص… اهدي… غار لحاله. اهدي… أنا مش هجرب منيكي تاني أبدًا.”

أغمضت ليلة عينيها بقهر ممزوج بالخذلان، وانزلقت دموعها كالسيل، دموع لا تنقطع، كأنها نزيف من قلبها…

ضمها بدر بقوة، وكأنه يحاول أن يعوضها عن كل ما انتزعته منهما اللعنة، مرر كفه على شعرها بحنان موجوع، وهمس بصوت يقطر اعتذارًا: حجك عليا يا جلبي.”

ثم رفع عينيه إليها، وفي نظراته حزن عميق كبحر مظلم، وقال بصوت متحشرج، يحمل وعدًا محفورًا في الأعماق:
من دلوق ولحد ما ربنا يحلها… مهما يحصل، أوعاكي أصعب عليكي تاني. فاهمة يا جلبي؟”

أومأت برأسها بصعوبة، بينما حزنها يسبقها إلى كلمتها الوحيدة، التي خرجت كأنها تنهيدة ميتة: فاهمه.”

………………….

دلف فارس إلى الإسطبل، والسكينة الكثيفة تعانق المكان كما لو كانت تحرس جراحه…

اقترب بخطوات مثقلة من هزيم، ذاك الفرس الذي رآه رفيقًا أكثر من كونه حيوانًا، ومد يده على عنقه بحنو أبوي وهمس: كيفك يا هزيم؟”

حرك الفرس رأسه والتف بعنقه نحو فارس، كأنه يتشبث به ويبادله الحنين…

ابتسم فارس ابتسامة باهتة، أشبه بابتسامة رجل يتهكم على أقداره، وتمتم بصوت خفيض: أجولك سر؟”

ضرب الفرس حوافره على الأرض في اضطرابٍ رقيق، فمرر فارس راحته على عنقه، هامسًا بمرارة تنزف من عمق صدره: صاحبك عشجان يا هزيم…”

أطرق رأسه للحظة، وكأن الكلمات تثقل الهواء من حوله، ثم أضاف بصوت غارق بالحزن: ايوه… وجعت في المحظور يا هزيم… كنت فاكر إن جلبي الميت حارس الحي… بس أنا حاسس كنه جلبي الميت كان مستنيها، وكنه هو اللي بيعشجها.”

أغمض عينيه، يعتصره قهر دفين، ثم أطلق اعترافه الذي ظل يطارده كقدر لا مفر منه: حبيبة… حبة الجلب الميت يا هزيم…”

التف الفرس بعنقه حول جسده في حركة حانية، كأنه يواسيه بصمت أو يمنحه أمانًا خفيًا…

مد فارس يده في شعره الكثيف ومسح عليه ببطء، يلمس فيه دفئًا غريبًا وسط عاصفة روحه، قبل أن يقطع اللحظة بصوت يجلجل : عويس!”

دلف الخادم مسرعًا، عيناه تلمعان بالخشية، وهتف:
آمر جنابك.”

رمقه فارس بعينين متعبتين وقال بلهجة آمرة حازمة تخفي في باطنها خوفًا دفينًا: هزيم هياكل زين؟”

أومأ عويس بسرعة وأجاب مطمئنًا:لأول مكنش ياكل واصل… بس بعد ما چتله الدكتوره وريحته… ربنا يريح جلبها… وهو عاود ياكل.”

ارتجف جفن فارس عند ذكرها، لكنه تماسك، وأومأ برأسه ببطء وهو يتمتم:طب زين… شوف شغلك.”

