عشق ملعن بالدم (الفصل التاسع)
لا أدري، والله، ما الذي يوجع أكثر… أهي الأشياء التي أفعلها وأنا أُدير ظهري لنداء قلبي، أُجبر نفسي على المضيّ في طريقٍ لا رائحة له ولا نبض؟ أم تلك التي يفعلها قلبي رغماً عني، فيجرّني إليها كما تجرّ الريح ورقةً لا حول لها ولا قرار؟
كأنني أعيش بين خيانتين؛ خيانةٍ لقلبي حين أُسكت صوته، وخيانةٍ لعقلي حين أستجيب لجنونه.
لقد تراكم العشق في أعماقي كما يتراكم الطين في قاع نهرٍ لا يجفّ، كل شعورٍ فيه رسّب ما بعده، حتى صار القلب أثقل من أن يُحتوى، وأضيق من أن يتّسع لكل هذا الوجد.
إنه عشقٌ لم يهبط عليّ دفعةً واحدة، بل تسرّب بصبرٍ قاتل، تسلّل في دمي خلسةً، حتى لم أعد أفرّق بين ما أنا عليه وما صِرتُ بسببه.
وما أخشاه الآن، أن نفتح للعشق مجالًا للبوح، فيفيض قبل أن يُنطق،
أن يمرّ من العين قبل أن تتكوّن الكلمات، أن يشي بنا النظر، وتفضحنا الرعشة،
فالعشق — حين يبلغ حدّه — لا يخرج من الشفاه، بل من الوميض العالق بين الطرفين.
هو ذلك الصمت الذي يصرخ دون صوت،
والاعتراف الذي ينسكب من العين قبل أن تكتبه اللغة.
هو الحكاية التي تُروى بالنبض لا بالحروف،
فكيف أقول ما لا يُقال؟ وكيف أُخفي ما لم يَعُد يُخفى؟
ارتج جسد بدر فجأة، شعر ببرودة حادة تسري في عموده الفقري، كأن الموت نفسه يزحف على جلده، وكأن شيئًا غريبًا يريد أن ينتزع منه الحياة.
وفي اللحظة التي كادت فيها المخالب تلمس صدره
فجاءه انفجر نور مباغت من العدم، أبيض لامع كوميض برق سماوي، ظهر بينهما كجدار من طهر وقوة.
ذلك الضوء كأنه كائن من رحم السلام، قبض بيده المضيئة على مخالب الظل المتوحش،
فانبعث صراخ مكتوم من قلب العتمة، صراخ لم تسمعه الآذان، لكنه ارتطم بالأرواح…
تراجع الكيان الأسود، يتلوى كدخان يتآكله النور، حتى تمزق ما بين ألسنة الضوء، واندفع بعيدًا، يختفي في الفراغ كأنه لم يكن سوى كابوس هرب من جحيمه.
أما بدر، فظل ينظر حوله بدهشة ، تتناثر أنفاسه في الفراغ، غير واع لما حدث… فقط شعر أن شيئًا ما كان على وشك أن يسرق قلبه، ولا يشعر أن هناك قوة أخرى أنقذته دون أن يراها.
ضمته ليله بقوة وهي تتنفس بصعوبة، وعيناها تتلفتان في رعب مكتوم لا يعرف له سببًا وهمسة : بردانه جوي يا بدر ..
احتضن ليله أكثر، ثم رفعها بين ذراعيه ونهض بسرعة وهو يغمغم بصوت مضطرب لكنه متماسك:تعالي ندخلوا يا حبيبي.
نظرت إليه ليلى بخوف وانقباض في صدرها وهمسة:
ايوه ندخلوا احسن.. أنا حاسة حاچه غريبه!!
هز رأسه بالنفي، يحاول أن يخفي رجفة صوته وقال:
لا مفيش الچو سجعه بس…
دلف بها إلى الداخل، لكن الهواء خلفهما ظل يضطرب، كأن شيئًا لا يزال هناك… يراقب، يتحين اللحظة.
خيم على الحديقة صمت غريب، كأن الأرض نفسها توقفت لتصغي إلى أنفاس الغائبين عنها…
في عمق الظلال، انبثق طيف أبيض شاحب، لا تلامس قدماه الأرض، يسير كأنه نفس ريح تائهة.
كانت ملامحه تفيض بحزن غريب، عيناه تتبعان بدر وليله بخفوت شجن لم يخلق للبشر…
ارتعشت أنامله وهو يمدها نحو الفضاء، كأنه يريد لمس أثرهما، ثم تراجع… كمن تذكر خطيئة لا يغفر مثلها.
وفجأة، تحرك السكون نفسه… تشقق الهواء كأن أحدهم مزق ستارًا بين عالمين، ومن العتمة خرج طيف آخر
أسود، كثيف، تتقد عيناه بشرر أحمر، يتصاعد منه أنين أشبه بزمجرة اللعنات القديمة…
اقترب من الكيان الأبيض بخطوات لا تسمع، لكنه كان كالعاصفة القادمة من القبر…
مد يده المظلمة، قبض على الضوء بعنف، حتى ارتج المكان، ودوت صرخة مكتومة امتزج فيها الغضب بالأسى.
تدلت خيوط بيضاء من بين قبضاته، كأن الطيف يحاول التملص، لكن الظلام كان أقوى.
سحب الاثنان في هواء خانق، وتلاشى أثرهما شيئًا فشيئًا، ولم يتبق سوى صدى ارتجافة باردة في أركان الحديقة، ووردة ذابلة سقطت على العشب…
وردة كانت حمراء، ثم فقدت لونها كأن الحياة نزعت منها حين رحل الطيف المتعاطف مع العشاق.
كان بدر يحمل ليلة بين ذراعيه، يقطع بها ممرات السرايا بخطوات سريعة، وكأن الظلام يطارده…
كانت الحديقة خلفهما صامتة تمامًا، لكن السكون كان غريبًا… سكونًا له أنفاس، يزحف خلفهما حتى الباب.
دخل الغرفة وهو يحاول أن يخفي ارتجاف يده، وضعها برفق فوق السرير، وسحب الغطاء ليغمرها حتى كتفيها.
اقترب منها وهو يبتسم بخفوت مصطنع وقال: خلاص يا ليله… متخافيش، الچو بس برد شوية.
نظرت له بعينين متسعتين وقالت بصوت مرتجف:
بدر، أنا حاسه بحاچة غريبه… الهوا اتغير فچأه مرتين وراء بعض مش كيف كل مره ، كأن في حد بينفس حوالينا.
جلس بجوارها، أمسك يدها البارده بين يديه وقال وهو يمرر إبهامه عليها بحنان: هدي نفسك يا حبيبي، ديه بس رعشه من البرد، مفيش حاچه.
أغمضت عينيها تحاول أن تصدق كلماته، لكن قلبها ظل يخفق بعنف، كأنه يسمع شيئًا لا يسمعه بدر.
مد بدر يده، وأطفأ المصباح، ثم همس وهو يقترب منها:
انعسي دلوق، وأنا هنا چمبك لحد ما تنعسي… مش ههملك لو حصل إيه.
تسللت لحظة صمت ثقيلة، تخللها صوت الريح وهي تضرب النوافذ كأنها تئن..
ثم مرت نسمة باردة من عند الباب، خفيفة لكنها لامست جلديهما كلسعة غريبة…
ارتجفت ليلة دون وعي، فشد بدر الغطاء أكثر وهمس:
واعيه؟ جلتلك الچو برد.
ابتسمت بخفوت لتطمئنه، لكنها ظلت تمسك بيده كأنها تتشبث بالحياة نفسها.
صمتا قليلًا، لا يسمع سوى أنفاسهما المضطربة…
ثم رفع بدر الغطاء فوقها برفق وهمس قرب أذنها:
انعسي دلوق يا حبيبي، أنا هجعد جارك.
اندست بين الاغطيه الثقيله وغمغمت بدموع: متسبنيش يا بدر.
هز رأسه وهو يقبل راسها بحزن وغمغم : ولا حتى الموت يخليني أسيبك.
أغمضت عينيها وهي تتشبث بيده، لكنه شعر بارتجافة خفيفة في الهواء، نسمة باردة عبرت الغرفة، فتلفت.
هناك، عند طرف السرير…
سقطت وردة ذابلة، كأنها تهاوت من بين أصابع خفية.
