عشق ملعون بالدم

عشق ملعون بالدم (الفصل السادس)

عشق ملعون بالدم (الفصل السادس)

ما أبهى أن يطلَّ على حياتك وجهٌ يُشبهك،
كأنما خُلق من ضلوعك، أو نُسج من خيوط روحك.
تراه فتشعر أن نبضك يلهث بين أنفاسه،
وأن قلبك لم يعد لك وحدك، بل امتزج بخفقه حتى صار لهما لحنٌ واحد.

تذوبان معًا، لا فناءً بل اتحادًا،
فيتكوّن منكما كيانٌ واحد،
روحٌ تتقاسمانها، تسكن جسدين وتُضيء طريقًا واحدًا.

يُكمل كلٌّ منكما الآخر كما تكتمل السماء بالقمر،
وتغدو الحياة معًا أكثر دفئًا، أكثر صدقًا، أكثر احتمالًا.
ترسمان الأحلام بخط اليد نفسها،
تضحكان، وتبكيان، وتعيشان نبضةً واحدة لا تعرف الانقسام.

وأجمل ما في كل ذلك —
أن تظلّا معًا،
رغم الفصول، رغم المسافات، رغم كل شيء…
أبدًا. ❤️

شهقت حبيبة مجددًا، لكن ليس من الفزع وحده، بل من تلك النار المتشابكة في صدرها، ومن الصراع الداخلي الذي يهيج كل إحساسها…

فجأة، كسر صوتهما صوت من باب الإسطبل: فاارس… وينك؟”

انتفضت عيناها من الرعب، فبادرها فارس بحضنه الحازم، وجذبها بقوة وبراعة، دار بها خلف أكوام التبن المتراصة،

حتى أصبح جسدها مطبوعًا فوق جسده، وهي فوقه، ذراعها ملتفتان حول عنقه ، وأقدامها عالقة بين ساقيه، بينما يسيطر هو على الحركة بكل ثقة…

شعرت بحرية مختلطة بالقيد، وقلوبهما تخفق في صمت معبأ بالشغف والخوف.

رفع يده وأشار بحزم، وهمس بصوت مكتوم في أذنها:
اششش…”

ارتجفت حبيبة، وأومأت برأسها بخوف، ودموعها تتساقط على صدره، تكوي قلبه بندم وحماية، بينما يمرر يده على رأسها برقة، ضاما إياها بحنان متشابك مع الرغبه ، وهمس:آسف…”

دلفت إيمان ونظرت في أركان الإسطبل، وصوتها يعلو بدهشة: فااارس… وينك يا ولدي عمي؟”

تحركت بخطوات مترددة نحو آخر الإسطبل، عيناها تلتقطان كل زاوية، كل ركن، محاولة اكتشاف المكان وغمغمت :راح وين… مع الدكتوره اللي هيجولوا عليها ديه؟”

مرر فارس يده على ظهر حبيبة بحنان مشحون بالشغف والرغبة، وهمس بصوت منخفض لكنه مثقل بالسيطرة والوقاحة: الدكتوره ف حضني يا بت عمي…”

ارتجفت حبيبة، وكاد جسدها كله يذوب بين أحضانه، لكنها لم تقاوم، بل لكزته وعضت شفتها بخجل وهمسة متقطعة:لم حالك يا فارس…”

ابتسم هو بعبث، وحرر شفتيها من بين فكيها، مرر إصبعه على شفتيها ليشم رائحة أحمر الشفاه، الممزوجة بعطر الورود والتوت، وهمس بوقاحة متملكة: كل ما تتحدتي الريحة بتجتلني… نفسي أعرف أول بوسة منك هتكون طعمها ورد ولا توت… ولا إنتي.”

ارتجفت حبيبة بين يديه، وخفق قلبها بعنف، وتساقطت دموع خجولة على وجنتيها، وجسدها كله يتشنج من وقع كلماته، كل حرف يلفها في حبال من الشوق والخوف معًا.

تراجعت إيمان بيأس، وغمغمت وهي تحاول السيطرة على فزعها: روحوا وين… تكون الدكتوره… خدته وطلعوا من السرايا…”

خرجت إيمان من الإسطبل، وزفرت حبيبه براحه حين رأت الاسطبل فارغًا، لكنها لم تهدأ بعد…

لكزت صدر فارس بقوة، ودموعها تتساقط ببطء على صدره، وهدرت بارتباك وغضب: أوعي يا سافل!”

تركها تنهض، ونهض هو كذلك، وعيناه تشتعلان بنار لا تهدأ،  اقترب منها بخطوات ثابتة مليئة بالتمركز والسيطرة، وهمس بصوت يغلي بالشهوة والغضب معًا:
سافل ليه… دانا انجذتك بدل ما كانت إيمان توعالك تحتي.”

تراجعت حبيبة، فارتطمت بأحد الأعمدة، ودفعته بيدها بنصف قوة، وغمغمت بصوت ممزوج بالخجل والغضب:
تحتك وزعلان اني بجولك… سافل… دانت السفالة بصورتها الخام! بعد عني!”

ابتسم بعبث، وغمزها بعينين تتوهجان بالشهوة، وصوت أشد غرابة يخرج منه: بصراحة… أنا مكتش شايف غير شفايفك… ومش شامم غير ريحتهم.”

اقترب أكثر، وضغط بجسدها القاسي على جسدها، حرارة وجوده تلتهم كل مساحة من حولها، وأنفاسها تتشابك مع أنفاسه، وهمس بوقاحة: ريحة شفايفك… ورد وتوت… نفسي آخد نفسي فيها وأهمل الدنيا كلاتها تنحرج… ما يهمنيش غيرك.”

ارتجفت حبيبة بالكامل، واتسعت عيناها بدهشة، ولطمت وجنته بلطمه ضعيف، وهمسة: سافل!”

التو عنق فارس وابتسم ابتسامة مزيج من العشق والوقاحة، وعض شفته برقة وألم، وهمس: زينه جوي… يا ست البنات.”

دفعتها حبيبة بقوة، محاولة أن تنفصل عن جسده، أن تستعيد مسافة تنقذ بها نفسها،
لكن يده كانت أسرع، قبضت عليها فجأة، سحبها نحوه، وجعل جسدهما يلتصقان التصاق النار بالخشب،

وكأن كل الهواء من حولهما يشتعل بلهيب الرغبة والخوف معًا… همس أمام شفتيها بصوت أجش، يحرق الروح ويأسر القلب: انتي كده هتعلجيني فيكي اكتر، انا بموت في الشراسه بس هتجدر تچريني للآخر.”

ارتجف جسدها، واهتزت كتفًا كتفًا، هزت رأسها بالنفي وهي تكافح، لالتقاط أنفاسها المتقطعة بين الاختناق والخوف، وهمسة بأنين مختلط بالخجل والرهبة:
لالا، سيبني!”