انسحب عويس في هدوء، فيما أخرج فارس هاتفه من جيبه، يعبث به بين أنامله كمن يحاول الهروب من نفسه، ثم رفعه إلى أذنه، يخبئ خلف رنين الصمت ذلك الوجع المشتعل في صدره…

استفاقت حبيبة على اهتزاز الهاتف تحتثي الفراش؛ فتحت عينيها على نصف نومٍ ونصف ذهول،

فتمدت تبحث عن صوت أفلت منها. لم تلبث أن التقطت الهاتف، فإذاّ الاتصال مقطوع، فانكمشت شفتيها وزفرت بحنق:  هو انت يا مخوت؟

نظرت إلى الساعة بذهول متزايد، فارتد قلبها في صدرها كطائر مذعور، قفزت عن الفراش وهمسة بحسرة وخوف:  الساعة تسعة! العِلاج، أمي هتموتني!

ركضت نحو غرفة أمّها، والهاتف يرن من جديد لكنها انصرفت في حيال العجلة والقلق.

في الاسطبل كانت يد فارس تضغط علي هاتفه وهو يلهث بحركة نصف هزلية ونصف ألم: نعسانة ولا جاصدة متردش البت ديه.

ضعف غريب يعترى صوته كلما نطق باسمها؛ وضع الهاتف وألقى بيده على عنق هزيم،

ذاك الحصان الذي صار له ملاذًا وغائبًا ورافدًا لصمته مرر يده رقيقًا على الضمادة التي لامستها يدها قبل ساعات، ثم همس لنفسه بصوت خافق: أول مرة أحس حالي ضعيف يا هزيم… عامله كيف حتة النور اللي توچع عينك بس متجدرش تبعد عينك عنها … انا بدي أبعد عنها، بس حاسس كأنه سحر بيسحبني من جلبي ليها… هتخوت مش جارد أبعد.

دار حول الفرس، يصرح لنفسه ما لم يجرؤ على قوله بصوت أعلى؛ خيفة من ظلمة في مذاقِ الحب
أن يتركها في حضن رجل آخر، أو في حضنه فتتحقق لعنة لا يقوى عليها قلبه…

قال مخاطبا ضميره كما يواسي الصديق:  مش جادر أظلمها واسحبها في عشج ملعون … ومش جادر أبعد… ومش جادر أفكر إنها تكون في حضن راجل غيري… مش جادر أعمل حاچة غير أفكر فيها… بدر كان عنده حج يا صاحبي.

رن هاتفه فمزق خياله لحظة؛ أمسكه وغمغم على مضض منقطع:  هروح الشغل يا هزيم وهچيلك في العشيه لما تيچي حبيبة.

شرد بعيدًا للحظة، كأن فكره تاه في زوايا لا يصلها الضوء، ثم تنفس هامسًا مخاطبا صديقه الأصيل: هزيم بلاش تخف.

التفت الحصان عنقه ببطء بعيد عن فارس، كأنه يرد عليه بفهم فطري،

فأضاءت ابتسامة خفيفة شفة فارس. قال بصوت خافق كما يهمس للملائكة: متتكدرش يا حبيبي انا جصدي لحد ما اشوف حچه چديده اشوفها بيها انت لازمن تساعدني

انحنى عنق الحصان بحنو علي فارس، كأن الفرس يفهمه ويشده، فضمه فارس بقوة رجولية تكسوها الرقة:  حبيبي يا هزيم دانا هجلعك جلع… سكر وفسح هفرحك كيف ما هتفرحتي!!

ضحك فارس ضحكة قصيرة وغمغم : شكل ادبيت يا هزيم !!

ثم ربت على ظهر هزيم وانطلق إلى عمله، بخطوات ثقيلة، وقلبه أثقل؛ محمل بلهيب اسم واحد يوقظ فيه ما يكرهه وما يعشق.

………………..

في مساء دافئ داخل سرايا الأنصاري،

اجتمع الجميع حول مائدة العشاء الكبيرة. تمازجت رائحة الطعام مع ضحكات متقطعة وهمسات العائلة، فبدت اللحظة نابضة بالحياة، مشبعة بألفة البيوت القديمة.

هتف سند وهو يبحث بعينيه: مريم وين يما؟”

أشارت له وهيبة بيدها في هدوء، وأجابته بنبرة رصينة:
هتنعس العيال يا ولدي.”