نهض بدر والتقط الورده الذابله وظل يحدق فيها طويلًا، صامتًا.بذهول وغمغم : چات من وين دي؟!
بلع لعابه بصعوبه وكأنه يدرك أن اللعنة لم تنته، لكنه أدرك أن شيئًا جديدًا بدأ يخل بتوازن الظلام.
……
صباحا في سرايا العزيزي،
حيث تمتزج رائحة البخور بصوت التلاوة المنبعث من إذاعة القرآن الكريم،
دلفت ريم إلى غرفة جدتها جملات، وجهها مشرق بابتسامة ندية وصوتها يحمل دفء الصباح:صباح الهنا يا چدتي.
خفضت جملات صوت المذياع بهدوء، والتفتت نحوها بعينيها الهادئتين اللتين تشعان حنانًا، ثم أشارت لها بالاقتراب في دعوة صامتة تحمل ألف حب وطمأنينة.
اقتربت ريم بخطوات رقيقة، وضعت صينية الطعام أمامها وقالت بمرح طفولي: الفطور يا حبيبتي.
نظرت لها جملات بدهشة خفيفة، حاجباها ارتفعا في استغرابٍ لطيف، كأنها لا تصدق ما ترى من بهجتها.
ضحكت ريم وهي تجلس بجوارها وقالت بمشاكسة حلوة: مستغربه إني بضحك ومبسوطة، صح؟
أومأت جملات برأسها، ورفعت يديها إلى السماء دعاء دون أن تنطق، وكأنها تشكر الله على ابتسامة انتظرتها طويلًا.
أمسكت ريم بكفها وقبلتها بحنو صادق، ثم قالت بصوت مفعم بالصدق: أنا هجولك يا چدتي… أنا عمري ما هخبي عنيك.
ثبتت جملات نظراتها عليها في إنصات عميق، بينما تابعت ريم، وقد تلون صوتها بمزيج من الحياء والعزم:
أنا وأمير اتفجنا هنتچوز.
ارتجفت يد جملات في يدها الصغيرة، وتمسكت بها فرحة ومندهشة، لكن ريم أسرعت تهز رأسها نافية، وعيناها تلمعان بصدق مؤلم: لا مش كيف ما هتفكري… إحنا هنتچوز على الورج وخلاص، عشان أجدر أجعد وسطيكم… وكمان بتي تتربى في بيت طه، الله يرحمه.
نظرت لها جملات في صمت طويل، دهشة رقيقة تتسلل إلى ملامحها، ثم أشارت إليها كأنها تسألها عن أمير بعينه.
أومأت ريم مبتسمة وقالت في خفوت دافئ: أمير.
رفعت جملات حاجبيها بدهشة أكبر، بينما أضافت ريم بعينين لامعتين: هو صاحب الفكره… وريح جلبي، الله يخليه.
ابتسمت جملات برفق، وربتت على كفها في حنو واطمئنان كأنها تبارك لها دون كلام.
نهضت ريم بخفة وقالت: أنا هروح أساعد هند في المطبخ، بدك حاچه مني يا چدتي؟
هزت جملات رأسها بالنفي، وارتسمت على وجهها ابتسامة حب ساكنة تشبه الدعاء، بينما خرجت ريم بخطوات سريعة متوثبة، وقد بقي في الأجواء عبير فرحتها الأولى.
ولم تمض لحظات حتى انفتح باب الغرفة بعنف، ودخلت إنعام تتأجج ملامحها بالغضب، وصوتها يعلو كحد السيف:
إيه اللي سمعته ديه يا يما؟!
رفعت جملات عينيها نحوها ببطء، وغضب صامت يشتعل خلف نظراتها الهادئة، وأشارت لها بيد ثابتة أن تغلق الباب وتقترب.
أغلقت إنعام الباب بقوة مكتومة، واقتربت من السرير بخطوات متوترة، وهتفت بانفعال لا يخلو من الذهول:
أمير يفكر إكده؟! ديه ولا الأبلسه اللي لعبوا في عجله؟!
هزت جملات رأسها بيأس ثقيل، ثم قبضت على ذراع ابنتها وسحبتها لتجلس أمامها، نظرت إليها بعينين فيهما حزم الأم وعمق الحكمة، ورفعت إصبعها بتحذير صامت، ثم أشارت إلى فمها، تطلب منها الصمت.
تطلعت إنعام إليها بتهكم مضطرب، وصوتها يرتجف ما بين الغضب والدهشة: أسكت كيف يا يما؟ ده اسمه چواز كيف ديه؟! ظلم لبت الناس ده!
لم تجِب جملات، بل هزت رأسها ببطء، وأشارت إلى صدرها موضع القلب، ثم مررت كفها فوقه برفق كأنها تمسح عنه الحقد، وبعدها أشارت إلى رأس إنعام ثم إلى السماء، كمن يقول: هنا التفكير… وهناك القدر.
أطرقت إنعام رأسها، وصوتها خفت حتى صار همسًا تغشاه العبرة:عنيدك حج يا يما… الجلوب بين يدين الرحمن، وعجولنا صغيره عالتدبيره.
ابتسمت جملات برفق وطمأنينة، وأومأت برأسها تأييدًا، ثم ربتت على كف ابنتها في حنو مفعم بالإيمان.
هدأ قلب إنعام شيئًا فشيئًا، وانحنى رأسها كمن سلم أمره للسماء، قبل أن تهمس بصوت متهدجٍ خاشع: اللي فيه الخير يِجدمه ربنا يا ولدي…
…….
فــي سوهاج،
كان النهار قد اشتعل بحرارته حين خرجت نغم من البناية، تحمل في عينيها شيئًا من الضيق والتعب…
لكن ما إن لمحت فارس واقفًا عند الرصيف، يستند إلى سيارته، حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة متفاجئة.
اقتربت منه بخطوات مترددة، وقالت بنبرة خفيفة:
مروحتش يا غالي من عشيه؟
رفع رأسه نحوها، ونظراته خلف عدسات نظارته الشمسية تحمل خليطًا من السهر والعناد، وهز رأسه بالنفي وهو يجيب بهدوء ظاهر يخفي ما في صدره:لا، نِمت في الشجّه اللي جصادكم.
رفعت نغم حاجبها بدهشة واضحة وهتفت: ليه؟
أدار وجهه بعيدًا عنها لحظة، وكأنه يخشى أن تلمح في عينيه ما لا يريد قوله، ثم قال وهو يرتدي نظارته من جديد: عندي شغل… ومش هروح، واچي يعني؟
أومأت نغم بخبث خفيف وقالت وهي تبتسم بمكر محبب:
لا، خليك أحسن.
تنحنح فارس بغيظ مكتوم، وقد بدت عليه العصبية وهو يغمغم:وين حبيبه؟
أشارت نغم بيدها نحو البناية وقالت بهدوء عابر: عيانه حبه.
انكسرت ملامحه للحظة، وظهر القلق في عينيه رغم محاولته إخفاءه وهمس بلهفة لم يتمكن من كتمها: مالها يا نغم؟
ضحكت نغم بخبث متعمد، وقالت وهي تلوح بيدها بخفة:متخافش، هي بطنها هتوجعها بس.
تجمد فارس لحظة، حدق فيها بدهشة غاضبة وقال وهو يزفر: وأنا أخاف ليه؟ اطلعي ياختي، أنا اتاخرت علي الشغل.
كتمت نغم ضحكتها بصعوبة، فتحت باب السيارة وجلست، وما إن أغلق فارس الباب خلفها حتى صعد هو الآخر، وأدار المحرك بعنف خفيف، وانطلقت السيارة في الطريق،
تركت خلفها ضحكتها الصغيرة تذوب في الهواء… وضيقًا خفيًا يسري في صدره دون أن يعترف به.
مر الوقت ببطء ثقيل، حتى عاد فارس إلى الشركة.
توقفت سيارته الفاخرة أمام البوابة الزجاجية، فهبط منها بخطوات واثقة، تفيض رجولة آسرة وهيبة تكاد تخضع الهواء من حوله…
كان طوله الفارع، وملامحه الصارمة، ووقاره الهادئ، يجذب الأنظار أينما مر، وكأن حضوره وحده يكفي لزرع الصمت والانتباه في المكان.
دلف إلى بهو الشركة الشامخة بجدران زجاجية تلمع تحت ضوء النهار، وأرضية من رخام مصقول تعكس ظلاله الممشوقة،
خطا بثقة وهدوء مهيب، وكل موظف مر به انتصب فورًا، رافعًا يده بالتحية…
اكتفى فارس بإيماءات خفيفة من رأسه، لا يتوقف ولا يبطئ خطاه، كأنما الزمن نفسه يركض خلفه.
حتى بلغ مكتبه الفخم، ففتحه بخفة ودخل يتبعه السكرتير الذي قال بانضباط حازم: كل ورج الشحنات اللي طلبها مصنع اللحوم چاهز يا فندم، عشان نفصل بين الاستيراد والتصدير، والاچتماع مع فاروج أبو بكر بخصوص صفجة اللحوم الچديدة بعد عشر دقايق.
رفع فارس عينيه نحوه بحدة مدروسة وقال بصوت هادئ لكنه نافذ: كفي طلبات مصانع الأنصاري الأول، وبعدها نبدأ تصدير الباجي… ولما يچي فاروج، خليه يدخل على طول.
أومأ السكرتير باحترام ووضع الأوراق أمامه قائلاً:
حاضر يا فندم.
أمسك فارس بالقلم، ووقع الأوراق بسرعة وخبرة، ثم أشار إلى الباب بنبرة مقتضبة:روح دلوق.
انصرف السكرتير بعد أن جمع الملفات بخفة مرتبة، وبقي فارس وحده في الصمت الثقيل…
أسند ظهره إلى المقعد، وأغمض عينيه لوهلة قصيرة، كأن شيئًا داخله ينهشه في العمق…
مد يده إلى هاتفه، وعبث به قليلًا، ثم طلب رقم حبيبة.
انتظر…رن الهاتف طويلًا، بلا رد.
زفر بحدة، وألقى الهاتف فوق المكتب بقوة خافتة، ثم نهض بخطوات متوترة إلى الشرفة الزجاجية…
توقف هناك، ونظر إلى المبنى المقابل بعيون يغلفها القلق والعصبية، كأن شيئًا يختل في داخله…
زفر مجددًا، بعنف هذه المرة، ثم استدار فجأة، التقط هاتفه من على المكتب، وخرج بخطوات سريعة حادة تحمل قلقًا مكتومًا.
نهض السكرتير مذهولًا من مكانه وهتف:فارس بيه! فاروج بيه على وصول!
لكن الباب كان قد أُغلق بالفعل….وقف السكرتير في ذهول، يضرب كفا بأخرى ويتمتم بدهشة متوترة:
هو حد مات ولا إيه؟
صعد فارس الدرج بخطوات تفيض بالعجلة والقلق، أنفاسه تخرج متقطعة كأن قلبه يسبق جسده في الركض إليها.
توقف أمام باب الشقة، أغمض عينيه لحظة، يحاول أن يهدئ اضطراب صدره، ثم دق الباب دقات خفيفة لكنها مرتجفة، وغمغم بصوت خافت يلهث بالحزن:
افتحي… نشفتي دم اللي چابوني.”
مرت لحظات ثقيلة قبل أن يفتح الباب ببطء، لتطل حبيبة بوجه باهت، كأن لون الحياة تسرب منه. عيناها نصف مغلقتين، وصوتها الخارج من بين شفتيها كان واهيًا حين قالت: فـ فارس… في إيه؟”
تجمدت أنفاسه لحظة، ثم انحنى نحوها بخوف ظاهر في عينيه، صوته خرج مبحوحًا:مالك يا حبيبه؟ومهترديش علي تلفونك ليه؟؟
هزت رأسها في ضعف وهي تستند علي إطار الباب وقالت:تعبانه شوي وكت نعسانه … لو بدك نغم هي راحت الكلية، مش هنه.”
لم يكد فارس يرى وجهها الشاحب حتى تجمد قلبه، كأن الدم توقف في عروقه للحظة ، عندما لاحظ أنها ستسقط ، اندفع اليها كطوفان من الخوف والحنان…
مد ذراعيه بسرعة، والتقطها قبل أن تسقط، وضمها إلى صدره بكل ما فيه من قلق، كأنما يحتضن آخر ما تبقى له في الدنيا…
كانت خفيفة وواهية، أنفاسها متقطعة، وحرارة جسدها تتخلل قميصه كأنها تناديه دون صوت.
همس بصوت مرتجف رغم قوته:حاسبي يا حبة جلبي…”
تعلقت به كطفلة تستنجد بأمانها، وغمغمت وهي تئن بخفوت:دايخه يا فارس… ومعدتي دايسه علي.”
مسح على شعرها براحته، يمر بأصابعه بين خصلاتها كأنها طريق يعيده إلى الحياة، وقال بنبرة يختلط فيها اللوم بالعطف: طب هملتي نغم تروح الكلية وتهملك؟ تعبانه ليه؟ كت خلتيها تراعيكي.”
هزت رأسها وهمسة بضعف:عنديها محاضرات مهمه “
زفر بحنق رقيق، وهو يحدق في وجهها وكأنه لا يصدق أن شيئًا بهذا الجمال يمكن أن يتألم، وغمغم وهو يشدها نحوه أكثر:حرج أبو محاضرات يا شيخة.”
ثم رفعها بين ذراعيه بحنان فياض، احتواها كما يحتوي الغيم نطفة المطر، شهقت بفزع عندما ضمها إلى صدره بعمق حتى سكنت أنفاسها على عنقه…
تحرك بخطوات بطيئة نحو الداخل، لكنها تماسكت بباب الشقة، وكفها ترتجف وهي تحاول منعه، وصوتها المتقطع يتلوى بين الخجل والاضطراب: لا نزلني… أوعى الباب!”
توقف فارس لحظة، نظر إليها بعينين تفيض قلقًا وشفقة، وصوته حين خرج منه كان هادئًا لكنه يحمل قوة من يعرف أنه لن يتركها تسقط ثانيةً: يا بت سيبي الباب… هدخلك جوه بدل ما توجعي من طولك.”
ارتجفت شفتاها، وتسللت الدموع إلى عينيها وهمسة برجاء ودموع: لا والنبي نزلني… وامشي… كفاية اللي حصل عشيه.”
تنهد بحرقة مكتومة، عيناه تهتفان قبل لسانه، ونبرته انخفضت حتى صارت كأنها رجاء عاشقٍ يقسم بكل ما فيه:حبيبه… سيبي الباب وافتحيه على آخره، وأنا مش هجرب منك والله.”
نظرت له طويلًا، كأنها تقرأ في وجهه صدقًا لم تعرف له مثيلًا، فارتعشت أناملها وهي تدفع الباب، فانفتح على آخره وارتطم بالحائط بصوت خافت، كأن الحاجز بينهما سقط أخيرًا.
زفر فارس ببطء، ثم مضى بها بخطوات حذرة، لا يريد أن يوقظ وجعها، حتى وصل إلى الأريكة…
جلس قليلًا وهو لا يزال يحملها، ثم أراحها عليها برفق بالغ، كمن يضع قلبه لا جسدها…
قال وهو يمسح على شعرها برقة متناهية:ارتاحي هنه… وأنا هعملك حاچة سخنة تريح معدتك.”
نظرت له بعينين تغمرهما الدفء، وقالت بصوت متعب لكنه مفعم بالعاطفة:متتعبش حالك.”
ابتسم ابتسامة ناعمة، خافتة، وقال وهو يهم بالنهوض:
ياريت كل التعب… في راحتك يا حتة النور.”
رحل نحو المطبخ بخطوات هادئة، بينما ظلت تنظر إليه بعينين يختلط فيهما الخجل والامتنان والنبض الذي لم يهدأ…
رفعت يدها إلى صدرها، استشعرت خفقان قلبها يسبق أنفاسها، فغمغمت بين نفسها وهمسة مرتجفة تعبر شفتيها: اهدي… يخرب بيتك.”
عاد فارس بعد لحظات، يحمل كوبًا تفوح منه رائحة النعناع الساخن مع العسل ، تتصاعد أبخرته كأنها أنفاس دفء في صقيع الصباح…
كان صوته الخافت حين تحرك في الصاله أشبه بوشوشة طمأنينة، ينساب كما ينساب الحنان في القلب المتعب.