ابتسم بعبث، كمن يملك القدرة على قلب القلوب بلا رحمة، ثم أفرج عن قبضته عليها ببطء، لكن حرارة جسده لم تخمد، وهمس مرة أخرى بنبرة حانية تحمل بين دفتيها سيطرة لا تقاوم: شوفي شغلك.”

أومأت برأسها، ودفعت فارس قليلًا، وحاولت إنهاء عملها بسرعة، تكافح ارتجاف جسدها، تحاول كبح دموعها التي كانت على وشك الانهمار،

لكنها شعرت بكل خفقة قلبه، بكل نظرة يتبع بها كل حركة لها، وكل شريان ينبض بها كان يشعل فيها نار الشوق والرهبة معًا.

وقف فارس على مسافة خطوات قليلة، عيناه تشعان بشفقة ممزوجة بالحنان، وكأن قلبه يلتهم كل تفصيلة فيها، وكل نفس تلهثه يشعل فيه نار الندم، والحب، والحنين،

يراقبها بصمت ثقيل، مختزلًا كل مشاعره في كل رمشة عينيها، في كل خفقة ترتجف معها الأنفاس.

في تلك اللحظة، دلف أمير إلى الغرفة، صوته يشق الصمت كالسيف: انتو كنتوا وين؟”

نظر له فارس بدهشة مصطنعة، يحاول كبح حرارة قلبه، وهتف ببرود: وين كيف؟”

ارتجفت حبيبة حين التقت عيون أمير، وارتجاف جسدها ودموعها المكبوتة كشفت له ما كانت تحاول كتمه، فقال بحزم ممزوج بالقلق: بت عمك چات هنه وملجتش حد فيكم.”

هز فارس رأسه بثبات، صامتًا، محاولًا تهدئة الموقف، وقال بهدوء يخفف من حرارة التوتر: لا احنا متحركناش من هنه، يمكن راحت الاسطبل الشرجي اللي أتحرج عشان الفرس كان فيه الاول.”

ارتاح أمير قليلًا، وأومأ برأسه، ثم نظر إلى حبيبة بعينين تمتلئان بالدهشه وقال : خلصتي يا حبيبه؟”

أومأت بصوت مرتجف، محاولة أن تجعل لهجة صوتها ثابتة، وهمسة: ايوه، يلا.”

أومأ أمير لها، وتمتم: يلا.”

تحركت حبيبة، وأشار أمير إلى فارس ليتبعها.
وقف فارس، عيناه لا تفارقان كل خطوة تخطوها، قلبه يشتعل بالندم والحزن،

ودموعها المكبوتة تحرقه من الداخل… استند على ظهر الفرس وهمس بصوت متحشرج، يخرج من أعماق قلبه الملتهب: اخس عليك يا فارس، هملها ف حالها ديه شفافه اكتر من المايه، واخت صاحبك ، وطلما مش هتجدر تتچوزها، يبجي تعلجها بيك ليه؟! جلبها اخضر على الوچع.”

نظر فارس حوله باضطراب مكتوم، وخط بخطوات ثقيلة كأن الأرض تشده إليها…

تحرك إلى الخارج، ودلف إلى السرايا، ملامحه مكفهرة، كأن الليل كله قد حط على كتفيه….

التقت به إيمان على عتبة الصالة، نظرت له بدهشة واسعة في عينيها، رفعت يدها تستوقفه، لكن قبل أن تفتح فمها كان فارس قد صعد الدرج بخفة يختبئ وراءها طوفان من الغضب المكبوت…

دخل غرفته وأغلق الباب خلفه بعنف خافت، وألقى جسده على الفراش كما يلقي الجمر في موقد ضيق…

ظل يتقلب على السرير ساعات ، صدره يعلو ويهبط، كل خفقة قلب فيه تشبه شرارة تتطاير في الظلام…

نهض فجأة، وغضبه يسبق أنفاسه، وانسحب إلى الشرفة، وقف هناك في الهواء الطلق، يلتقط أنفاسه كمن خرج لتوه من غرق… رفع رأسه إلى السماء الداكنة وهمس بصوت مبحوح: تلجيها لساتها هتبكي…”

مرر كفه على وجهه في حركة حائرة، ثم سحب الهاتف من جيبه، نظر إلى شاشته،
عبث بها قليلًا كأنه يخشى ما سيأتي، ثم رفعه إلى أذنه، يتنصت إلى رنين متصل يشبه دقات قلبه…

انتهت الرنة، سقطت أنفاسه في الصمت. نظر إلى الهاتف، غمغم في وجع: ردي… طب اطمن عليكي دجيجه واحده.”

عاود الاتصال بإصرار أكبر، يده تضغط على الجهاز كأنه يتشبث بحبل نجاة… وأخيرًا جاءه صوتها متحشرجًا بالدموع، صوت يجرح كل ما فيه: بدك ايه تاني؟ سيبني ف حالي ياخي.”

عض شفته حتى أدمتها المرارة، وخرج صوته متحشرجًا موجوعًا، يحمل اعترافًا لم يقل مثله من قبل: حجك عليا… أنا عارف اني زوتهم جوي.”

ضحكت هي بتهكم، ضحكة كالسيف على قلبه وغمغمت :  يا شيخ يعني طلعت بتحس اهو.”

أغلق عينيه، وتنحنح بغيظ مكتوم ليمنع صوته من الانكسار، وغمغم: بحس… وبحس بيكي اكتر من اي حد، وكت حاسس انك هتبكي دلوق.”

زاغت عيناها كمن تفاجأ بالسكين في منتصف الصدر، وهمسة كأنها تبوح بأعمق جرح فيها: وانت بعد كل ديه ومبدكش ابكي؟ أنا عمري ما حد جرب مني كيف ما انت هتجرب مني يا فارس.”

أغلق عينيه بحنق على نفسه، كل جملة منها تسحبه إلى الهاوية، لكن داخله كان مزيجًا غريبًا من السعادة والخذلان، وغمغم بنبرة كسيرة:مش عارف أفرح ولا أحزن… بس كل اللي جادر عليه أجولك أنا آسف يا حبيبه، ومش هجرب منيكي كده تاني…مش هكسر حد الحيا بيناتنا تاني… انت حاچه شفافه جوي وأنا مش هعكرها. سامحيني يا حبيبه.”

شعرت وكأن اسمها على شفتيه يتساقط عليها كالمطر الدافئ، انهمرت دموعها بلا إرادة، وكل دقة في قلبها تضرب جدار خوفها القديم…

هوى صوت فارس في أذنها أعمق من أي اعتراف، حنونًا رغم قسوته. تنهد فارس بحزن حين طال صمتها، ثم همس بصوت أجش دافئ يكاد يكون خارجًا من صدره مباشرة: يا حته النور أنا…”

لكنها قاطعته بنحيب يخلخل الهواء: كفايه يا فارس… أنا مش فاهمه ايه اللي چري، أنا حتي مش فاهمه حالي.”