أومأ برأسه، وعاد يسأل بفضول ابوي : واتعشوا؟”

ابتسمت وهيبة في ثقة وأكدت: اباي لاه… هتنعسهم على چوع؟”

انفجر الجميع بضحكات مرحة كسرت جمود المائدة، فتدخل فارس وهو يضحك: أسئلتك غريبة جوي يا أخوي.”

أومأ فهمي موافقًا، وعلق بنبرة حكيمة: لما تتچوّز وتخلف، هتحس كيف الأب بيفكّر في ولده.”

هز فارس رأسه في يأس، وردّ مبتسمًا بمرارة: لما عاد.”

في تلك اللحظة، انفتح الباب فجأة، ودلف بدر بخطوات متسارعة، صوته يسبق حضوره، وعيناه تتشبثان بليلة كما لو لم يكن في الدنيا سواها: أدهم أهنه!”

التفتت الأنظار نحوه بدهشة، فبادر فهمي مستغربًا:
لاه يا ولدي، مش كتوا مع بعض في المصنع؟”

أومأ بدر برأسه وهو يتنفس بضيق، كأن أنفاسه أثقلها الهم: أيوه… بس هملني من ساعة.”

رفع فارس كتفيه بجهل، وهو يسكب لنفسه بعض الماء دون مبالاة: يمكن روح بيتهم.”

لم يضف بدر شيئًا، ولم يكلف نفسه عناء التفسير، بل خطا نحوها مباشرة.

جلس بجوارها دون أن يلتفت لأحد، وانحنى عليها قليلًا، حتى بدا كأنه يحاصرها بجسده وصوته، وهمس بنبرة تقطر حنانًا وشوقًا: كيفك يا روحي؟”

اكتفت ليلة بأن أومأت برأسها، لكن ارتباكها فضحته عيناها الهاربتان، وخرجت كلماتها كأنها تترجى الخفاء:
زينه … بعد يا بدر… كلهم هيطلعوا علينا.”

تجهم وجهه بدهشة طفيفة، ورد باحتجاج خافت:
خير عاد… ولا ممنوع حتى أسلم عليها؟”

عندها انفجرت دموع فاطمة، هزت رأسها كأنها لا تعاتبه هو، بل تعاتب قيدًا جاثمًا على أرواحهم جميعًا،

قيد تلك اللعنة التي ما إن تقترب روحه من روحها حتى تغلق الأبواب في وجهيهما….

غمغمت بصوت مرتعش:لاه يا ولدي… ديه مرتك. سلم واطمن عليها على كيفك.”

ساد الصمت لحظة مثقلة، صمت كأنما تنفس فيه البيت كله أنفاس اللعنة ذاتها، قبل أن يتناثر الهمس من جديد فوق مائدة العائلة، يحمل في طياته وجعًا لم يجد له أحد شفاء بعد.

حين انفتح باب المجلس، دلف عويس بخطوات مترددة، وهتف: أمير بيه والدكتوره بره جنابك.”

كدت ترى الشرارة في عين فارس؛ كاد أن يبصق الماء من فمه، لكن كبرياءه أسرع من ارتباكه، فامتلك نفسه ونهض في حدة يخفيها وراء تهكمه: خليهم يخشوا يا بهيم.”

أومأ عويس برأسه وركض إلى الخارج، فيما تبعه فارس بخطوات متوثبة، والدهشة تكسو وجوه الجالسين.

دلف أمير إلى الداخل، وإلى جواره حبيبة، فاصطدموا على عتبة الباب بفارس الذي بادره قائلاً بحدة ممزوجة بالدهشة:چري إيه يا أمير؟ إنت متي كت تجف بره كده؟”

ضحك أمير بخفة، وأشار إلى حبيبة وهو يشرح كمن يبرر:الدكتوره حبيبة متلومه… تخش يا عمنا.”