اقترب منها بخطوات هادئة، لكن حبيبة تراجعت بخجل طفولي واضح،
وأنزلت قدميها إلى الأرض كأنها تحتمي بتلك الحركة الصغيرة من ارتباك لم تعرف له مخرجًا…
نظر إليها بدهشة مائلة إلى الابتسام، وقال بنبرةٍ ناعمة ساخرة بعض الشيء: نزلتي رچلك ليه؟
هزت رأسها سريعًا، وأجابت في حرج مضطرب: لا… عادي.
لم يجادلها، فقط رمقها بنظرة عميقة مشبعة بالحنان، نظرة رجل يرى في خجلها شيئًا أرق من الورد وأصدق من البراءة…
وضع الكوب على الطاولة بهدوء، ثم جلس بالقرب منها، واقترب بحذر كمن يقترب من سر يخشى أن يفلت منه، ومد يده ليمسك بقدميها برفق مدهش… برقة تشبه لطف نسمة تمر على جرح لا يرى.
شهقت حبيبة بذهول وارتجفت أنفاسها، وغمغمت بخجل يلمع على رموشها: لا لا، سيب رچلي!
ابتسم فارس ابتسامة مغلفة بالعبث والرفق، وقال بصوت هادئ ساخر في آن: متخافيش… مش هاكل منها حتة.
ثم رفع قدميها برفق إلى الأريكة من جديد، وأخذ يمرر أصابعه على أطرافها بخفة كمن يفتش عن دفء غاب عنها…
وما إن لمس برودتها حتى عقد حاجبيه بدهشة حنونة وهمس:رچلك ساجعة جوي يا حبيبة… انتي بردانة؟
هزت رأسها نافية، وبدت في عينيها رجفة خجل لا تخطئها العين، حاولت أن تسحب قدمها من بين يديه بحركة مرتجفة صغيرة، كأن اللمس وحده يربكها أكثر مما يدفئها…
خرج صوتها واهيًا، متقطعًا بين التردد والحياء، وهمسة بتلعثم خافت: يعني… مش جوي.
تلفت فارس حوله، فوقع نظره على جوارب قطيفة ناعمة فوق الطاولة… التقطها وجلس عند طرف الأريكة، ثم قال بصوت خافت يحمل أمرًا لطيفًا لا يرفض: هاتي رِجلك يا حبيبة.
انتفضت بخجل كأن النار اشتعلت في وجنتيها، وضمت أقدامها إلى صدرها، ولفت ذراعيها حول ساقيها كطفلة تحتمي من الحرج، وهتفت في ذهول مرتبك: فارس! انت مخوت؟
ضحك بهدوء، ضحكة خبيثة الملامح لكنها دافئة القلب، ومد يده وسحب قدمها برفق رغم اعتراضها الخجول، شهقت بصوت خافت: لااا!
لكنه أمسكها بحذر مدهش، وصوته انخفض حتى صار همسًا يلامس القلب قبل الأذن: متخافيش يا حبة الجلب الميت.
قبضت بأصابعها على حافة الأريكة، وعضت شفتها في ارتباك لا يخلو من دفء خفي،
بينما كان يلبسها الجوارب ببطء شديد، كأنه يخشى أن يؤلمها حتى باللمسة…
كانت أنامله تمسها برفق متدربٍ على الحنان، وكل لمسة منه كانت تذيب ما تبقى من بردها…
بل وتشعل في أعماقها دفئًا آخر لا علاقة له بالمشروب ولا بالغطاء، بل بذلك الدفء الذي لا يشعل إلا بالعشق.
وحين انتهى، نهض سريعًا واختفى للحظة، ثم عاد وهو يحمل أحد الأغطية الثقيلة، اقترب منها وقال برقة ملؤها العتاب:انتي مش عارفة إنك لازمن تدفي في اليومين دول يا حبيبة؟
عضت شفتها ونكست رأسها، وهمسة بخجل متضرع:
كفاية يا فارس… امشي والنبي.
تأمل وجهها، شعر كأنه أمام كتلة من الجمال الخجول، أنوثة تتوارى خلف الحياء لكنها تغريه بصمتها أكثر من كل الكلام… طال صمته فرفعت رأسها بدهشة وسألته بصوت خافت: انت ساكت ليه يا فارس؟
اقترب منها، وجثا أمامها، وعيناه تحكيان كل ما لا يجرؤ لسانه على قوله، ثم همس بنبرة مبحوحة: محجوج اللي سماكي حبيبة… انتي حبيبة الجلب الميت.
رمشت بعينيها محاولة أن تسيطر على ارتباكها، وهمسة برجاء خائف: أمانة يا فارس… بلاش كلامك ديه، وجوم امشي… أمير ممكن يچي في أي وجت..
مرر أصابعه على وجنتها بخفة وقال: همشي… وهكلم نغم تيچي لك.
أخذ الكوب ووضعه بين يديها بحنان لا يقاوم، وهمس:
اشربي يا حتة النور
أومأت بخضوع هامس: حاضر.
ثم مد يده في رفق، وجذب الغطاء حتى استقر على جسدها كلمسة دفء خافتة…
انحنى نحوها في سكون، وطبع على جبينها قبلة عميقة، كأنها وعد بالسكينة، أو اعتذار يحمل بين أنفاسه كل حنان الدنيا.
ارتجف جسدها تحت وطأة تلك اللمسة، أطبقت جفنيها في استسلامٍ حالم،
وشعرت بأنفاسه تنساب إلى أعماقها كدفء يغمر قلبًا برده الخوف، فذابت في إحساس جارف لا تطيق مقاومته… ولا تريد.
اعتدل فارس ببطء، وعيناه ما زالت معلقتين بها، صوته خرج خفيضًا لكنه يحمل وقع الأمر الحاسم: خلي تلفونك چنبك، ولما أرن… ردي على طول، بدل ما أچي تاني.
خفضت نظراتها بخجل ناعم وهمسة بصوت يكاد لا يسمع: حاضر… بس متچيش تاني.
أومأ برأسه دون أن ينطق، ثم استدار نحو الباب بخطوات مترددة، وخرج مغلقًا إياه وراءه في صمت ثقيل…
وقف لحظة أمام الباب، كأن أنفاسه تحاصر صدره، عض شفته بعنف محاولًا كبح النيران التي اشتعلت في جسده وطالبت بها،
ثم أغمض عينيه بقهر وهز رأسه بيأس، وسار في الممر بخطوات سريعة، يجبر نفسه على الرحيل… قبل أن يخذله قلبه ويعود إليها، ليزرعها بين أحضانه كما تشتعل الرغبة في الرماد.
في الداخل،
جلست حبيبة وحدها، والصمت يلتف حولها كوشاح ثقيل.
ارتشفت من الكوب رشفة صغيرة، بينما صدرها يعلو ويهبط بانفعال مكتوم،
كأن قلبها يركض بلا اتجاه. ارتجف جسدها كله، وخرجت منها همسة خجولة مبحوحة: يلهوي يما … ايه الراچل ديه هيوجف جلبي! يخربيت حلاوته… بريحته اللي خطفتني، وبحنانه اللي هيخوتني.
لكن الصوت الذي يسكنها لم يصمت، تسلل من أعماقها كظل ساخر وقال بسخرية لاذعة: كنك اتخوتي صح يا حبيبة… ونسيتي أمير؟ وعساف؟ وأبوكي؟ يا بت، أبوكي!
زفرت غيظًا وعضت شفتها بحنق، ثم غمغمت: انتي كده مش بتظهري غير وأنا مبسوطة… عشان تنكدي عليا وتشندلي حالي! حلي عني يا أختي.
رد الصوت بنفس النبرة اللاذعة: أَحل عنيكي كيف؟ وأنا وانتي واحد! هتوديني في
داهية يا مخوتة.
ارتشفت حبيبة من الكوب بعناد وقالت: أهه… انتي جولتي احنا واحد، يعني هاروح معاكي في نفس الداهية. وبعدين ليه الفال الزفت ده يا عفشة؟ فارس كلم أمير يعني هيخطبني! موتي بغيظك يلا!
رد الصوت باستهزاء حاد:انتي هبلة… أكيد لو أنا هموت، انتي هتموتي بردك.
رفعت حبيبة يدها في الهواء بإشارة غاضبة وقالت بصوت مسموع: خلاص… غوري بجى، كده همليني! مبسوطة حبة!
ثم أطلقت ضحكة قصيرة مرتعشة، لكنها لم تدم طويلًا؛ فبعد أن سكنت، نظرت نحو الباب المغلق، وكأن شيئًا منها ظلّ واقفًا هناك… في الجهة التي خرج منها فارس، تاركًا وراءه قلبا يرتجف وامرأة لا تعرف هل تخاف من دفء الرجل أم من نفسها.
أمام بوابة الجامعة، كان الزحام يضج بالحياة، والوجوه تتناثر بين الضحكات والكتب وهدير السيارات…
خرجت نغم برفقة إحدى صديقاتها، واشاعه الشمس
تنعكس على وجهها الهادئ المرهق، بينما قالت صديقتها وهي تلوح بيديها في انفعال ساخر: والنعمه لحد دلوق مش مصدجه! إخواتك وافجوا تيجي تحضري وتجعدي في سوهاچ!
ابتسمت نغم بخفة متعبة وأومأت برأسها قائلة: ولا أنا… بس يلا الحمد لله، البركة في حبيبة.
نظرت لها صديقتها بدهشة صافية وقالت: حبيبة مين؟
فتحت نغم فمها لتجيب، لكن الكلمات جمدت على لسانها، وعيناها اتسعتا بدهشة مذهولة…
كان أدهم يترجل من سيارة سوداء أمامها مباشرة، يقف في وهج الشمس كأنه مشهد غير واقعي، ورمشها يرتجف مرتين في محاولة لتصديق ما تراه…
تعلقت بيد صديقتها بقوة حتى كادت تسحقها، وخرجت همستها المرتعشة كأنها تستنجد: هبه… الحجيني!
نظرت إليها هبة في حيرة بالغة وقالت بقلق: مالك يا نغم؟!
امتلأت عينا نغم بالدموع، وارتجف صوتها وهي تهمس بخوف واضح: چاي لمين؟ أعمل إيه لو چاي لواحده هنه؟!
تبعت هبة نظراتها، فرأت الشاب الذي ترك أثر ذهول واضحٍ في وجهها، فرفعت حاجبها بدهشة وهي تهمس بنغمة ساخرة خفيفة: مش ده واد عمك اللي حكتيلي عنه؟
أومأت نغم برعب صادق، وردت بخفوت غاضب ومضطرب: هو الزِفت!
في الجهة الأخرى، كان أدهم يقف وسط الحشود، يتلفت بعينيه القلقتين باحثًا عنها، وصوت عماد يتردد في رأسه بوضوح كأن صاحبه يقف جواره الآن: إنك تطفش العرسان من بعيد لبعيد كده مش كفاية يا أدهم…
افرض هي عشجت حد؟ وجتها هتاخد واحده هتعشج غيرك يا صاحبي!
انت لازمن تكون ضامن مشاعرها ليك.
زفر أدهم بيأس وهو يمسح وجهه بكفه وغمغم في ضيق متململ: كل ديه بنات… أمال مين جاعده في بيتهم؟!
ثم فجأة، وقعت عيناه عليها…
تجمد كل شيء حوله لحظة، ثم تهلل وجهه بسعادة واضحة، وابتسم ابتسامة صافية كأنها انتصار بعد انتظار طويل، وبدأ يقترب منها بخطوات واثقة بطيئة.
شهقت نغم حين رأت ملامحه تقترب، وعضت شفتها وصدرها يعلو ويهبط كأنها فقدت أنفاسها،
نظراته كانت مختلفة… نظرات لم ترها في عينيه من قبل، حارة، عميقة، تحاصرها دون كلام…
تراجعت خطوة للخلف في ارتباك طفولي، وهي تتشبث بصديقتها كمن يبحث عن ستر من زلزال داهمها، وبدت في عينيها رجفة خوف وحنين لم يعترف به بعد.
لكزتها هبة بدهشة وهمسة قرب أذنها: يخرب بيتك… چاي علينا!
ابتلعت نغم ريقها بصعوبة، وصوتها خرج متقطعًا وهي تهمس بتوتر لا تخطئه الأذن: امسكيني… هجع من طولي! احنا مفيش بينا كلام أبدًا!
نظرت هبة إليها بدهشة أكبر، وضغطت على يدها وهمسة سريعًا: امسكي حالِك يا بت!
أما نغم…
فكانت كل خلية فيها تصرخ، لا لأن أدهم يقترب، بل لأن قلبها لم يتعلم بعد كيف يهرب منه…
كان قد وصل أخيرًا، ووقف أمامها بخطوات واثقة تشي بشوق مكبوت، قبل أن يهتف بصوته الدافئ: ازيك يا نغم.”
رفعت عينيها إليه لحظة، ثم سرعان ما خفضتهما، تتهرب من تلك النظرة التي تحمل أكثر مما يجب، وهمسة:
الحمد لله.”
ظل يتأمل ملامحها بوله واضح، وغمغم بنبرة مترددة كمن يخشى أن يفضح شوقه: كت هنه جولت اطمن عليكي.”
لم تجبه سوى بإيماءة خفيفة، وكررت بنفس النبرة الهادئة البعيدة: الحمد لله.”
تأملها بدهشة امتزجت بحنان صادق وقال: انتي هتروحي ولا لسه؟”
هزت رأسها نافية، وغمغمت بصوت خفيض مضطرب:
لسه… الحمد لله.”
قطب حاجبيه وقال مستنكرًا: كيف يعني؟”
تشبثت بكف هبة وكأنها تستمد منها ثباتها، ويدها ترتجف كمن يحارب خوفًا خفيًا، وهمسة: لسه… مش هروح.”
نظر إلى ساعته بدهشة صريحة وقال: الساعة تلاتة يا نغم، أكيد خلصتي.”
أومأت سريعًا وقالت: أيوه.”
أشار إلى السيارة وقال بلهجة آمرة هادئة: طيب يلا، هوصلك.”
رفعت نغم رأسها نحوه أخيرًا، تحدق فيه بدهشة حائرة، وقالت: في إيه يا أدهم؟ في حاچة حصلت؟ انت أول مرة تكلمني، ومرة واحدة كده بدك توصلني؟ وچاي لحد هنا؟ أنا مش فاهمة حاچة.”
ابتسم بخفة تفضح اضطرابه، ونظر في عينيها نظرة رجل أنهكه الكتمان وقال:بدي أتكلم معاكي يا نغم… في موضوع.”
ابتلعت لعابها بتوتر واضح، كأنها تحاول الهروب من ثقل نظرته وقالت بخفوت متوجس: أدهم… انت هتطلع فيا كده ليه؟ انت زين؟”
ابتسم بعبث ناعم وقال: متخافيش… تعالي، وأنا هفهمك.”
ترددت لحظة، ثم أومأت على مضض، تساقها خطواتها كمن تقاد إلى شيء لا تفهمه…
أما هبة فتابعتهما بعينين متسعتين، وغمغمت مدهوشة وهي تهز رأسها: والنعمة الاتنين دايبين في بعض… وتجولي معرفش اني في الدنيا من أصلًا.”
فتح أدهم باب السيارة لها، فصعدت متوترة تضم كتبها إلى صدرها كدرع صغير، وأغلق الباب خلفها، ثم صعد هو الآخر وأدار المحرك، وانطلق بسرعة متوسطة.
سادت لحظة صمت طويلة، لم يكسرها سوى صوتها الخافت وهمسة : عارف الشجه؟”
أومأ دون أن يلتفت وقال: أيوه.”
ثم أوقف السيارة على جانب الطريق، التفت نحوها بنظرات رجل عشق حتى الاختناق، وقال بصوت خفيض مبحوح: نغم… أنا عارف إنك هتستغربي…. چيتي ليكي وكلامي كله علشان كنت واخد چنب منيك، ومش جادر حتي أطلع فيكي.”
حدقت فيه بتوتر حقيقي، وقالت بصدق مرتبك: بصراحة… انت درعتني ووترتني يا أدهم.”
مد يده نحوها دون وعي، وأمسك بيدها بحنان مرتجف كأنه يلمس شيئًا مقدسًا، وهمس: نغم، أنا…”
لكنها شهقت بفزع، وسحبت يدها بسرعة، وهتفت بعينين متسعتين: وهو في إيه؟! انت أدبيت إياك؟!”
ساد صمت ثقيل داخل السيارة، لم يعد يسمع سوى خفق أنفاسهما المتلاحقة…
حاول أدهم أن يستجمع شجاعته، فابتسم بتوتر خفيف وهز رأسه نافياً، وصوته خرج أقرب إلى الرجاء منه إلى الدفاع: أنا بدي بس تسمعيني.”
أومأت نغم برأسها، وقد التمعت عيناها بقلق واضح، ثم قالت وهي تشيح بوجهها قليلًا: ماشي، هسمعك… بس ويدك چمبك.”
ابتسم بارتباك وأومأ بخضوع ناعم: حاضر.”
لكنه لم يستطع أن يمنع عينيه من الارتحال نحوها، وكأنها جاذبيته الأولى والأخيرة… اقترب قليلًا، وامتدت كلماته من بين شفتيه كاعتراف خرج بعد حبس طويل: أنا بحبك.”
تراجعت نغم إلى الخلف، وملامح الدهشة تتراقص على وجهها. رمشت بعينيها مرتين، ثم انطلقت ضحكتها المندهشة وهتفت: يا نهارك أغبر!”
نظر إليها بدهشة امتزجت بالحنق، وخرج صوتة مبحوحًا من فرط القهر والوله: أغبر يا نغم؟”
هزت رأسها، وصوتها لا يخلو من ذهول ممزوج بالخجل:
أغبر يا أدهم!”
مدت يدها نحو قفل الباب محاولة النزول، لكنه أسرع يمسك بيدها، واضعًا كفه فوق كفها ليمنعها من الحركة، وهتف برجاء صادق: طب اصبري يا بت… وأنا هفهمك.”
ثم مد يده الأخرى ولمس طرف ذقنها بخفة مرتعشة، أدار وجهها نحوه، ونظر في عينيها نظرة جعلت أنفاسها تختنق بين صدرها، وهمس بصوت لا يشبه إلا صوت عاشق مغلوب على أمره: بحبك يا بت… ومن سنين، بس كت خايف.”
تسمرت عيناها عليه بدهشة تامة، ثم همسة:من سنين كيف؟ وانت عمرك ما كلمتني، ولا حتى اطلعت فيا.”
أطرق رأسه للحظة، ثم رفعه وقد غلفت صوته نبرة ألم مكتوم:غصب عني… انتي عارفه نصيبه ولد الانصاري. وأنا بعشجك يا نغم، بدوب في عيونك، ونفسي أچوزك وأعيش معاكي كل عمري… بس ديه مستحيل.
وبرضك مستحيل اهمل تتچوزي غيري أو أتچوز غيرك، ولا حتى أتحمل ريحة نفس غيرك في حضني.”
انكمشت نغم في مقعدها بخجل شديد، أطرقت رأسها إلى الأرض، وأنفاسها تتلاحق كأنها على وشك الانقطاع. مد أدهم يده ليمسك يدها ثانية، لكنه توقف حين رآها ترتجف.
قطب حاجبيه بقلق واضح وقال بصوت مرتجف:
مالك يا نغم؟ هتترعشي جوي، ويدك ساجعه!”
هزت رأسها بخفوت وهمسة بأنفاس متقطعة:جلبي هيفرفط… هيجف يا أدهم.”
نظر إليها بخوف صادق وقال: ليه يا بت؟”
ثم رفع حاجبه بدهشة خبيثه وسألها بصوت خافت يشوبه الأمل: انتي بتحبيني يا نغم؟”
هزت رأسها بعنف وهي تهمهم كمن يحاول النجاة من اعتراف ثقيل:لالا… لا.”
ابتسم بعبث لطيف، واقترب منها قليلًا وهمس في أذنها بصوت يحمل دفء الحنان ومكر العشق: لاااا؟ كيف؟ وانتي هتموتي في إيدي!”
ثم نظر في عينيها مليا، وصوته هبط إلى درجة من الحنين تكاد تبكي الحجر:عارفه… لولا النصيبه المقندله ديه، كنت زمانك مرتي… وأم عيالي.”
أومأت بخفوت، وانزلقت دمعة قهر حارة على وجنتها، وهمسة بصوت مبحوح موجوع:واخرتها يا أدهم؟”
نظر إلى دمعتها بحزن عميق كأنها تحرق قلبه، وقال بهدوء حاسم:مش عارف… هتخوت، بس لازم يكون في حل….أنا هوصلك، وهعاود البلد. هتكلم مع بدر، ونروح لچدي، هو أكيد يعرف حاچة.”
رفعت رأسها إليه، وعيناها ما زالت تلمعان برغبة في التصديق، وقالت بوجع صادق: هو لو كان في يده حل… كان همل بدر غرجان، ولا حمزه الله يرحمه؟”
أطرق رأسه ببطء وقال بمرارة هادئة: عارف إنه مفيش في يده حاچة… بس الحل وطرف الخيط هيبدأ بكلمة نمشي وراها.
أهو نسعى… وربك يحلها يا نغم… متكسريش مچديفي.”
أومأت برأسها، وصوتها خرج مبحوحًا من الحزن:ربنا يسمع منك… حتى الغالي حاله ميسرش.”
رفع حاجبه بدهشة طفيفة وقال: الله أكبر! حتى الغالي؟ مع مين؟”
ابتسمت بخجل خفيف وقالت: حبيبة… أخت أمير العزيزي.”
ضحك أدهم بخفة ومرح، وقال:الله! ديه كده كلنا في الهوا سوا… وحاجة طين من الآخر!”
ضحكت نغم بخجل وهدوء، ثم قالت:طب روحني يلا.”
أومأ برأسه مبتسمًا، ومد يده يقرص وجنتها برفق كأنه يختم وعدًا غير منطوق، وقال:حاضر يا جلبي.”
وانطلق بالسيارة بسرعة هادئة نحو الشقة، والهواء يتسلل من النافذة كأنه يحمل صدى ما لم يقال بينهما بعد.
…………….
في مزرعة العزايزي،
كان الصباح يلف المكان بسكون مريب، لا يقطعه إلا صوت أوراق تقلب بعصبية فوق مكتبٍ من الخشب العتيق…
جلس عساف وسط رائحة دخان سجائره والغضب ، عيناه تتابعان الأرقام في الدفاتر بتركيز حاد، حتى اتسعت حدقتاه فجأة، وتحول اندهاشه إلى غضب مكتوم أخذ يغلي في صدره.
أغلق الدفتر بعنف، وصوت ارتطامه بالمكتب ارتد في الغرفة كصفعة مدوية، ثم سحب آخر قلبه بسرعة حادة، حتى نطق من بين أسنانه بصوت غليظ ممتلئ بالحنق:
كده؟! علي عينك يا تاچر!”
وقف دفعة واحدة، كأن النار اشتعلت تحت قدميه، ومد يده إلى هاتفه، وضغط الأرقام بعصبية….
ما إن سمع صوت سليمان في الطرف الآخر حتى هدر فيه بغضب مكتوم: سلمان… تعال دلوق!”
تردد صوت سليمان بدهشة قلقة:في إيه يا أخوي؟”
فأجابه عساف بحدةٍ قاطعة: لما تيچي… هتعرف.”
واغلق الهاتف قبل أن يسمع رده، ثم تنفس بعمق غاضب وهو يطلب رقمًا آخر، وقال بصوت لا يخلو من الوعيد:
موسى… تعال دلوق.”
جاءه صوت موسى بارداً، متعمدًا البطء، كأنه يغضبه عن قصد:حاضر… يا عساف.”
وضع عساف الهاتف بقوة على المكتب، وجلس وهو يفرك كفيه بعنف، الشرر يتطاير من عينيه. زمجر بصوت غليظ مكتوم بالحسرة:صدج اللي جال… ربيت في حچري عجرب!”
لم تمر لحظات حتى سمع وقع أقدام متسارعة، ودلف سليمان متوتر الملامح، يلتفت بعينيه بين الأوراق المتناثرة والغضب المشتعل في وجه أبن عنه..
قال بصوت حذر: خير يا أخوي؟”
رفع عساف عينيه نحوه، والنار تتلظى فيهما، وأشار بيده نحو الكرسي بعصبية وهدر:اجعد!”
جلس سليمان فورًا دون جدال، وما لبث أن دلف موسى بعدها بخطوات هادئة متعالية، ملامحه باردة، وصوته ساخر هادئ كمن يسكب الزيت على النار:خير؟ چيبني على ملا وشي ليه يا عساف؟”
مد عساف يده إلى الدفتر، وألقاه أمامهما بعنف حتى ارتطمت الأوراق بالمكتب وتناثرت أطرافها، ثم هدر بصوت غاضب يمزق الصمت: اطلعوا كده… على حسابات آخر شحنة لمصانع الانصاري!”
تبادل سليمان وموسى نظرات حادة، رفع موسى حاجبه ببطء متعمد، وكأنه يستفز أخاه، ثم فتح الدفتر وقلب صفحاته بعين باردة، وقال بصوت متزن مصطنع:مالها الحسابات يا عساف؟”
أجابه عساف بنظرة قاتمة وصوت ينذر بالعاصفة: فيها لعب… يا موسى.”
رفع موسى رأسه سريعًا، وارتسمت على ملامحه دهشة مغشوشة وغضب مصطنع، وهتف بنبرة حادة: ومين اللي هيلعب؟! ما تحاسب على حديتك يا واد عمي!”
هنا تدخل سليمان بحدة وهو يصرخ فيه محذرًا: موسى!”
قبل أن يزداد الصدام اشتعالًا، فتح الباب فجأة، ودخل فواز وفوزي بخطوات سريعة، وصوت فواز يعلو بحدة مدهوشة: چِري إيه يا ولد؟! حسكم چايب آخر المزرعة ليه؟ خير؟!”
انتفض الجميع واقفين، ورد عساف بلهجة متوترة غاضبة تخفي خلفها وجعًا دفينًا: ف أشكال يا أبوي… ف الحسابات!”
اقترب فوزي، وجهه يزداد صرامة ودهشة، وقال بصوت غليظ ينذر بالتحقيق: أشكال إيه يا ولدي؟”
أشار فواز بيده المرتجفة، وصوته يتهدج بتلعثم خافت يحمل الخوف والرجاء: يمكن غلطه يا ولد، الجلم هيغلط…
لكن عساف هز رأسه بعنف، والعروق في عنقه متورمة من الغضب، وهدر صوته كالرعد: الجلم هيغلط ف ربع مليون يا عمي؟!
ساد صمت مشحون بالريبة، قبل أن ينهض موسى فجأة، ونبرته تقطر حدة وقال: آخر واحد راچع الحسابات هو أبوي.
التفت فواز إليه بدهشة هزت كيانه، كأنما طعن في موضع لا يشفى، وجحظت عيناه وهمس بأنفاس متقطعة: أنا يا موسى؟!
أومأ موسى بثباتٍ متصنع، وقال بجمود بارد: متاخذنيش يا أبوي، الحج حج… لو على رجبتي.
كأنّ الصاعقة وقعت على رأس فوزي، فهدر غاضبًا:
إنت هتسرجني يا أخوي؟!
هنا انتفض سليمان، لم يحتمل الاتهام، فاندفع صوته بغضبٍ حارق: لا، مش أبوي يا عمي!
تجمدت الأنظار عليه بدهشة، وتقدم فوزي خطوة يسأله بانفعال: أومال مين؟!
تردد سليمان لحظة، ثم بلع لعابه بصعوبة، وصوته متهدج كمن يسلخ اعترافه من قلبه: أنا…
تسارعت الأنفاس في الغرفة، وتبدلت الوجوه بين صدمة وغضب وخذلان. ارتفع صوت عساف متصدعًا من الدهشة: إنت يا سليمان؟! إنت كيف؟!
أطرق سليمان رأسه، يحاول أن يبتلع غصته، وقال بخفوت مبحوح: الشيطان شاطر ياخوي…
تبادل فواز وموسى النظرات؛ غضب الأب المكلوم في عيني الأول، وابتسامة باردة خاطفة في وجه الثاني، سرعان ما أخفاها.
اقترب فوزي من سليمان، وعيناه تموران غضبًا وحزنًا:
ليه يا سلمان؟ ليه يا ولدي؟ عمرك طلبت مني شي وانا جصرت معاك؟!
هز سليمان رأسه نافياً، والدموع تغشى عينيه بحرقة مكتومة، وهمس بصوت مبحوح بالقهر: غصب عني يا عمي… سامحني.
تقدم فواز بخطوات بطيئة، يمد يده الفاصلة بين الغضب والرحمة، وقال برجاء أبوي: سامحه يا أخوي… لأجل خاطري.
لكن موسى قطع الصمت بنبرة قاسية: أبلغ الحكومه يا أبوي.
ارتفع صوت فوزي وفواز معًا، غاضبين كأنهما اتحدا لحماية ما تبقى من العائلة: لاه حكومة، لاه!»
رمق فوزي سليمان بنظرة موجعة، تجمع بين القسوة والخذلان، وقال بصوت ثقيل مبحوح: إنت يا سليمان اللي سرجت؟
تساقطت دمعة ثقيلة على وجنة سليمان، ثم قال بصوت واهن: أيوه…
اهتز وجه فواز بالحزن، نظر إلى ابنه ولم يصدق أن الدم قد غدر بالدم، وأن موسى كاد يورطه لولا أن سليمان فداه بنفسه.
رفع سليمان عينيه الغارقتين بالدموع نحو والده، ثم إلى فوزي، وهمس بانكسار موجع: بكره هرچع كل چنيه… ومش هوريك وشي ف المزرعه تاني يا عمي… سامحني.
ساد الصمت كغبار كثيف يختنق به المكان، لا يسمع فيه إلا صوت أنفاس متقطعة.
ثم انصرف سليمان بخطوات ثقيلة تجر خلفها الخذلان والعار، تاركًا خلفه وجوهًا تكسوها الدهشة، وغرفة تغمرها مرارة الخيانة.
…………
في سرايا الانصاري
خرجت ليلى من المرحاض، والبخار ما زال يتدلى على كتفيها كوشاح من دفء ورغوة…
التفت بالمنشفة البيضاء، والماء يتقاطر من أطراف شعرها الداكن على عنقها وصدرها في خيوط رقيقة تلمع تحت ضوء الغرفة الناعم.
كانت خطواتها وئيدة، كأنها خارجة من حلم بارد طويل، جلست أمام المرآة وبدأت تُصفف خصلات شعرها ببطء وهدوء، كل خصلة تسقط على الأخرى كأنها تعيد ترتيب أفكارها لا شعرها.
وضعت فرشاة الشعر جانبًا، وضغطت بكفها على صدرها وهي تهمس بأنين خافت:آه… معدتي، يما، شكلي خدني البرد في الچنينه…
زفرت بألم خفيف، ورفعت يدها ببطء لتفك المنشفة استعدادًا لارتداء ملابسها، لكنّ الباب انفتح فجأة، واندفع صوت مألوف يملأ أرجاء الغرفة: ليلة!
صرخت بذعر، وشهقت وهي تحاول ستر جسدها بيديها المرتجفتين، والمنشفة تنزلق على الأرض كوشاح خائن لا يرحم…
تجمد بدر في موضعه، عينيه تتسعان بذهول صامت والنار تشتعل في عروقه…
كان المشهد كطعنة من جمال محرم، ارتجف جسده كأنما اشتعلت فيه شرارة لا تطفأ….
خرج صوته مبحوحًا، غاضبًا من ضعفه أكثر من الموقف نفسه: يخربيت أمك اللي جاعده تحت!
كأنها انتبهت من غيبوبة، ركضت ليله نحو المرحلض بسرعة مذهلة، أغلقت الباب خلفها بعنف، وصوت ارتطام الباب صدع أرجاء الغرفة.
ظل بدر واقفًا مكانه، يتنفس كمن صعد جبلاً من لهب. رفع يده إلى وجهه، مسح العرق الذي بلل جبهته،
ثم التقط كوب الماء من على الطاولة وارتشفه دفعة واحدة، حتى تساقطت قطرات منه على صدره ، تتدحرج ببطء كأنها تطفئ جمرة في داخله.
أغمض عينيه بقوة، يحاول أن يستعيد اتزانه، لكن صورة ليلة لم تفارقه… همس لنفسه بغيظ مكتوم، قبل أن يقترب من باب المرحاض ويدقه بخفوت مبحوح: ليلة… اندلي أمك تحت.
ثم دار على عقبيه بعنف، وغادر الغرفة كالعاصفة، والغضب يشتعل في وجهه،
كأن شيئًا فيه انكسر بين الحياء والرغبة…
في الأسفل،
كان عبق القهوة يمتزج برائحة الياسمين المتسلقة على شرفة الصالة، وصوت شهية يملأ المكان بدفء يليق بامرأة من الجنوب، طيبة الوجه والروح، وهي تقول بفرح صاف: والله اتوحشت ليلة، جلت أجي أطل عليها.
ضحكت فاطمة بفرح حقيقي، وربتت على فخذها بحنوّ وقالت: نورتي الدنيا يا شهيه، يا ألف مرحب بيكي يا خيتي.
في تلك اللحظة، هبط بدر الدرج بخطوات نارية كأن كل درجة توقد في صدره جمرًا جديدًا…
جلس على الكرسي الخشبي الكبير، وصمته كان كالعاصفة قبل الانفجار. ملامحه مشدودة، عينيه لا تهدآن.
رفع صهيب حاجبه بدهشة، ونظر إليه متفحصًا قبل أن يغمغم بنبرة مترددة : مالك مكلدم ليه؟
رد بدر بصوت متحشرج من الغضب المكبوت: بتسأل جوي انت يا صاحبي؟
هز صهيب رأسه بتبرم وقال بحدةٍ خفيفة: مش طايجك يا أخي، أسأل عليك كيف؟
تبادل الاثنان نظرات ثقيلة، قبل أن يقطع صوت خطوات على الدرج ذلك التوتر المحتدم…
التفت الجميع نحو ليلة، كانت تنزل ببطء، ترتدي ثوبًا بسيطًا وتبدو على وجهها مسحة تعب ناعمة، كأنها خرجت من معركة مع نفسها.
اقتربت من والدتها وفتحت ذراعيها بعفوية مبحوحة الصوت: هلاً يما… وحشتيني جوي.
ضمتها شهية بحب وحنان جارف، وغمرتها بذراعيها وهي تقول بلهفة حقيقية: وانتي يا نضري، اتوحشتك جوي يا بيت!
جلست ليلة بجانبها، متشبثة بطرف ثوبها كما كانت تفعل في صغيرة، وهمسة بعفوية دافئة: وأبوي كيفه؟ وحشني چوي.
نظرت إليها شهية بدهشة لطيفة وقالت وهي تتأمل ملامح ابنتها: أبوك زين يا بتي، بس انتي كيفك؟ شكلك مش عچبني… وشك كبف اللمونة إكده!
رفعت ليلة منكبيها بجهل طفولي وقالت بخفوت: أنا زينة يما… بس معدتي هتوچعني شوية.
ضحكت شهية بفرح غامر، ثم صفقت بيديها فجأة وأطلقت زغرودة مدوية ملأت البهو كله، وهتفت:
يا ألف مبروك! يا ألف نهار أبيض!
تجمد الجميع في أماكنهم، العيون تتجه نحوها بدهشة غير مفهومة، بينما قالت ليلة مذهولة: هتزغرتي ليه يما؟!
ضحكت شهية بمرح صادق وهتفت: معدتك هتوچعك ووشك مخطوف… تيجي حبله يا جلب أمك!
اتسعت عينا ليلة رعبًا، وتبادلت فاطمة وهيبة نظرات مرتبكة، فيما كتم صهيب ضحكته بصعوبة بالغة، أما بدر فزفر بحدة، غيظه يحرق صدره حتى بدا كبركان مكتوم يستعد للانفجار.
التفتت شهية نحوه ببراءة الأم التي لا تدرك النار التي أشعلتها وقالت بجدية صافية: شيع هات الدكتور يا بدر، لأجل ما يطمني.
رفع بدر حاجبه ببطء، والغضب يقطر من صوته كالسم وقال في نفسه دون أن ينطقها بعد…
دكتور؟! دا أنا اللي محتاچ دكتور بعد اللي شفته فوج يا يما هتچلط وووووووووو
ساحره القلم ساره احمد

تسلم ايدك ❤️❤️
تسلمي يا قمر
تسلمي ي حبيبتي ♥️
ايوة بقى أخيراً
الحمد الله ع رجوع المدونة ♥️♥️♥️
تسلمي يا قمر ♥️
ايوة بقى أخيراً
الحمد الله ع رجوع المدونة ♥️♥️♥️
تسلمي يا ايمو ♥️
تسلم ايدك يا حبيبتي أكيد روعة ♥️♥️
حبيبتي تسلمي ♥️
نجمة و تعليق يا حبايبي اوعى ننسى ♥️♥️
بالظبط ي ايمو ♥️
اه والله
تسلم ايدك😘
تسلمي يا قمر ♥️
بجد روعه عظمه جدا والله 😘❤❤❤
تسلمي يا قمر ♥️
عظمة ع عظمة
تسلم ايدك ياقلبي 😘❤❤❤
حبيبتي تسلمي ♥️
تسلم ايدك تحفه ❤️
تسلمي يا قمر ♥️
❤️❤️❤️❤️
تحفففففه بجد تسلم ايدك😍❤️❤️❤️❤️❤️
حبيبتي تسلمي ♥️
تحفه جميل
تسلمي يا قمر ♥️
يجنن
تسلمي يا قمر ♥️
جميييل
تسلمي يا قمر ♥️
تحفه ياسو تسلم ايدك ❤❤
تسلمي يا قمر ♥️
عظمه🌹🌹🌹🌹🌹🌹
تسلمي يا قمر ♥️
تحفه
تسلمي يا قلبي ♥️
تسلم ايدك ياقلبي ❤
تسلمي يا قمر ♥️
هايل جدا
تسلمي يا قمر ♥️
تسلم ايدك بجد جنان
anahdwlyd@gmail.com
تسلمي يا قمر ♥️
البارت رووووعه بجد تسلم ايدك
تسلمي يا قمر ♥️
البارت اكيد حلو زى اللى كتبته ♥️♥️♥️
عيونك الاحلي ♥️
البارت روعة تسلم ايدك
تسلمي يا قمر ♥️
❤❤❤❤❤❤❤❤
تسلم الايادي ❤️♥️♥️♥️♥️♥️
تسلمي يا قمر ♥️
تحفه تسلم الايادي ❤️♥️❤️♥️♥️
تسلمي يا قمر ♥️
تحفه 🔥♥️
حبيبتي تسلمي ♥️
اي الجمدان ده
تسلمي يا سكره ♥️
روعة تسلم ايدك ياسارة
تسلمي يا قمر ♥️
حلوه اوي
تسلمي يا قمر ♥️
روعة تسلم ايدك
تسلمي يا قمر ♥️
البارت حلو حلو قوي ❤️
تسلمي يا قمر ♥️
تسلم ايدك البارت روعه
حبيبتي تسلمي ♥️
،❤️❤️❤️❤️❤️❤️
مبدعة تسلم ايدك والسرد تحفة ❤️❤️❤️
تسلمي يا قمر ♥️
تسلم ايدك يا جميله تحفه ❤️❤️
تسلمي يا قمر ♥️
احنا كلنا يابا الحاج ال محتاجين دكتور والله
حصل والله 🤣😂🤣
❤️❤️❤️❤️
مش طبيعي
♥️♥️♥️
بارت يجنن تسلم ايدك يا سو🥰🥰🥰🥰
تسلمي يا قمر ♥️
البارت رووووووعه
تسلمي يا قمر ♥️
تحفففه 😍
تسلمي يا قمر ♥️
البارت روووووعة رووعة ياقلبي تسلم ايدك ♥️🥰
تسلمي يا قمر ♥️
ياتري اللعنه ديه هتتفك امتي بقي
هنشوف الأحداث ي قمر ♥️
ألف مبروك على رجوع المدونه ❤️❤️❤️
الله يبارك فيكي يا قمر ♥️
البارت رووووووووعة و خطبر جدا تسلم ايدك يا سارة
حبيبتي تسلمي ♥️
تسلم ايدك يا ساره البارت تحفه بجد ❤️🔥❤️♥️🌹
تسلمي يا قمر ♥️
جميييل
تسلمي يا قمر ♥️
تحفه
تسلمي يا قمر ♥️
تحفه اوي
تسلمي يا قمر ♥️