أومأ برأسه، وصار صوته حنانًا ممزوجًا باليأس، يشبه تنهيدة رجل ضل الطريق: ولا أنا يا حبة الجلب الميت… ولا أنا… بس ياريتنا كانا ف زمن تاني وكنا اتنين تاني، مكنش هيكون في حيره ولا دموع… على عيني أبكي عنيكي… والنعم يا حبيبه دموعك جمر هيكويني.”

انزلقت دموعها وهي تهز رأسها بالنفي، همسة بصوت مبحوح: أنا مش فاهمه حاچه يا فارس.”

أغلق عينيه بقهر يذيب القلب وغمغم بصوت مهزوم:
اااه منيها فارس… منيكي دلوق اللي حسيت اني فارس يا حبيبه.”

تنهد بحرارة، صوته يخفت في حنان موجوع: روحي نامي يا حبة الجلب الميت… تصبحي على خير الدنيا كلاته.”

أومأت برأسها وهمسة بصوت مكسور: وانت من أهله.”

أغلقت الهاتف بسرعة، وفارس بقي ينظر إلى الشاشة، وغمغم بصوت واهن: زين أنها جفلت… مكتش هجدر أجفل أبد.”

جلس على أرضية الشرفة، وسند ظهره إلى الجدار، وعيناه معلقتان بالسماء الداكنة، الدموع تتحجر فيهما ولا تخرج. كان الليل كله كأنه يجلس معه، يضع فوق صدره حجارة ثقيلة من الندم.

………………………………

كان الصباح يتنفس بهدوء فوق مزارع العزيزي، غير أن الهدوء سرعان ما تكسر داخل المكتب الصغير حين جلس فواز يقلب الدفاتر بين يديه…
عيناه تراقبان الأرقام بحذر، وغمغمة غاضبة أفلتت من بين شفتيه: واد يا موسى… الخربطة باينه ف الحسابات جوي يا بهيم.”

رفع موسى رأسه بتهكم، وانحنى على الدفاتر كأنه يستخف بها وقال ببرود: أباي ولا باينه ولا حاچه… انت إلا جلبك خفيف يا بوي.”

ضرب فواز بيده على المكتب ضربة مكتومة بالغضب، وانحنى إلى الأمام وهو يضغط الكلمات بين أسنانه: هتلبسني ف حيط مع عمك وولده… فكرك عساف مش هياخد باله؟”

هز موسى كتفيه ببرود وغمغم كأن الأمر لا يعنيه:
ولا عساف ولا حد… عساف ديه كيف البومة… مجفل ولا يفهم ولا يعجل.”

في تلك اللحظة، انفتح الباب بعنف، ودلف سليمان والشرر يتطاير من عينيه، صوته يهدر كالريح: ماهو العيب مش عليك… انت عيل سفيت لچامك!”

ثم استدار نحو والده بعينين تملؤهما الخيبة: وانت يا بوي، بدل ما تعجله، بتعوم على عومه ليه؟ تعمل كده ف عمي؟ ديه چزاته… تسرجوا الراچل اللي آمنلكم… تنهبوه كده؟”

ارتبك فواز وموسى لحظة، ثم نهضا بغضب مكتوم، واندفع موسي بسرعه، وأغلق الباب بعنف وهدر:
انت ادبيت إياك؟ ايه الحديت الماسخ ديه… سرجتوا إيه ونهبتوا إيه؟”

اقترب منه سليمان، صوته يجلجل بالغضب:إيوه ف خربطة ف الدفاتر والوارد والصادر؟ وديه مش أول مرة ألحظها.”

لكن فواز لم يمنحه فرصة، رفع عصاه ولكزه بها بعنف، وهدر بصوت قاسي: اكتم خشمك! انت ادبيت يا ولد؟ من غير خشي هتوجف جدام أبوك وتتبچح إكده؟”

تراجع سليمان ممسكًا موضع الألم، أنفاسه تتلاحق، وصاح بحرقة: لما أجولك أنا… تلحجوا ترچعوا اللي ختوه، جبل ما عمي ولا عساف يعرفوا… أنا خايف عليكم يا بوي!”

لكن موسى قفز خطوة نحوه، عيناه مشتعلة بالغضب، وهدر من بين فكيه: خاف على حالك يا سلمان! احنا وعين زين… ومحدش هيجدر يعرف حاچة.”

صفع سليمان كفه على الطاولة بذهول وصاح: كيف يا موسى؟ أنا لاحظت بسهوله! كيف مش هيحسوا؟”

لكزه فواز ثانية بعصاه، وزمجر بصوت مبحوح: ملكش صالح! حط لسانك ف خشمك… واجطع الخنس.”

نظر لهم سليمان بحنق، قلبه يتفطر قهرًا، ثم استدار مغادرًا، صوته يتردد كاللعنة: أنا عملت اللي عليا… وربنا شاهد. بس انتو… شيطانك سايجكم.”

حين أغلق الباب خلفه، اقترب موسى من أبيه، القلق يطل من عينيه وهمس: فكرك… سلمان يشي بينا عند عمي يا بوي؟”

هز فواز رأسه في بطء، وصوت البرود ينضح من كلماته:
لاه… سلمان چبان.”

أومأ موسى، لكن نبرته كانت تحمل حقدًا يتصاعد في صدره: بحسه كأنه مش أخوي… طالع لعمي وولده.”

ازداد الغضب في عيني فواز، وانفلتت منه غمغمة ملأى بالحقد: طالع للمحروجة… أمك. حرج أبو اللي چابها!”

………………………………..

مساءً في سرايا الأنصاري،

كان الهواء مشبعا بخفة نسيم الليل، والحديقة الخلفية تتوهج بخافت الأضواء التي تلمع بين الظلال…
وقفت نغم، تمسح دموعها المرتعشة بكف يدها، قبل أن يراها أحد، كأنها تحاول إخفاء ألمها عن العالم بأسره.

اقتربت ليله منها بخطوات هادئة، وربتت على منكبها برفق، وهمسة بصوت حنون: مالك يا نغم… انتي هتبكي ليه يا حبيبتي؟”

نظرت نغم إليها بعينين مليئتين بالخجل والارتباك، وهزت رأسها بالنفي، وغمغمت: مش عايزه اتچوز.”

تجمدت ليله لوهلة، بدهشة واضحة، وقالت: طيب… ليه مجلتيش لمك كده لما جلتلك الناس چاين عليكي؟”

هزت نغم رأسها بحزن، ودموعها تتدحرج على وجنتيها، وغمغمت بصوت متقطع:أمي كانت فرحانه… وأنا…”

قطعتها ليله بدهشة وانفعال، وصوتها ارتجف من الذهول:
أمك فرحانه؟ كيف… وانتي اللي هتتچوز… الناس بره يا مدبوبه!”

نظرت نغم حولها بعينين متوترة، كأنها تبحث عن ملاذ آمن، وهمسة بصوت خافت يختلط بالخوف واليأس:
أنا مش فرحانه… وبدعي ربي يحصل كيف كل مره… ويروح ميرچعش.”

هزت ليله رأسها بحزن، وعيناها تلمعان بالدموع، وقالت بخشوع: ليه حياتنا معچربه كده بس يا ربي…”

فجأة، دلفت فاطمة إلى المكان، وهتفت بحماسة: اباي ديه… وجت رط يا بنتا!”

نظرت ليله إليها ورفعت رأسها بالنفي، وهمسة:لا يما… ديه وجت الشربات.”

هزت فاطمة رأسها بالنفي أيضًا، وقالت بحزم ومودة:
لاه… اعملو جهوه… لسه بدري علي الشربات… وهتيهم يا نغم يا بتي… واطلعي لأجل ما العريس يوعالك.”

أومأت ليله برأسها، ونغم أيضًا، وشرعا معًا في إعداد القهوة، بين همس الليل وظلاله، في لحظة مليئة بالسكينة، لكنها تحمل في طياتها ثقل القلق والحنين وعبء الانتظار.

في الخارج،

كان الليل يلف الحديقة بسكونه الثقيل، والأضواء الخافتة تتراقص على وجوه الحاضرين كظلال مرهفة…

جلس الجميع في هدوء يختلط فيه الحذر بالترقب، وكل نفس يبدو مثقلاً بالمعنى…

ربت فهمي على فخذ عماد برفق حنون، وكأنها محاولة لتهدئة قلبه من ثقل الأيام، وهتف بصوت متهدج، مشبع بالدفء والحرص: حمد الله على السلامه يا ولدي.”

ابتسم عماد بود، ورفع رأسه ليلاقي نظرة الرجل الكبير، وأومأ برأسه باحترام، وهو يشعر بطمأنينة تلامس قلبه:
الله يسلمك يا عمي.”

اوما سند برأسه وقال: حمد لله على السلامه يا واد عمي!!

ربت عماد علي صدره بود صافي وغمغم : الله يسلمك يا ابو عاصم …

وقف فارس، بالقرب، يراقب المشهد بعينين حذرتين، كل حركة فيها تدل على تهدئة الموقف، وقال بنبرة هادئة لكنها حاسمه: وانت خلصت كده ولا وهسافر تاني يا عمده؟”

هز عماد رأسه بالنفي، وصوته ممتلئ بثقة مزيجها الجد والاجتهاد: لا يا صاحبي… أنا هفتح عياده واشتغل هنه… وبكفايه سفر.”

ربت ادهم على منكبه برفق، وهو يبتسم ببراءة رجولية:
زين جوي… هتفتحها وين؟”

أشار عماد بيده وهو يشعر بحماسة فطرية تتقد في صدره، وهتف: ف سوهاج.”

أومأ فهمي برأسه بتقدير، وكأن الكلمة تزن ثقلاً على قلبه:
كيف… شركة الغالي ف سوهاج.”

ابتسم عماد بود صادق، وهتف بفرح هادئ:
مبروك الشركه يا واد عمي.”

أومأ فارس برأسه، صوته يحمل احتراماً وإعجاباً:
الله يباركلك يا صاحبي.”

ثم نظر عماد حوله بخفة ودهشة ممزوجة بالحنين، وكأن قلبه يبحث عن ظل مألوف، وقال: اومال بدر وين… وحشني جوي… الواد ديه صوح اتچوز ليله بت الكاتب مش كده؟”

قبض فارس على حاجبه، ونظره صار كالسيف يقطع الجو، لكنه أدرك أن الوقت قد فات ، فقطب عماد حاجبه بدهشة وفضول، كأن الحذر تآكل أمام الفضول.

ارتفع صوت فهمي بالغضب والاندفاع، كأنما الليل كله يشهد على قوته: وانت كمان خابر إنه كان عينه على بت الكاتب!”
ربت سند علي منكب عمه يحاول تهدئة الوضع وغمغم : خلاص يا عمي ..اللي حصل حصل!!
تنحنح عماد بتوتر، وادرك لم حذره فارس وغمغم بنزق من نفسه : يعني كت… اعرف… أيوه كت اعرف.”

أرسل له ادهم نظرات حارقة، كل واحدة كالسهم تخترق الصمت وهتف : مش كده… يعني كنا عارفين إنه بده يروح عليها يا عمي.”

أومأ فارس وعماد، وهم يغمغمون بصوت منخفض يختلط فيه التوتر بالرهبة: أيوه… كده… هو فين بدر؟”

أشار ادهم بنزق، وكأن الكلمات نار على جمر: ف المصنع… أنا هنه… يبجي هو هناك.”

أومأ عماد برأسه، وهو يشعر بثقل المسؤولية، وقال بهدوء: خير يا صاحبي.”

ابتسم بخيت بحنان، وكأن العالم كله يذوب في بسمة واحدة، وهمس: اتچمعتوا تاني يا ولد.”

ابتسم الجميع بود، والهواء المحيط بهم مشبع بالثقة المتبادلة، وغمغم رماح بحكمة، صوته كالصدى في عمق الليل: مسير الحي يتلاجي يا ولاد.”

أومأ بخيت برأسه بإجلال، وقال: صوح يا حچ رماح… وربنا يباركلني ف انفاسك يا كبيرنا.”

ربت رماح على صدره برفق، وهمس بابتسامة دافئة:
تشكر يا ولدي.”

في الركن الآخر من الحديقة،
كان الهواء يتشح بعبق المساء ووشوشات النساء تملأ المكان بدفء خفي. ضحكت فاطمه بمرح، وصوتها يختلط بالنسيم: البت متلومه… تطلع على عريسها!”

ضحكت زهيره بدورها، وصوتها كأنه يرقص بين الأشجار:
هما بنتت اليوم هيتلوموا يا خيتي!”

أومأت وهيبه وهتفت بصوت دافئ: اباي… مش كل البنتا يا زهيره… أنا بتي هتستحي من خيالها.”

ربتت زهيره على ساقها برفق، وهمسة بابتسامة تملؤها الحنان : اومال يا خيتي… أمالك احنا چين عليها… يا زين ربيتك يا بت عمي.”

خرجت نغم وهي تحمل صينية القهوة، وجفونها تتثاقل من كتمان المشاعر، لكن عند أول نظرة إلى الحاضرات ارتفع رأسها قليلاً، وتمسكت بها وهيبه وهي تبتسم بحرارة: تعالي يا بت… ارفعي عينك… هتتكفي يا ملكومه.”

أومأت نغم برأسها بخجل، واقتربت من زهيره التي نهضت، وزغردت بسعادة عارمة، وهتفت بصوت يمزج الفرح بالفخر: جمر مصور يا مرت ولدي!”

همسة نغم بخجل، وكأن كلماتها تخفي بين أنفاسها:
تسلمي يا خاله.”

ضمت زهيره نغم إلى صدرها بسعادة، وهمسة بحنان:
زي الشهد من خشمك يا بتي.”

أومأت نغم وهمسة بعذوبة: ربنا يخليكي يا خاله.”

ربتت وهيبه وزهيره على منكبها برفق، كأنهن يحمين قلبها من كل حزن، وقالت زهيره بابتسامة دافئة:
جدمي يا بتي… الجهوه.”

أومأت نغم برأسها بخفة، كأنها طيف ينساب بين الطاولات، تحمل فناجين القهوة بين يديها بعناية،

وكل خطوة منها تتراقص بين التوتر والخجل. عند وصولها إلى عماد، رفع عينيه نحوها، وظل مشدوهًا بين الدهشة والإعجاب،

بينما قبض على الفنجان بحذر كما لو كان يحمل شيئًا ثمينًا، وقال بابتسامة دافئة: تسلم إيدك يا آنسة نغم.”

أومأت نغم بخجل، خافقة قلبها، ثم تابعت تقديم القهوة لبقية الحضور، والحرص يرافق كل حركة…

وعند وصولها إلى بخيت، الذي كان يراقبها منذ لحظة دخولها، ارتسمت على وجهه ابتسامة صادقة وهتف بسعادة: تسلم يدك يا ست البنتا!”

أومأت نغم برأسها وهمسة بعذوبة: تشكر يا عمي.”

أنهت نغم تقديم القهوة، وسرعان ما ركضت إلى المطبخ، كأنها تهرب من أنظارهم،

لتجد ليله بانتظارها، عيناها تتلألأ بمزيج من الفضول والمرح، وهمسة بدهشة: هااا… وعيتي للعريس؟ شكله حلو.”

هزت نغم رأسها بخجل، وكأنها تختبئ وراء حجاب خفيف من خجلها، وهمسة: موعتلهوش.”

هزت ليله رأسها بحنق واضح، وهمسة بحدة: أمال إيه يا موكوسه؟”

رفعت نغم منكبيها ببراءة، وصوتها يرتجف قليلاً وهي تحاول التعبير عن شعورها: اللي حصل يا ليله… مجدرتش أرفع عينيه فيه… بس سمعت صوته، وكان صوته فيه بحه حلوه كده.”

شهقت ليله بدهشة وغضب، وصوتها امتزج بالانفعال:
ليه! هتتچوزي بحته يا مكفيه؟”

ضحكت نغم بخفة، كأنها تفرغ جزءًا من رهبتها، وهمسة بدهشة ومرح: مش لو چايه تاني.”

هزت ليله رأسها بيأس، وغمغمت بلهفة وحسرة: والله مدبوبه انتي…”

في تلك اللحظات، كان الجو مشبعًا بروائح القهوة والحرارة البشرية، والهمس الخافت بين نغم وليلـه..

يختلط مع دقات القلب المتسارعة. كل لحظة كانت تمثل صراعًا داخليًا بين الخجل، الفضول، والانجذاب الغامض الذي لم تستطع نغم تفسيره بعد.

في الخارج،

نهض الجميع بحركة شبه متزامنة، كأنهم يستعدون لوداع لحظة مهمة، فارتفع صوت بخيت حاملاً في كلماته الأمنيات الطيبة: هنستنظروا ردكم وان شاء الله خير.”

أومأ فهمي برأسه بحزم وطمأنينة، وهمس: خير يا ولد عمي.”

أشار لهم رماح بعينيه العميقتين، وكأنه يرسخ حكمة من سنين: اللي فيه الخير يجدمه المولي .”

أومأ الجميع احترامًا، وردوا : أن شاء الله..

تبادلوا التحايا والابتسامات، وانصرفوا حاملين سعادتهم وهم يملأون المكان دفئًا،

بينما ربت سند على منكب والدته برفق، وهمس بفرحة وحب:خير يما، أحسن عريس چاي على خيتي.”

أومأت وهيبه برأسها بابتسامة دافئة، وردت بحنان:
خير يا ولدي، ربك كبير.”

كانت الأجواء مشبعة بالرضا والطمأنينة، ومع كل خطوة ينصرفون بها، كان شعور الأمل والخير يملأ المكان، كأن الليل نفسه يبتسم لهم بهدوء… ربما هدوء ما قبل العاصفة…

………………………….

في سرايا العزيزي…

كان الليل يهبط بظلاله الثقيلة على أركان البيت الكبير، ينساب الصمت بين جدرانه مثل موجة من الحزن القديم…

دلف أمير إلى غرفة والدته بخطى مترددة، كأن الأرض تتثاقل تحته، وغمغم بصوت خافت متوجس: شيعت لي يما…”

أومأت إنعام برأسها، وعينيها تحف بهما سحابة من الألم، وقالت بصوت منخفض يقطر حنانًا: تعالي يا ولدي واجفل الباب…”

امتثل لأمرها، وأغلق الباب خلفه ببطء، كمن يخشى أن يثير صدى الخطوة…

جلس بجانبها بخجل واضح، يبحث في وجهها عن منفذ للبوح، ثم همس: كيفك يما…”

مدت يدها ورفعت رأسه إليه، ودموعها تلمع كحبات الندى في عينيها، وقالت بصوت يختلط فيه العتاب بالعطف: ارفع راسك يا ضنايا… خابرك هتتلوم مني بعد اللي حوصل…”

رفع رأسه ونظر إليها بندم ينهش صدره، وصوته يتلوى بوجع مكتوم: حجك عليا يما… أنا مكنش جصدي أزعلك ولا أتعبك… بس طلبك علي عيني… ريم كيف حبيبه خيتي ومش جادر أشوفها غير مرت أخوي طه اللي كان حتة مني يما…”

أومأت إنعام برأسها بحزن عميق، وخرج صوتها كأنه أنين قلب: خابره يا ولدي… بس هي بردك وصية الميت ولازمن تتنفذ صوح…”

نهض أمير بغضب متفجر من جوفه، وهتف بصوت متقطع من شدة احتباسه: يما أنا عارفه… بس مش جادر… أنا بدي أچوز واحدة أكون بحبها…”

نظرت له، وفي صوتها يقين المرأة العارفة بما تخبئه الأيام: انت هتحب يا ولدي؟!

هز رأسه بيأس كأنه يسقط في هوة بلا قاع، وغمغم:
لا يما… عشان كده متچوزتش… لسه ما جبلتها…”

أشارت له بيدها في حركة تحمل رجاء وأمومة معًا، وقالت: طيب ايه رايك… حتى لو جبلتها بعد ما تتچوز ريم وچيت جولت يما أنا بدي أتچوز فلانها محدش هيتحدت وهتتچوز كيف ما تحب…”

مسح وجهه بيده بحنق يشبه العجز، وغمغم: طب وريم ذنبها ايه… تعيش مع واحد مش هيحبها وممكن يحب غيرها ف أي وجت…”

أومأت إنعام برأسها، عينيها تحفران في صمتهما خندقًا من الألم، وقالت: هي مش هيفرجلها يا ولدي… مبدهاش رچاله بعد أخوك يا ولدي…”

جلس على طرف الفراش، أغمض عينيه بيأس ثقيل، وغمغم: سبيني أفكر يما… واجلبها ف راسي…”

مدت يدها وربت على ظهره ببطء، كأنها تضمه إلى حضن القدر، وتمتمت ودموعها تنزل ببطء: فكر يا ولدي… بس ابجي فكر ف بت أخوك بردك… يهون عليك يربيها غريب…”

نظر لها بحزن يشوبه حسرة، وصوته خرج كأنه انكسار بطيء: هتمسكيني من يدي اللي هتوجعني يما…”

هزت رأسها بالنفي، وغمغمت بدموع تسابق كلماتها:
لاه يا ولدي… ولا عشت ولا كنت… بس أنا شايلة هم بت أخوك تتلطم ف الدنيا يا ولدي…”

هز رأسه بالنفي، وصوته متحشرج بالوجع: عمرها ما هتتلطم طول ما أنا عايش… حتى من غير ما أتچوز أمها… بس انتو مش جادرين تفهموني…”

هزت رأسها بالنفي، وفي عينيها يقين الأم المثقلة بالاختيارات، وغمغمت: انتي اللي هتوعي ف يوم أني اخترت لكم الخير يا ولدي…”

أومأ برأسه، ونهض بثقل كأنه يحمل الأرض على كتفيه، تحرك إلى الباب وفتحه ببطء، وغمغم بصوت متحشرج يتكسر بين الشفتين: تصبحي على خير

يما…”

أومأت برأسها، وهمسة بعطف خانقه: وانت من أهله يا ضنايا…”

…………………………

ف سرايا الانصاري ..

جلست ليلة على شرفة غرفتها، تتصفح كتابا بملل ثقيل يلقي ظلاله على ملامحها…

فجأة، اخترق سكون الليل صفير مألوف لها، ذلك الصفير الذي يشبه توقيعًا شخصيًا لا يخطئه قلبها…

رفعت رأسها ببطء، وعيناها تبحثان عن مصدر الصوت، حتى التقت بنظرات بدر الواقف أسفل الشرفة، يرفع يده ملوحًا، وعلى شفتيه ابتسامة مشاكسة وهمس: وحشتيني جوي…

ارتبكت، ونظرت بالمكان بنظرات متوترة، ثم همسة بصوت خافت: بدر… هتچرسنا..

ارتسمت على شفتيه ابتسامة عابثة، وقال بلهجة متعمدة:
أحلى چرسة.

ضحكت بخجل لم تستطع كبته، وهمسة :هتعمل إيه دلوق؟!

أشار لها بيده وهمس: اندلي.

رفعت حاجبها بدهشة وقالت: ليه؟.

أومأ برأسه، واللمعان في عينيه يزداد: چبتلك حاچة… اندلي خديها.

هزت رأسها بترددٍ، وهمسة: دجيجه….

دلفت إلى الداخل سريعًا، التقطت وشاح ثقيل ولفت به جسدها، ثم خرجت بحذر إلى الدرج ونزلت متسللة حتى وصلت إلى البوابة الداخلية للسرايا…

وقلبها يدق بعنف كلما اقتربت من المكان الذي يقف فيه بدر، في آخر الحديقة، حيث الظلام يحتضن الأشجار والهواء يحمل نسمات باردة.

وقفت لحظة تتلفت حولها بخوف من العتمة، فإذا بصفيرٍ آخر يخرج من بين شفتيه، ناعمًا، كأنه دليلها إلى حضنه…

رفعت بصرها إليه، ثم ركضت نحوه فجأة، واندفعت في أحضانه. فتح ذراعيه لها وتراجع للخلف حتى سند ظهره علي جذع شجرة عتيقة، بينما كانت هي مطبوعة على صدره، يضغطها إليه بقوة خافتة وهمس: وحشتيني جوي.

دفنت وجهها في صدره كمن وجد مأمنه بعد تيه طويل، وغمغمت بصوت مرتعش: وحشتني جوي… كتير.

ابتسم بعبث وهو يمرر يده على ظهرها، يلصقها أكثر إليه وهمس: ليل البدر.

مرمغت وجهها في عنقه، وأنفاسها تتلاحق بحرارةٍ مكشوفة وهمسة: أمم…

أشار بيده وهو يضمها بذراع واحد: بصي وراكي.

رفعت رأسها بدهشة وارتباك وهمسة: حد وعيلنا؟.

هز رأسه نافيًا، وصوته يخفت أكثر، كأنه يحمي سحر اللحظة: تؤ… بصي.

التفتت ببطء خلفها، وفي اللحظة التي وقعت فيها عيناها على ما وراءها شهقت شهقة مكتومة؛

وقفت ليله مذهولة، عيناها تتسعان أمام المشهد الذي كاد يوقف قلبها.
فقد انكشفت أمامها المرجيحة المصنوعة من أغصان الشجر العتيق، يكسوها حلل من الورود البيضاء والحمراء،

تتدلى من غصن عملاق في وسط العتمة، ينساب منها عطر الليل مختلطًا برائحة الورد، كأنها قطعة من حلم معلق بين الأرض والسماء.

تدلت الأضواء الخافتة من فوانيس معلقة على الأغصان، تتراقص بين أوراق الشجرة، فتخلق وهجًا رقيقًا على الخشب والورود،

وكأن الليل نفسه قد احتضن المكان ليجعل كل شيء فيه خياليًا وساحرًا…

كل وردة تفوح بعطرها، يختلط بعطر الأرض الرطبة وليالي الشتاء البارده، فتشعر ليلة بأن الهواء كله معطر برائحة الفرح والغموض معًا.

اقترب بدر من المرجيحة وأشار لها بيده، صوته يحفل بالحنان والدفء، وهمس: عچبتك يا عمري؟!

ارتجفت ليلة بين الخوف والدهشة، لكنها لم تستطع مقاومة سحر المكان،

وكأن المرجيحة صنعت لتكون لها وحدها، لتغرقها في عالم بعيد عن كل شيء آخر، عالم مليء بالحب والدفء، حيث لا مكان للخوف أو للحزن.

نظرت له بذهول وهمسة: حلوه جوي.. كيف الحلم يا بدر!!

اقترب منها بخطوات واثقة، وعيناه تلمعان بشغف لا يخب، أمسك بيدها برفق وجذبها نحو المرجيحة،

فجلست وهي ترتجف بين يديه، بينما يلتقط قلبها كل ثانية وكأنها تهبط من سماء الليل إلى أعماق حلم لم تره من قبل.
كأن اللحظة كلها خصصت لهم وحدهم، لحظة تختلط فيها الطبيعة بالعاطفة بطريقة تخطف الأنفاس.. .

همس بصوت خافت لكنه ممتلئ بالحنان: استعدي…

بدأ يدفع المرجيحة بخفة، فارتفعت ليلة في الهواء بفرحة ودهشة، والورود تلامس جسدها كأنها جزء من عالم سحري…

اقترب بدر منها فجأة وهمس أمام شفتيها بصوت أجش : چربي كده… كل مرة أجربلك، هبوسك…

ومع كل حركة للمرجيحة، كان يقترب منها، يلامس شفتيها بخفة، ثم يبتعد بدفع خفيف ليطير المقعد مرة أخرى، بينما تنتقل همساتها الممزقة بين الخجل والدهشة:
بدر… براحه ، هخاف ..

ضحك بصوت منخفض، وغمغم: ديه لعبتنا… مهو أنا مش ههملك تهربي مني كده…

بدأ يدفعها برفق، فتتأرجح إلى الأمام والخلف، وكلما اقترب منها بدر، كان يقبلها بخفة على الشفاه،

فتطير بعيدًا قليلاً قبل أن يجذبها مرة أخرى إلى حضنه، يقبلها ثانية، ويتركها تتأرجح مع الهواء، لتعود إليه مرة أخرى، في لعبة من الشغف والدلال الممزوج بالتحدي.

همس لها بأنفاس لاهثة: بحبك يا بت … كل مرة أجربلك جلبي يجيد أكتر.”

ضحكت بخجل، لكنها لم تستطع مقاومته، فجذبها أقرب، ومرر يده على ظهرها بلطف، ثم على خصرها لتثبتها أثناء تأرجح المرجيحة، فتتلامس أجسادهما برقة وقوة في آن واحد، كأنهما واحد وسط الليل والسحر.

رفعها قليلاً في الهواء أثناء دفع المرجيحة، فصرخت بخفة، بينما اقترب بدر مباشرة ليضغط جسده بجانبها وهمس في أذنها بكلمات غارقة بالشهوة والمرح: كل ما هطيري بعيد، نفسي أكون چنبك… أدوج شفايفك اللي ناعمه موت..

تغيرت الحركة فجأة، دفعها بدر بقوة أكبر، فاهتزت في الهواء، ثم استدار بسرعة ليقبل عنقها، يدفعها بمرح لتعود مرة أخرى، وتلتقط أنفاسها وهي بين يديه…

كانت شهقاتها تتناثر مع ضحكاتها، وكل لحظة تمر بينهما تزيد من حرارة الليل، وتشد انتباه كل شيء حولهما إلى هذا التلاحم الجنوني.

لم يكن هناك خوف، فقط حميمية مطلقة، لعبة متقنة بين القرب والابتعاد، بين الشغف والدلال، بين قلبين يلهثان في ليلة لا تنسى، والمرجيحة تتابع صمتها كشاهدة على هذا الجنون الرقيق المليء بالحب والتملك…

بخفه جذب بدر ليله وجلس هو على المقعد الخشبي للمرجيحة، وسرعان ما جذب ليله مره اخري  بين أحضانه، رافضًا أن تبتعد عنه حتى ولو لحظة.

همس لها بلهفة وهو يثبتها بين ساقيه : اجعدي هنه… جريبة مني، نحس سوا بالليل.”

ارتجفت ليله في حضنه، وجسدها يلتصق به، وكل نبضة من قلبه كأنها تهزها برفق وقوة في آن واحد…

بدأت المرجيحة تتحرك ببطء، ثم أسرع إيقاعها، ومع كل تأرجح كان بدر يقرب وجهه من عنقها، يزرع قبلات خفيفة تلهب جسدها وتتركها مشدوهة بين الرهبة والمتعة.

غمغمت وهي تستسلم قليلًا: بدر… بلاش… هتخلي عجلي يطير.”

ابتسم وهو يضغطها نحوه أكثر، وهمس بصوت أجش مشتعل: اللي هيطير ديه أنا اللي هطيره… بس في حضني.”

تقلبت بين ساقيه برفق على المرجيحة، في حين كان بدر يمسكها بحذر من الخوف أن تفقد توازنها،

ومع كل حركة كانوا يتقاربون أكثر، تتشابك أذرعها حول عنقه، ويزرع هو قبلاته على عنقها من الخلف،

بينما الهواء البارد والليل الساكن يحيط بهما في مشهد يخطف الأنفاس.

همس بدر بصوت أجش مشتعل بالشهوة وهو يزيد ضمها لصدره : حاسه ؟ أنا مش ههملك… كل حركة ليكي معايا هتحسيها ليا.”

ابتسمت بخجل، لكنها تركت جسدها يستسلم للحركة، يدها تلتف حول عنقه، ووجنتاها تحترقان من حرارة القبلة والتقارب…

ومع كل دفعة للمرجيحة، كان بدر يزرع قبلة خفيفة على شفتيها، كانت تدفع جسدها بلطف للأمام، وبدر يسحبها لحضنه مره اخري لتستقبل قبلة أخرى، في رقصة ساحرة بين الجاذبية والشغف.

ضمها فجأة بين حضنه، وصارت المرجيحة تتحرك بشكل أبطأ، لكنها أكثر قربًا، يضغطها بين ساقيه ، فيتماسان أكثر،  كل لمسة منه تعطيها شعورًا بالامتلاء والدفء، وكل نظرة منه تذيب قلبها.

غمغمت وهي تتنهد: بدر… حسسني كيف الليل كله بيتغير بين يديك.”

ابتسم وهمس في أذنها بمكر :  الليل معانا يا ليله… وكل ثانية معاكي حتبجى نار ما تهديش.”

ظلتا على المرجيحة، متشابكتان بين التوازن والإثارة، الليل ساكن حولهما، والحديقة المغطاة بالورود والأغصان تعكس سحر اللحظة،

كل حركة، كل لمسة، وكل قبلة تزيدهما قربًا، حتى صار وجودهما كأنهما وحدهما في الكون، والهواء البارد يحمل حرارة أجسادهما الممتزجة، في مشهد يغمره الحب والجاذبية والجرأة في آن واحد.

وتلك الظلال كانت تتربص بهم في صمت ثقيل، كأنها كائنات من ليل عتيق لم ينس ثأره، ترقب اللحظة الحاسمة لتغرس أنيابها في قلب الفرح، وتمزق سكون المكان بشظايا من جليد اللعنة القديمة التي لم تمت بعد.

………………………………..

في الحديقه الاماميه

دلف فارس بسيارته من البوابة، وتردد هدير محركها في هدوء الليل كصوت كائن حي متربص،

يملؤه الإصرار دون اكتراث بشكله أو ترتيب صفوفه. ترجل منها بوقار، ورفع صوته صارخًا: شداد!”

ركض أحد الرجال بخطوات متسارعة، واهتز صوته وهو يجيب بحذر: أوامرك جنابك.”

رمقه فارس بعينين تشعان تركيزًا وسلطة، وقال: امير والدكتوره چم؟”

هز شداد رأسه بالنفي، صامتًا ومتحفظًا: لاه يا بيه.”

أومأ فارس برأسه، وأشار له بالانصراف، ثم أخرج هاتفه كأنه يمسك بمفتاح لحظة حاسمة، طلب رقم أمير، ورفع الهاتف إلى أذنه، وعيناه تراقبان المكان بترقب مشحون بالتوتر: وينك؟ أنا وصلت.”

دلف أمير من البوابة بسيارته، وهمس وهو يلتفت:وأنا وراك.”

خفض فارس الهاتف وهتف بحزم محمل بالسيطرة:
أخرتكم بس كت ف سوهاچ.”

ترجل أمير، وهز رأسه برفق، وتمتم ببرود: ولا يهمك… أنا أصلاً كت ف الشغل بردك.”

ترجلت حبيبه بخطوات هادئة، كأنها تمشي فوق حافة صمت ثقيل يملأ المكان،

تتجنب النظر إلى فارس الذي ظل واقفًا، عينيه تحترقان بشوق لا يوصف، كل نظرة منه تلتهمها وكأنها نهر من اللهفة يجرف كل ما حوله…

همس بصوت خافت، محمل بالحنان والدفء الذي لا يقدر على إخفائه: كيفك يا دكتوره؟”

لم تجرؤ على الرد، مكتفية بإيماءة صغيرة برأسها، لكنها لم تستطع أن تمنع قلبها من التسارع، ولا دموع خجولة تتلألأ في زوايا عينيها، تعكس الصراع الداخلي بين خجلها واندفاع مشاعرها.

أومأ امير برأسه وهمس باهتمام : كيفه هزيم النهرده يا غالي؟!
أشار فارس إلى الإسطبل وغمغم : زين يا أمير اتفضلوا… شوف بنفسك.”

أومأت حبيبه برأسها، تحركت نحو الإسطبل بخطوات ثابتة، كأنها تمشي على حافة صمت عميق،

وأتباعها أمير وفارس بصمت، كل منهم يحمل شعورًا متشابكًا من القلق والفضول والاشتياق.

خرج بدر من البهو، صوته يشق الصمت مثل خنجر من المرح والسخرية:امير الامرا… كيفك يا چدع؟”

أشار له أمير ببرود، وأجاب بصوت مشحون بالحدة:
زفت… بعيد عنك.”

ضحك بدر ضحكة قصيرة، لكنها مزدوجة بين السخرية والألم: وبعيد ليه… أنا متمرمغ فيه.”

دخلوا الإسطبل، وضوء القمر الخافت يتسلل بين الأعمدة الخشبية، يلقي ظلالاً طويلة على الأرض،

فتحت حبيبه قلبها للعمل، اقتربت من هزيم وبدأت بأعمالها بصمت وجمود،

كل حركة منها كانت تحمل توترًا مزيجًا من الانضباط والخوف، وكأنها ترسم خريطة شعورها على الجدران الخشبية.

أما فارس، فوقف بعيدًا، عينيه لا تفارقها لحظة، يراقبها وكأن قلبه يختصر فيها وحدها،

كل حركة صغيرة تصنع ارتعاشة في صدره، كل نفس لها يلهثه الصمت، وكل خفقة من خفقات جسدها تترجم له شوق لا يطاق وحنان مكتوم كأنه منذ زمن…

كان يقف هناك، كحارس صامت، مأسورا بين احترامه لحدودها وبين رغبته الملتهبة في أن يقترب أكثر،

يلمسها، ويخبرها كم هو مشتاق لها، لكن كل ذلك محصور بين نبضه وصمت الليل.

وقف أمير بجانب بدر، وعيونه مشتعلة بارتباك واضح، وصوته يخرج متهدجا من صدره، محمل بمزيج من الحيرة والقلق: أمي وأبوي بدهم اتچوز مرت أخوي طه…”

نظر له بدر بعينين مدهوشه، كأن النار تتقد خلف حدقتيه، وغمغم بصوت منخفض لكنه ثاقب:
كييييف…”

أومأ أمير برأسه بحنق، كأن أفكاره تتشابك داخل عقله سريعًا، وغمغم: شوفت… أنا دماغي هتتشل…”

ابتلع بدر غصة، ثم أشار له بعينين متقدتين وقال بصوت حاد لكنه مسموع: اصبر… انت رافض لأجل ما كانت متچوزه؟ يعني بدك تتچوز بت بنوت ولا إيه الإشكال؟”

هز أمير رأسه بالنفي، وأعاده إلى الأعلى بعينين متأملتين، وغمغم وهو يلهث قليلًا من شدة التوتر:
الإشكال إنها ف عيني… كيف حبيبه ومرت أخوي… ويمكن چويا حته هتجولي… نفسي أتچوز بت بنوت أكون أول راچل ف حياتها… مش عيب ف الأرملة، ولا حتي المطلقة، لا سمح الله… بس نفسي كده… مش سامحه.”

أومأ بدر برأسه بتفهم، عيناه تلمعان بالحزم والجدية:
فاهمك… طيب، هتعمل إيه؟”

رفع أمير منكبيه بجهل وارتباك، كأنه يحاول ترتيب أفكاره المتشابكة: لسه… هفكر…”

على الجانب الآخر،

أنهت حبيبه عملها بصمت صارم، كل حركة منها كانت كأنها نقش على الحجر، لا كلمة، لا نفس زائد، وكأنها تحاول أن تخفي أي أثر لتأثرها الداخلي…

رفعت عينيها على الفرس، فالتقت بنظرات فارس، نظرات مشبوبة بالحزن العميق والقرار المكبوت،

تنفث حرقة صامتة داخل قلبه. همس بصوت خافت، لكنه يزلزل المكان: خلصتي…”

أومأت برأسها بخفة، وأغلقت حقيبتها بحذر، ثم رفعت رأسها أخيراً، لتلتقي عينيه مرة أخرى…

وفي تلك اللحظة، شعر فارس وكأن نبض قلبه يتسارع بشكل لا يطاق، كأن عينيها تنهبان روحه، تغوصان في أعماقه بلا هوادة…

رمشت بعينيها، تحاول السيطرة على نفسها، لكنها لم تستطع أن تمنع اندفاع مشاعرها نحو عمق نظره الذي يجذبها بلا وعي،

ويحتويها في صمت يفتك بالسكينة. همسة بحذر، وصوتها مشحون بالخوف والخجل والتمرد الخافت:
من بكره شوف دكتور غيري… أنا مش هجدر أچاي تاني…”

نظر إليها فارس، والعالم كله حوله يختفي أمام نار غضبه وحرقة قلبه، اشتعلت عينيه بالغضب والشوق والكبت، كأنها تتحدث بلغة لا يفهمها وووو

ساحره القلم سااره احمد 🖋️

5 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Ahmedwaled
Ahmedwaled
6 أيام

تسلمي