التفت فارس إليها، حاجباه يرتفعان بدهشة مصطنعة وهو يهتف ساخرًا: ليه يا حبيبة؟”

هزت رأسها نافية بحذر، وردت بخجل متماسك:
عادي.”

نظر فارس إلى أمير، ثم عاد يرمقها بعينين تبرقان بالعبث، وقال بنبرة متعمدة:ديه بيتك يا دكتوره.”

اتسعت عيناها بدهشة أربكتها، فابتسم أمير وهو يؤكد:
بيتك بيتنا يا صاحبي… هي عشرت يوم ديه عمر.”

قبل أن تجيب، خرجت وهيبة من الداخل، يفيض صوتها بالود وهتغف:اباي يا فارس… مهملهم على الباب كيف يا ولدي؟”

تنحنحت حبيبة وهي تمسح على حجابها بحركة مرتبكة، وهمسة:معلش… إحنا مستعچلين يا خاله. ينفع أشوف هزيم عشان أروح… أنا ورايا مذاكره.”

رمقتها وهيبة بعينين فيهما إعجاب ومحبة، وقالت بحنان أمومي: ليه يا بتي؟ اتعشوا وبعدين روحوا. لي هزيم هو هيطير يعني؟”

لكن فارس هز رأسه وتمتم بصرامة خفيفة: هزيم موچوع يما… الوكل يستني.”

أومأ أمير موافقًا، وأضاف بصوت هادئ يحمل مسحة جد:
صوح يا خاله… ديه حيوان أخرس يشتكينا لربه.”

ابتسمت وهيبة بحزن وأومأت، ثم جذبت كف أمير وقالت بمحبة مشوبة بالشوق:طب تعال يا واد… اتوحشتك. وفارس مع أختك.”

ابتسم أمير ووافق: حاضر يا خاله.”

ثم أشار إلى حبيبة التي نظرت له نظرة تحذير واضحة، فرفع يده مستسلمًا وغمغم بيأس: فارس معاكي… متخافيش.”

أغمضت حبيبة عينيها بحنق، وهمسة بين أسنانها:مهو ديه اللي يخوف.”

لم تفت الكلمة على فارس؛ رفع حاجبه بخبث واقترب منها هامسًا بصوت منخفض ارتجف في أذنها: سمعتك.”

ثم استدار بخطوات ثابتة نحو الإسطبل، تاركًا قلبها يعاند خفقانه. رمقته من خلفه بعينين موقدتين، وهمسة في نزق يائس:متسمع… سمعت الرعد. هتخوفني يعني؟”

تقدمت خلفه بخطوات مترددة نحو الإسطبل، وما إن دلفت حتى شدها بريق عيني هزيم… مدت كفها المرتعشة تتحسس شعره الناعم بحنان، وهمسة بصوت خفيض يفيض شجنًا : كيفك يا هزيم، تصدج حلمت بيك؟ أنا حزنت عليك جوي… أنا مكنش جصدي حجك عليا.

كأن الفرس قد فهم اعتذارها، فمال بعنقه نحوها وتمسح بها في حنو طفولي. ارتسمت ابتسامة على ثغرها المرتبك، وهمسة وهي تلمسه كأنها تحتضن قلبًا نابضًا:
يسلملي أبو جلب أبيض.

لم يمهلهما فارس طويلًا، فقد رفع حاجبه واقترب بخطى ثابتة، وصوته يجلجل في المكان كريح ساخرة: بالسرعه ديه يا حزين؟ طيب اتجل دجيجتين علي بعض.

رفعت رأسها نحوه بدهشة ممتزجة بالحنق، وغمغمت بحدة متحفظة:ملكش صالح أنا وهزيم… خليك في حالك.

لكن فارس لم يتراجع؛ وضع يده على ظهر الفرس، وبحركة محسوبة انزلق بيده حتى لامس يدها. ضغط عليها برفق، وهمس في أذنها بصوت أجش اخترق أعصابها:ليه لما رنيت عليكي مردتيش يا حبيبه؟

ارتعش جسدها كأن تيارًا كهربائيًا اخترقها، فسحبت يدها سريعًا وهمسة في ارتباك: كلمتني ليه؟ هزيم كان  موچوع.

هز رأسه بالنفي، وكلماته خرجت كأنها تفضح ما يخفيه:
لا.

ازدادت دهشتها وهمسة في حيرة تفضح قلقها:
أومال رنيت ليه؟

اقترب منها أكثر، قبض على يدها بحنان لم تتوقعه، وصوته المبحوح غمرها دفئًا: كنت بدي أسمع صوتك… في التلفون حلو كيف… وانت جدامي ولا أحلي.

شهقت خائفة، وسحبت يدها بعجلة، تتراجع نحو الجهة الأخرى. فتحت حقيبتها بعصبية، وأخرجت أدواتها الطبية، وبدأت تنزع الضماد بيد مرتعشة، بينما عينا فارس تحاصرها، تطوّقها بنظراته كطوق من لهب يزيدها ارتباكًا حتى كادت أن تختنق من ثقل الصمت بينهما.

بدأت تطهر الحرق بيد مرتجفة، تحاول أن تسيطر على رعشة تسري في أوصالها. كان المكان ساكنًا إلا من أنفاسها المتلاحقة ورائحة المطهر الحادّة…

فجأة، خطا فارس من خلفها بخطوات بطيئة، كمن يتقصد أن يقترب دون أن يمنحها فرصة للهرب. ومد يده بخفة، كلمسة عابرة على ذراعها، لكنها كانت كافية لتشعل ارتجاف جسدها كله.

انزلقت زجاجة المطهر من يدها لتسقط أرضًا برنين قصير، فشهقت بفزع، وانحنت لتلتقطها.

في اللحظة نفسها، كان فارس قد انحنى بدوره، فتلاقت حركتاهما في صدفة بدت كقدر محتوم، فوجدت نفسها حبيسة بين ذراعيه حرفيًا.

شهقت مرة أخرى وهي تحاول التململ بعيدًا، لكن جسديهما اختل توازنهما معًا، وسقطا أرضًا….

ارتطم ظهرها بالتراب البارد، غير أن يد فارس امتدت أسفل رأسها تحميه من الصدمة، فيما أسند وزنه برفق علي ذراعه حتى لا يسحقها…. كانت قبضته حولها حانية، كأنها جدار يمنع عنها السقوط، لكنه في الوقت نفسه قيد لا فكاك منه.

رفعت رأسها قليلًا، صدره يعلو ويهبط أمام عينيها مباشرة، وضعت يدها المرتبكة عليه كأنها تستجدي ثباتًا في هذا الارتباك المفاجئ…

تقابلت عيناهما؛ نظراتها المذعورة وجدت نفسها غارقة في عمق عينيه المظلمتين، اللتين حملتا مزيجًا عجيبًا من اللهفة والارتباك…

وبينهما لم يبق سوى نفس واحد يفصل شفتها المرتعشة عن شفتيه المشدودتين.

بلعت لعابها بصعوبة، وهمسة بصوت متوتر:يخربيتك… إنت مخوت.”

هز رأسه ببطء، كمن يعلن استسلامه لشيء أكبر منه، ثم بلل شفتيه بهمسة خرجت متحشرجة من صدره:
والنعم… ماعارف إيه اللي چري… يا حبة الجلب الميت.”

شهقت حبيبة مجددًا، لكن هذه المرة لم تكن من الفزع وحده، بل من ذاك الصراع الذي يشتعل في داخلها، قبل أن يقطع اللحظة صوت جاء من باب الإسطبل:
فاارس… وينك؟”

ووووووووووووووو

انتظروني في البارت الجاي وقولولي تتخيولو مين علي الباب وممكن حد يشوفهم 😉🤚🏻

ساحره القلم ساره احمد 🖋️

2 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments