عشق ملعون بالدم

عشق ملعون بالدم (الفصل الثامن

عشق ملعون بالدم (الفصل الثامن

البارت التامن عشق ملعون بالدم
ساحرتي أنتِ… كأنكِ سِرّ الجمال حين قرر أن يتجسّد في امرأةٍ من ضوءٍ وهمس.
نبتّ من صخر الحياة كما تنبت وردةٌ عصيّة على الريح، عاليةٌ كأنها اعتلت جبال القدر لتطلّ على العالم من شرفتها وحدها، متفرّدة، لا يُطال عبيرها ولا يُشبه لونها شيء.

قال الأطباء عنكِ ولا يعلمون أنكِ معجزةٌ لا تُقاس بالعلم إن في حضوركِ شفاءً لكل وجع، وإن لمسةً من أناملكِ تُسكِت الأنين في صدورٍ أنهكها البعد.
أما قلبي… فكل ما حوله من الصبر يتهدّم حين يشتاق إليكِ،
كأنه لا يعرف الضعف إلا على عتبة اسمكِ،
ولا يتذكّر أنه حيٌّ إلا حين تنادينهِ نظراتكِ.

أنتِ الداءُ والدواء، الوجعُ والسكينة،
وأنا… الرجل الذي هزمه حبّ امرأةٍ نبتت كالمعجزة في أعلى الجبال،
فصار كل نبضٍ فيه صلاةً إليكِ.

نهض أمير من مجلسه بخطوات متوجسة، واقترب من حبيبة كمن يحاول قراءة ما وراء الدموع في ملامحها، كانت نظراته تجمع بين الحنان والقلق، وصوته خرج هادئًا لكنه مشحون بالعاطفة:ليه يا حبيبة؟ في حاچة حصلت كدرتك؟ ولا مبدكيش نغم معاكي؟

هزت رأسها نفيًا، ويدها تمسح دموعها بسرعه طفولية قبل أن تتمتم بصوت مبحوح: لا، نغم ملهش صالح، أنا حتى لسه معرفهاش… بس أنا كلمت صحباتي، وكلهم أهلهم رفضوا يقعدوا بره سكن الطالبات، وأنا مبديش أقعد لوحدي يا أخوي…

تحركت إنعام من مكانها بسرعة وقد بدا الغضب والقلق في عينيها، وهتفت بصوت حاد كأم تستشعر الخطر قبل وقوعه:وأنا هجول إكده! سكن الطالبات أمان يا ولدي!

لكن أمير أشار بيده في هدوء ليخفف حدة الموقف، ثم قال بثبات حازم: والشجة أمان يما، وأنا اتفجت مع فارس… ونغم هتروح عشان حبيبة معاها.

أومأ عساف بتفكير متأن، وكأنه يوزن الأمور بعقله الهادئ، ثم قال بنبرة مطمئنة:والله يا حبيبة، الشجة أريح وأنضف أكيد، وصحباتك معاكي في الكلية كده كده يا حب…

اقترب أمير أكثر، وربت على وجنتها بحنان أخوي دافئ، وصوته انخفض كهمس يختبئ فيه الخوف عليها:
احنا هنروحوا… ولو الشجة ولا حتى الشارع ما عجبكيش، هرچعك السكن تاني، ما تجلجيش.

أومأت برأسها على مضض، وقد انكمشت ملامحها في استسلام خافت، قبل أن تهمس لنفسها بغضب مكتوم، وكأنها تحاول طرد قلق لم تعرف له سببًا: ماشي يا أخوي… ربنا يستر…

نظر عساف إلى الحقائب المكدسة بجانب الباب بدهشة خفيفة، ثم ضحك وقال ممازحًا وهو يرفع حاجبه:فيه شنط تاني ولا كفاية كده؟ ديه عزال مش شنط يا حب!

نظرت إليه حبيبة بدهشة بريئة، وابتسامة صغيرة شقت ملامحها المتوترة، ثم قالت ببراءة صافية:لا… ده عشان أول الترم يا خوي، بعد كده هروح وأچي بشنطة صغيرة.

تناثرت الضحكات الخفيفة في الرواق، تخفف من وطأة الموقف، لكن في عيني أمير ظل القلق مقيمًا…
كأن قلبه يعلم أن تلك الشقة الآمنة قد تخبئ ما لا تظهره الجدران.

شرد أمير وهو يمرر كفه على وجنته كمن يحاول تذكر أمر نسيه، وتمتم بنزق ساخر: أنا نسيت أسأل الغالي، الشجة في الدور الكام؟

نظرت إليه إنعام بدهشة حنون وقالت: ليه يا ولدي؟

حك جانب فمه بملامح متضايقة وقال بصوت يقطر تهكمًا: عشان أنا اللي هنتع الشنط اللي كيف المخالي بتاعت الچيش واطلعهم، يما!

انفجروا جميعًا بالضحك، وتعالت ضحكة هند وهتفت ساخرة: يا عيني يا واد عمي!

اقترب أمير وهو يبتسم بتعبٍ لطيف، وحمل أول حقيبة بيده وقال وهو يتجه إلى الخارج:  هاخد چوزك يشيل معايا.

ضحك عساف بخفة وهو ينهض بدوره، التقط الحقيبة الثانية وقال:سامحني يا أخوي، أدهم الأنصاري هيچي ياخد الشحنة النهارده.

فتح أمير صندوق السيارة ووضع الحقيبة الأولى بتأن، وقال بنبرة مازحة تحمل في طيها رضا أخويًا: عارف يا خوي، أنا بهزر.

اقترب عساف ووضع الحقيبة الثانية بجانبها، ثم التفت إليه قائلًا:هروح أجيبلك التالته، وحب فوجيها.

أومأ له أمير مبتسمًا، ووقف أمام السيارة يمد ظهره قليلًا ليستقيم، فيما عاد عساف إلى الداخل، والنسمة الصباحية تلفح وجه أمير كأنها تواسيه من تعب الأيام.

توقفت سيارة فارس بجانب سيارة أمير عند مدخل السرايا، وكان ضوء الصباح قد بدأ ينساب على الطريق كخيوط من ذهبٍ رائق…

أطل فارس من النافذة بابتسامة مرحة وهتف: صباح الفل!

رفع أمير رأسه نحوه، وعلى شفتيه ابتسامة هادئة وقال بصوته المألوف الواثق:صباح الصباح يا غالي.

قطب فارس حاجبيه بدهشة خفيفة، وأردف بنبرة مازحة تخالطها ريبة:مبسوط يا حبيب الغالي؟! غريبة جوي.

ضحك أمير وهو يفتح باب السيارة ويستند إليه قائلًا بارتياحٍ واضح:ما خلاص… انحلت يا غالي، واتفجنا أنا وأم كيان.

أومأ فارس برأسه بتفكير عميق، ثم قال وهو ينفث أنفاسه الثقيلة:خير يا أخوي، محدش عارف الدنيا ماشية كيف… يوم مر و…

لكن كلماته انقطعت فجأة، كأن الزمن توقف حين رأى حبيبة تخرج من السرايا…

كانت ترتدي فستانًا زهريًّا فاتحًا ينسدل من خصرها بانسياب رقيق، ويضيق عند صدرها فيحاكي أنوثتها بخجل …

أما حجابها الأبيض فقد أحاط وجهها كهالة من نور صاف، جعل ملامحها تبدو كقطعة من نور فجر نازل على الأرض.

أغمض فارس عينيه للحظة كمن يتذوق الجمال بين أنفاسه، وتمتم في سره بصوت واهن: ويوم حلو جوي…

التفت أمير نحوه بسرعة، التقط شرارة النظرة التي لم تخف عنه، فاشتدت ملامحه وقال بحدة خافتة لكنها قاطعة: نعم يا أخوي؟ متلم روحك… عينك هتسرح يا غالي، وأنا مبديش اخزجها…

رفع فارس حاجبيه بنصف ابتسامة مصطنعة، وقال بهدوء مائل إلى الحرج:ماشي… حجك.

اقتربت حبيبة بخطوات خجلى، وعيناها تتهربان من نظراته وهمسة بصوت صغير:صباح الخير.

أشارت لها نغم بلطف وقالت: صباح النور.

خفض فارس رأسه قليلًا، كأن صوته خرج من بين تنهيدة مكتومة:صباحك ورد.

ثم أشار إلى أمير مودعًا، وانطلق بسيارته بخط مستقيم سريع يهرب من شيء لا يقال.

فتح أمير باب سيارته، وأشار لـ حبيبة أن تصعد، فجلست بهدوء إلى جواره…

دار حول السيارة بخطوات متزنة، صعد خلف المقود، ثم أدار المحرك ولحق بسيارة فارس، وعلى وجهه ظل من القلق لم يستطع الصباح أن يمحوه.

مر الوقت سريعًا، وانتهى بهم المطاف أمام بناية شاهقة يعلوها زجاج يلتقط الضوء كما يلتقط القلب رجفة البدايات…

توقفت سيارة فارس أولًا، وتلتها سيارة أمير.
ترجل فارس بخطوات واثقة، وهتف بصوت جهوري: عوض!

اقترب أحد أفراد الأمن على عجل، متهلل الوجه:
يا مرحب يا فارس بيه!

أشار فارس بيده دون أن يلتفت، وقال بنبرة عملية:
طلع الشنط.

أومأ عوض فورًا، وأشار إلى أحد الرجال قائلًا:
يلا يا شندي، ساعدني.

في تلك الأثناء، كان أمير يقترب بخطوات هادئة، يراقب المكان بعين فاحصة، ثم قال مبتسمًا:أمان يا غالي، مش كده؟

أومأ فارس بثقة وهو يربت على كتفه:طبعًا يا خوي، وانا هحط اللي ليا إلا في مطرح أكون واثق منه.

ثم أشار إلى الجهة المقابلة للشارع قائلًا:بص، الچهة التانية دي شركتي.

نظر أمير خلفه بإعجاب وابتسامة فخورة:زين يا أخوي، ربنا يوسعلك.

في هذه اللحظة، فتحت نغم باب السيارة وترجلت منها برشاقة وخفه، وهتفت وهي تقترب من سيارة أمير:
اندلي اسلم عليكي..أنا نغم!

وقبل أن تكمل، كانت حبيبة قد ترجلت بسرعة ولهفة، واحتضنتها بحرارة قائلة:حبيبتي! كيفك؟ أنا حبيبة!

ربتت نغم على كتفها برقة ، وقالت بلهجة تفيض بالدفء:
الحمد لله، أنا مبسوطة جوي. تعالي نطلع الشجة ونحكوا على كيفنا.

أومأت حبيبة برأسها بخجل وابتسامة هادئة، ثم همسة:
أحسن، بردك الجو فوج مريح أكتر.

التفتت نغم نحو فارس وسألته:هي الشجة الدور الكام يا غالي؟

أشار لها واقترب منهم ومسك بيدها بحنان خفي في حركته، وقال مبتسمًا:يلا، تعالي، الدور التاني.

اقترب أمير من حبيبة، ووضع ذراعه برفق حول كتفيها، وغمغم بصوت منخفض لا يسمعه غيرها:لو مش مرتاحة وبدك سكن الطالبات، جولي وأنا أظبطلك كل حاچة.

نظرت إلى ظهر فارس بحنق مكتوم، ثم قالت بحدة خفيفة:هجرب.

ابتسم أمير بخفوت، ودلف الجميع إلى الشقة.
كانت فسيحة أنيقة، تفوح منها رائحة الطلاء الجديد، تتلألأ نوافذها بنور الصباح.

تجول أمير بعينيه بين الجدران وقال مبتسمًا:
بس هنا أحسن كتير من سكن الطالبات، صح؟

ألقت حبيبة نظرة حولها، وأومأت بخجل:آه… أحسن.

اقترب فارس وهو يشير نحو الباب:الشجة متجفلة زين، متخافيش من حاچة يا دكتورة، والرچالة تحت رهن الإشارة.

احمر وجهها، وهمسة وهي تشد طرف حجابها:شكرًا.

في تلك اللحظة، خرجت نغم من إحدى الغرف وهتفت بفرحٍ طفولي:تعالي يا حبيبة، المنظر من البلكونة چوه حلو جوي!

دلفت معها حبيبة مبتسمة، فيما نداها أمير:استني! أنا ماشي… بدك حاچة يا حب؟

توقفت عند عتبة الشرفة، عادت نحوه بخفة، وضمته بحب صادق وهمسة:تشكر يا جلب حب.

ربت على كتفها برفق وهو يبتسم بعينين دافئتين:
خلي بالك من روحك، وأنا هطل عليكي كل يوم.

أومأت بخجل وارتباك:ربنا يخليك ليا يا حبيبي.

زفر فارس بضيق واضح، وغمغم بنفاد صبر:يلا يا أمير، أنا اتأخرت على الشغل.

أجاب أمير وهو يضحك بخفوت: حاضر يا غالي.

ثم أشار فارس نحو نغم، وقال بنبرة رقيقة لا تخلو من الحنان الأخوي:لو عوزتي حاچة، رني عليا.

ابتسمت نغم بهدوء وقالت:حاضر يا أخوي.

فتح فارس الباب، وغادر بخطوات حازمة، تبعه أمير بعد لحظات، وأغلق الباب خلفه.
أما الشقة، فبقي فيها صدى خطواتهم، ودفء صباح جديدٍ لم يفصح بعد عن نواياه.
………………….

في مصنع اللحوم، حيث تمتزج رائحة الحديد بالملح والعرق، ودوي الآلات يقطع السكون كصوت قلبٍ مضطرب،

دلف أدهم إلى غرفة المكتب بخطوات خفيفة وابتسامة واسعة تسبق كلامه، وهتف بمرح صادق: حبيبي اللي شال مكان واد عمه!

رفع بدر رأسه من فوق الأوراق، ووجهه متجهم، تتأرجح في عينيه شرارة غضب مكبوت، وقال بنبرة حادة متعبة:
آخر مرة يا أدهم… أنا روحت في نص الليل يا جدع!

جلس أدهم على الكرسي المقابل، وأطلق ضحكة خفيفة تنضح بالعفوية وقال:هعوضهالك يوم ما ربنا يفكها وتدخل يا بدر… هشيل مكانك أسبوع وأسيبك تتجلع براحتك!

رمقه بدر بنظرة ناقمة وقال بتهكم مرير: اخخخخ أسبوع؟!

أشار أدهم بيده كمن يعقد صفقة صغيرة وقال:مش لادد عليك أسبوع، بس نطلوا يا واد عمي!

زفر بدر وأمال رأسه بتفكير وقال في سخرية ثقيلة:
عنيدك حج… أنا هفكر في حاچة كده يمكن تلفج.

اقترب أدهم من المكتب وهو يميل بجسده للأمام، وقال بفضول متحفز:جول يا عم، وسمعني!

تنحنح بدر قليلًا، ثم نظر إليه بعين تحمل تلك الفكرة المجنونة التي لا تكتمل إلا بالندم، وقال بخبث مكتوم:
إيه رأيك… لو خت ليله بيت الچبل؟ يمكن النصيبه في السرايا!

تجمدت ملامح أدهم لوهلة، ورفع حاجبه بدهشة ثم أطلق ضحكة قصيرة ممزوجة بالتحذير وقال:يا راچل! ولما توجع الفاس في الراس؟ لما تتحول كيف ما حصل ليلة الدخلة؟ مين اللي يدخل عليكم في حالتكم المجندلة ديه ويلحج البِت من تحت إيدك؟!

تجمدت ابتسامة بدر، وسرح قليلًا في خياله، كأنه رأى الكارثة بعينيه قبل أن تقع، ثم هز رأسه بيأس وقال بصوت خافت مبحوح:لا… واعره المغامرة ديه على ليله.

ضرب أدهم بيده على المكتب وهتف غاضبًا: أيوه! ارجع لرشدك يا واد عمي، بلاش تفكر بنصك التحتاني… هتودينا في داهية!

زفر بدر بملل، وألقى بجسده للخلف في المقعد وهو يتمتم بحنق:ماشي يا خوي… عجبال ما أفرح فيك انت التاني!

ضحك أدهم ضحكة حزينة تخفي خلفها وجعا قديمًا، ثم نهض متثاقلًا وهتف:شوف شغلك يا خوي، سيبك من وچع الجلب ديه.

وما إن خرج من الغرفة، حتى مرر بدر كفه على وجهه بعنف كمن يحاول نزع التعب عن روحه، قبل أن يهدر بصوت خافت مليء بالقهر:وانا جادر أشوف حاچة غيرها؟… ديه مرار عليا!

وبقي صوت الآلات يدور في عقله كصدى أنينه المكتوم.

…………………………
في شقه الفتيات..

كانت حبيبة تدور كظل خافت يجر وجعه على أرض الغرفة، تمشي بخطوات واهنة كأن الألم يثقل الهواء حولها.
انحنت تفتح حقيبتها بعجلة وحيرة، تقلب محتواها بأنامل مضطربة، والضيق يقطر من صوتها وهمسة لنفسها:يشندل حالك يا حبيبة، كيف تنسي حاچه مهمه كده؟

خرجت تنهيدة قصيرة، كسهم من صدر ضاق، ثم سحبت بنطالًا أسود من القماش قميص وردي بسيط، وارتدتهما على عجل…

والتقطت أول حجاب أمامها ولفته حول رأسها بسرعة، وكأنها تخفي اضطرابها لا شعرها، ثم خرجت إلى الردهة، تلهث بين الألم والعجلة، وصوتها يعلو خافتًا:نغم، أنا هندله الصيدليه.

خرجت نغم من المطبخ وهي تمسح يديها في المنديل، نظراتها قلقة، وقالت بنغمة يملؤها الخوف والدهشة:
ليه؟ انتي عيانه يا حب؟

هزت حبيبة رأسها وهي تضم بطنها براحتها الموجوعة، وتمتمت بنبرة منخفضة تفضح ألمها: لا، هنزل أجيب علبه فوط… ومسكن!!

شهقت نغم بدهشة تلقائية وقالت:تصدجي؟ أنا كمان نسيت أچيب.

أومأت حبيبة برأسها، تبتسم رغم الألم: هچيبلك معايا.

اكتفت نغم بإيماءة شاكرة، واندفعت حبيبة نحو الباب، تنزل الدرج بخطوات سريعة تخفي أنينها…

حين خرجت من مدخل العمارة، نهض أحد الحراس، يمد قامته بوقار وقال بابتسامة ودودة: أمري يا ست البنات؟

أشارت له وهي تحاول أن تبدو بخير: بدي أجرب صيدليه يا عمي.

أومأ برأسه مشيرًا إلى نهاية الشارع وقال :على آخر الشارع ديه، بس خليكي انتي، وأنا أچيبلك اللي ناجصك.

هزت رأسها رفضا، وقالت بإصرار لطيف: لا، أنا هروح.

تحركت بخطوات مترددة نحو الشارع، والريح تعبث بطرف حجابها الأبيض، كأنها تحاول أن تردها عن الطريق.

دخلت الصيدلية كانت غارق في سكون رتيب ورائحة المطهرات… كان خلف المنضدة شاب في منتصف العشرينات، بعينين وابتسامة من نوع لا يطمئن القلب.

اقتربت حبيبة بخجل وقالت بصوت خافت متردد:
في واحدة ست هتشتغل هنه؟

نهض واقترب منها وهو يهز رأسه بالنفي، ونظر إليها نظرة طويلة أثقلت الهواء بينهما وقال بنبرة عابثه: لا يا آنسه، أنا تحت أمرك.

بللت شفتيها بخجل وارتباك، واستدارت لتغادر وهي تهمس: لا خلاص.

لكنه مد يده بغتة، قبض على ذراعها بعنف وقال بصوت غليظ فاجئها: استني يا حلوه!

شهقت حبيبة بقوة، وارتجفت كتفاها، رفعت يدها لتدفعه بعيدًا، لكن يدا أخرى سبقتها  قوية، قاطعة، غاضبة كالرعد سحب حبيبه إلى الوراء بعنف وحماية في آن…

وفي اللحظة التالية دوى صوت اللكمه، وسقط الشاب فوق الرف الزجاجي، وتحطم الزجاج حوله كعاصفة من الشرر.. كان صوت فارس وحده كافياً ليرتج المكان…وهادر، بصوت رجوليا، غاضب :إيدك يا ولد الهرمة!

ارتدت حبيبة إلى الخلف، عيناها متسعتان كمن شهد القيامة… تراجعت وهي تنظر إلي ما تحطم من زجاج حولها… وأنفاسها تتلاحق في صدرها كطائر مذعور.
همسة بصوت مبحوح مرتعش:يخرب بيتك يا مخوت!”

تقدم منها فارس بخطوات حادة، قبض على ذراعها بقوة جعلتها تنتفض، وصوته يجلجل كالرعد في المكان:عمل حاچة؟! ولا مسك جبل ما اَچي؟”

هزت رأسها بالنفي بعنف، والدموع تلمع بعينيها وغمغمت برجاء مرتجف: لأ… لأاا، هملني… أنا هروح.”

قبض على يدها يمنعها من الفرار، وصوته ينفذ إلى أعماقها بحدة: كت بدك إيه من هنه؟”

نظرت إليه بذهول، كأنها لا تفهم غضبه ولا خوفه، ثم همسة بارتباك ودموعها تبلل وجنتها: ولا حاچة…”

اقترب منها أكثر، نظر إلى ملامحها التي غلبها البكاء، وفي صوته انكسر شيء من الحنو: طب هتبكي ليه؟ جوليلي كت بدك إيه وأنا أچبهولك.”

كانت تتلوى من الألم، يعتصرها وجع مفاجئ في أسفل بطنها وظهرها، والغثيان يعلو حلقها. وضعت يدها على بطنها، تغالب دموعها، وهمسة برجاء يائس: خليني أروح بالله عليك…”

تأمل وجهها المنكمش بالألم، واقترب منها أكثر حتى صارت أنفاسه تلامس وجنتها الخجلة، وغمغم بصوت خافت فيه قلق صادق:بطنك هتوجعِك؟”

أومأت بخجل، بالكاد تنطق:أيوه… خليني أروح.”

قطب وجهه، حدس ما تحاول إخفاءه وسط خجلها، فخفض صوته وقال برفق لا يخلو من حذر:حبيبة… إنتي بدك حاچة… خاصة بالبنات؟ صح؟”

شهقت بذهول، واتسعت عيناها كأنها احترقت من الخجل، دفعت صدره بعنف، وركضت إلى الخارج لا تلتفت…

ظل واقفا لحظة في ذهول، ثم زفر بضيق واتجه إلى الأرفف، سحب علبة فوط صحية من أقرب رف، ولوح بها وهدر إلى الشاب الذي ما زال يترنح من أثر الضربة:بدي كيس واي مسكن يا خـ**!!

أسرع الشاب بخوف، التقط حقيبة صغيرة من تحت المنضدة ومدها له ويده ترتجف مع علبه دواء مسكن للألم…

جذبهم فارس بعصبية، وضع العلبة داخلها مع علبه الدواء، وألقى بعض النقود على الطاولة دون أن ينظر، ثم خرج بخطوات سريعة، الغضب والقلق يتنازعان وجهه.

حين دلف إلى مدخل العمارة، رفع صوته بنبرة فيها خشونة القلق:حبيبة!”

توقفت أعلى الدرج، تلهث ودموعها تنحدر كالسيل، ثم نظرت له وهي ترتجف وصاحت بحدة:امشي بدل ما أصوت… وهلم عليك الخلج!”

صعد بخطوات سريعة، دون تردد، شهقت بفزع وتراجعت حتى كادت تتعثر على آخر الدرجات، لكنه أدركها قبل سقوطها وضمها إلى صدره بقوة، وصوته يختلط باللهفة:
حاسبي يا بت، وأهمدي!”

دفعت صدره بحدة، وأنفاسها متقطعة، وهتفت بارتباك ودموع:أوعى يا فارس! عيب كده! مش كل شوي الله!”

تراجع خطوة، كأنه استعاد وعيه دفعة واحدة، مد يده بالحقيبة وقال بهدوء مضطرب:حاضر يا ستي… بس خدي، مش ديه اللي بدك من الصيدلية؟”

تأرجحت عيناها بين وجه فارس، وبين الحقيبة التي يحملها كمن يحمل سرا ثقيلًا يخشي انكشافه…

ثم لمحت ما بداخلها… فشهقت بخجل وذهول، شهقة ارتعش لها كيانها كله، قبل أن يخترق صوت حاد السكون ويشقه كما يشق السيف لحم العاصفة: فاااارس!

ارتجف جسد حبيبه، وتجمد الهواء بين أنفاسها.
التفت فارس بحدة نحو مصدر الصوت، وهناك، أسفل الدرج، كان أمير واقفا كالطوفان،

والغضب يشتعل في عينيه كجمر لم يجد من يسكبه بالماء.
لم يكن يمشي نحوهم، بل يقترب بخطوات تنذر بالهلاك، كأن الأرض تنكمش تحت قدميه لتقصر المسافة بينه وبين الخطيئة التي يراها أمامه.

وقبل أن ينطق فارس، كانت يد أمير قد قبضت على ياقة قميصه بعنف، وهدر صوته غاضبًا متكسرًا: أنا مش هسألك هتعمل إيه هنه… عشان متكدبش عليا يا صاحبي!

وضعت حبيبة يدها على صدرها، كأنها تخشى أن يفلت قلبها من بين أضلاعها، وغمغمت بصوت مرتجف كطفلة أمام العاصفة: أمير اهدي يا خوي… أصلاً أنا كت في الصيدلية.

التفت إليها، والغضب في عينيه قد بلغ منتهاه، وصاح بصوت يخنقه الغيظ: ومرنتيش عليا ليه؟

تلعثمت، وانخفضت عيناها خجلًا وارتباكًا، بينما تراجع فارس خطوة ومد يده بالحقيبة، وصوته يحمل رجاء مكتومًا بين التبرير والحماية: خدي وخشي… وأنا هفهم أمير.

أمسكت الحقيبة كأنها طوق نجاة، وتراجعت بخوف إلى داخل الشقة، والدموع تنهمر من عينيها…

التفت فارس نحو أمير وربت على قبضته التي ما زالت تتشنج غضبًا، وقال بصوت متماسك بالكاد: هدي حالك وانا هفهمك…

لكن أمير دفعه بقوة عمياء، حتى اصطدم ظهره بدرابزين السلم، فارتج المكان كله بصوت الارتطام، وهدر أمير بصوت يقطر حنقًا: تفهمني إيه؟

رفع امير إصبعه في وجهه بتحذير يوشك أن يتحول إلى طعنة، وقال بصوت متقطع من الانفعال: هتجولي إيه؟ أنا واعي عنيك زين… واللي فيها نصيبه إلا أختي يا فارس!

تبدل وجه فارس، واشتعلت عيناه بمزيج من الألم والعناد، دفعه امير بعنف مماثل وصاح بصوت مبحوح من قهر دفين: أنا مخترتش أختك بكيفي يا أمير… ومفيش في يدي حاچة!

صرخ أمير بغضب يتقافز كالنار بين الحروف: ولما مفيش فب يدك حاچة، مالك بيها ، هملها في حالها! إلا حبيبة يا فارس، ولا انت بدك نخسروا بعض؟

ساد صمت قصير، كأن الكون كله حبس أنفاسه في انتظار الكلمة التالية.
انحنى رأس فارس قليلًا، وصوته خرج حزينًا، مكسورًا، كمن يعترف بهزيمته أمام الحب: إلا خسارتك يا أمير… بس والله أنا مش هجدر أعيش بعيد عنها، والله حاولت.

وفي اللحظة التالية، دوى صوت اللكمة علي وجه فارس كالرعد.
تأرجح فارس للخلف خطوه واحده، والدم يسيل من زاوية فمه، بينما هدر أمير غاضبًا، وكأن الغيرة صارت نارًا في عروقه: يومك هباب! إنت عشجت أختي يا ولد الأنصاري!

رفع فارس عينيه إليه، وهو يمسح الدم من جانب فمه بنزق، ونظراته تحمل مزيجًا من الكبرياء والانكسار، وصوته خرج منخفضًا لكنه عميق كجرح قديم فتح للتو: غصب عني… جلتلك.

سكن المكان بعدها، وسكتت الجدران، وكأن الدرج ذاته حبس أنفاسه خوفًا من سقوط كلمة أخرى قد تشعل ما تبقى من الهدوء الرمادي.

كان الصمت بينهما يثقل الهواء، كأن الغضب وحده هو الذي يتنفس في المكان.
تحت ضوء السلم الباهت، وقف أمير، وجهه مشدود كصخرة، وصوته خرج حادًا كالسيف: وغصب عنيك هتبعد عنها… ولا آخدها وأعودها سكن الطالبات! ومشفش وشك في حته هي فيها تاني!!

تشنج فك فارس، وزفر بحدة كمن يخرج ناره كي لا تحرقه، اقترب منه خطوة، ولكزه بعنف، والعروق في عنقه تخفق بالغضب المكبوت، وصوته خرج خشنًا من عمق قلبه: لدرچة ديه؟! مكنش العشم يا صاحبي!
أنا عشجت حبيبة من جلبي… وهموت وتكون مرتي!

ارتجف وجه أمير لحظة، وكأن كلماته لامست شيئًا في داخله لا يرد الاعتراف به… نظر إليه بعين مشفقة، وفي صوته مرارة من يعرف أن القدر يلهو بهما معًا: ليه يا صاحبي؟ وانت أدري واحد بالنصيبة اللي انت فيها…
جسما بالله، لو ما كنتش ولد الأنصاري… أنا عمري ما الجي أحسن منك لأختي.

أدار فارس وجهه بغضب وانكسار، وضرب الهواء بزفرة حارقة خرجت كشتيمة على حظه :الله يخرب بيت الأنصاري واللي منه!

ثم وضع يده على منكب أمير برفق مفاجئ، وصوته انخفض متوسلًا: بص… أنا مش هسكت، وهلاجي حل،
بس لحد ما ديه يحصل… خليلي حبيبة يا أمير… عشان خاطري!!

ظل أمير صامتا لوهلة، يحدق في وجه فارس بعين يملؤها صراع بين الغيرة والحب الأخوي، ثم قال بصوت خافت ممزوج بالحسرة:واخليها لحد متي يا فارس؟
انت عارف النصيبة ديه هتتحل متي ولا كيف؟

هز فارس رأسه بالنفي، وصوته خرج واهنا كمن يتوسل السماء: لا… بس أنا هعمل أي حاچة.

زفر أمير بحنق واستسلام، كمن يضع السيف على الأرض بعد طول قتال، وغمغم:ماشي… جدامك فرصة، لحد ما حبيبة تخلص علام، وبعدها أنا…

قاطعه فارس بسرعة، بعينين مشتعلة بالعزم: بعدها عداك العيب يا صاحبي.

رفع أمير إصبعه بتحذير قاطع، وصوته صار كهدير مكتوم: بس مش معني كده إنك هتستهبل!

أومأ فارس بسرعة، والصدق واضح في نبرته: بالعكس… هي دلوق أمانتك يا صاحبي، وانت عارف صاحبك.

أومأ أمير بصمت ثقيل، ثم قال وهو يشير له نحو الاسفل: طيب… يلا جدامي.

تحرك فارس ببطء، بخطوات مثقلة بالوجع، وعيناه تتعلقان بباب الشقة كأنه يترك خلفه قلبه فيها…

نزل السلم متجهًا إلى الأسفل، وأمير يسير خلفه في صمت مشوب بالاحتراق،
كأن كل درجة كانت تنزل في صدريهما حجرًا جديدًا من الهم،
بين صديق يحارب قلبه مثقل باللعنه، وآخر يحارب دمه….

في الداخل،

خيم الصمت كثوب ثقيل على المكان، ولم يكن يسمع سوى أنفاس مرتجفة تختبئ بين الجدران…

كتمت حبيبة ونغم أنفاسهما بتوتر حاد، تتناوبان النظرات القلقة حتى تلاشى صوت خطوات أمير وفارس أسفل الدرج، وغابا عن الأنظار…

حينها انفلتت شهقة مكتومة من صدر حبيبة، تلتها دموعها التي تدفقت بعنف لا إرادة لها فيه، وغمغمت بوجع وانفعال: الله يخربيتك يا فارس!طينت الدنيا فوج راسي!

نظرت إليها نغم بدهشة، ثم افترت شفتيها عن ابتسامة صغيرة تحمل فرحا طفوليًا وهتفت بحماس: ليه؟ حرام عليكي… ديه هيحبك جوي يا حبيبة!

تسمرت حبيبة في مكانها، ودموعها تتساقط كأنها لا تفهم شيئًا، وعيناها تتوهان بين الصدمة والارتباك، قبل أن تغمغم بصوت مرتعش: هو إيه النصيبه اللي هيجول عليها أمير يا نغم؟ واللي هيحلها فارس؟

بلعت نغم لعابها بتوتر، وأطرقت للحظة قبل أن تهمس وهي تهز رأسها نافية: معرفش… يمكن حاچه بيناتهم…

أومأت حبيبة ببطء، ثم تحركت إلى الداخل بخطوات ثقيلة، وجهها غارق في ذهولٍ لا آخر له…

كانت كلمات فارس ما تزال تتردد في رأسها كنبض عنيف: “أنا عشجت حبيبة من جلبي وهموت وتكون مرتي”
ارتجف قلبها، يرفض التصديق، لكنها كانت تعلم في أعماقها أن ما سمعته ليس وهماً… فارس يعشقها.
لكن كيف بتلك السرعه ؟! ولماذا أمير رافض وبشده وفارس من اعز أصدقائه؟! أهذا حب أم جنون؟

وقفت نغم خلفها، تتأملها بحنو يقطر من عينيها، ثم تمتمت في سرها بأسى:حجك عليا أنا… لو جلتلك، مش هتدي فرصه للغالي، وهتخافي وتبعدي عنيه… وهو هيحبك جوي يا حبيبة، وهيتوجع أكتر.

ثم سارت بخطوات هادئة نحو الداخل، بينما عقلها يدور في دوامة من القلق والدهشة، كأنها تخشى أن تتشابك أقدار الجميع بما لا يمكن فكه بعد الآن.
…………………………………

في منزل دياب الأنصاري،

كان الغضب يسري في عروق إيمان كما تسري النار في الهشيم.
دفعت باب المجلس بعنف ودلفت بخطوات متوترة، وجهها محتقن وعيناها تقدحان شررًا.

جلست على الأريكة بضيق، وأخذت تقضم أظافرها بعصبية واضحة.

رفعت هنية بصرها إليها، ثم قالت بضجر وهي تتابعها بنظرة فاحصة: مالك يا إيمان؟ هتاكلي وترمي في روحك إكده ليه؟ هو في إيه؟

رمقتها إيمان بعينين متقدتين، ووهدرت بصوت غاضب مكتوم: روحت بيت عمي… لجيت نغم سافرت سوهاچ عشان الكليه!

ترك دياب الأرجيلة من يده، وبدا عليه الهدوء الثقيل الذي يسبق الغضب، ثم تمتم بنبرة خافتة:طب وماله؟ روحي لها تاني في العشيه، تكون عاودت.

هزت إيمان رأسها بعنف، وشفتاها ترتجفان وهي تقول بغيظ لا تخفيه: هتجعد في سوهاچ… مع الدكتوره اللي عالجت هزيم!

لوت هنية فمها باستهجان وقالت بحنق ظاهر:وانتي مكدره حالك ليه؟ مانتي اللي مش غاويه علام! لساني طلع فيه شعر وأنا أجولك يا بت كملي علامك، وانتي كيف البهيمه ما بتفهميش!

رفعت إيمان وجهها بحدة وهتفت:يوووه يا أمي! أنا ناقصه كلامك؟ أنا مبديش علام، أنا بدي

أتچوز وخلاص!

رمقتها هنية بغضبٍ وصرخت فيها: اختشي يا اللي ما عندكش دم! وبعدين يا نضري الغالي، مهندس زراعي، كد الدنيا… يوم ما يتچوز، هيتچوز واحدة كيف الدكتوره بت العزايزي، مش انتي!

صاح دياب وهو يضرب الأرض بعصاه: أباي عليكي يا واكله ناسك! كنها مش بتك؟ هو ولد عاصم هيهمل بت عمه ويچيب من بره إياك! مش هيحصل!

ارتسمت ابتسامة فرحة على وجه إيمان، لكن صوت رماح العابث قطعها بسخريته المسمومة: تكنش ماسك عليه ذلة يا أبوي عشان يتچوز إيمان؟

نهضت إيمان فجأة، حاجبها مرفوع، وصوتها يقطر تحديًا:
ليه إن شاء الله؟ هو أنا فِي منّي اتنين في البرّ كلّاته؟

هز رماح رأسه بخبث وقال وهو يضحك ضحكة مستفزة:
الصراحة لا، مفيش في البر كلاته الصفار ديه!

اتسعت عيناها غضبًا، وهتفت وهي تشير إليه بانفعال:
أنا صفرا يا رماح؟ شايف يابوي؟!

لم يمهلها دياب لحظة، فرفع عصاه ولكز بها صدر رماح بعنف وهدر:جطع لسانك يا بچم!

تراجع رماح خطوتين ثم صرخ متحديًا: طب والله أنا نسيت أقول إنها صفرا بصرم!

شهقت إيمان بغضب مكتوم، وهاج دياب وهدر بصوت كالرعد:طب غور من خلچتي چاك جبر!

انصرف رماح وهو يلوح بيده غيظًا، بينما أشار دياب لإيمان أن تقترب وهو يزفر بضيق واضح: خلاص، متكدريش حالك يا بتي.

اقتربت منه وجلست إلى جواره، تنظر إليه بعينين دامعتين وهمسة بخفوت:أنا بدي أكمل علامي يا أبوي.

نظر إليها بدهشة، حاجباه معقودان:وإحنا في نص السنه يا بتي، كيف ديه؟

تدخلت هنية من بعيد وهي تلوح بيدها بامتعاض: ربنا يحفظ علينا العجل والدين! يا ربي، لجايمه!

ثم انصرفت تتمتم بحنق، بينما ربت دياب على ساق ابنته بحنو مفاجئ وقال بصوت خافت يحمل دفئ الأبوة:
ـ اصبري، أول السنه وهجدملك في چامعة سوهاچ، كيفها؟

ارتسمت على وجه إيمان ابتسامة فرحة، فضمته بقوة وهتفت بسعادة غامرة:ربنا يخليك يا أبوي!

ربت دياب على منكبها وقال بفخر خافت:متشليش هم، أبوكي في ضهرك يا بتي دياب.

أومأت برأسها، والدموع ما تزال عالقة بأهدابها، وهمسة بصوت مفعم بالحب والامتنان:ربنا يديمك علي راسنا يا أبوي.
…………………………..

كان المساء قد أرخى سدوله على قصر الأنصاري،
والسكينة تتدلى في أركانه العريقة كوشاح من الطمأنينة الثقيلة… الزائفه..

دخل بدر إلى البهو بخطوات واثقة، لكن في عينيه شغف خفيف كمن يبحث عن شيء ضاع للتو….

لمح وهيبة وفاطمة تجلسان متقابلتين، تحفهما أضواء المصابيح الصفراء الدافئة…

جلس بجوارهما ونظر حوله بدهشة وابتسامة تعبث بطرف شفتيه: ليله فين يا يما؟

أشارت له وهيبة بيدها في رفق وقالت:  طلعت الچنينه يا ضنايا.

نهض بدر وهو يزفر بابتسامةٍ خفيفة، وغمغم: هروح أچيبها، تحضرلي العشا.

رفعت فاطمة حاجبيها بدهشة وقالت بتوتر متلعثم:
ما تقول لصفا أو حد من البنته؟

هز رأسه في حزم بسيط وقال وهو يبتسم بثقة : أنا بدي مرتي.

ضحكت وهيبة بحنان أمومي وقالت: همليه يا خيتي، هو هياكل منيه حته؟ دول حتى في الچنينه.

ابتسم بدر وأرسل قبلة في الهواء نحوها وهو يغادر بخفة:مرت عمي العسل!

ضحكت وهيبة، وصوتها فيه رجاء خفي:ربنا يفك كربنا يا ولدي… وتتهنوا يا رب.

لكن ابتسامة فاطمة ذابت سريعًا، وتسربت منها مرارة قديمة، وهمسة وهي تكفكف دمعه غافلتها : يا رب… متكتبهاش عليا تاني يا رب، بكفيه حمزه.

ربتت وهيبة على فخذها برفق وقالت بصوت متهدج بالأسى:  يا رب.

التفتت فاطمة نحوها بدهشة لم تخل من الحذر، وقالت:
خبر إيه يا خيتي؟ واعيه الحزن متستر في عنيكي.

نظرت إليها وهيبة، بعين غائرة أنهكها الصبر، وقالت بنغمة تنزف حزنًا: متى فارجنا الحزن يا خيتي؟

هزت فاطمة رأسها نافية وقالت بشكّ خافت: لاه… اللي فيكي ديه من كام يوم بس؟

أومأت وهيبة ببطء وأطرقت، ثم قالت بصوت مبحوح متعب: الدكتوره بت العزايزي.

قطبت فاطمة حاجبيها بدهشة صافية وسألت: مالها يا خيتي؟

زفرت وهيبة بضيق مؤلم وقالت:كان بدي أروح عليها للغالي.

أشارت فاطمة بيدها وقالت بحماس طيب: وماله يا خيتي؟ البت مليحه، وكيف فلجت الجمر… أصيله وماصله.

ضربت وهيبة كفا بأخرى والدموع تترقرق في عينيها، ثم قالت بصوت مختنق: الغالي هيعشجها يا خيتي.

شهقت فاطمة بذعر وغمغمت وهي تصك صدرها بيدها:يا حزني… متى عشجها؟

انزلقت دموع وهيبة على وجنتيها، وتكسر صوتها بين حروفٍ يائسة: عشجها… هيطل من عنيه يا فاطنه… الواد هيتبدل كل ما تيچي سيرتها، كأنه مش الغالي… ولدي!

أغمضت فاطمة عينيها بقهر دفين وقالت بحدة موجوعة:
لازمن تخطبي للغالي يا وهيبه! مش هنهملوا الولد التاني يغرج يا خيتي.

نظرت إليها وهيبة بارتباك ممزوج بالعجز وقالت: وهو هيوافج يا فاطنه؟ بجولك هيعشجها.

هزت فاطمة رأسها بعناد وقالت: عشان إكده لازمن تروحوا على أيته بت في النچع… ولا نروحوا بعيد ليه؟ بتنا جاعده.

رفعت وهيبة حاجبيها وقالت بتوجس حذر: مين يا فاطنه؟

أشارت فاطمة بيدها بثقة وهتفت:البت إيمان، اهي بت عمه، وزينه ومليحه برضو.

لكن وهيبة أطرقت رأسها بيأس وقالت: يا خيتي، أبوها كيف التعبان؟ وياما حفر ورا الغالي وسند وفهمي… وخسرهم في شغلهم، وهيكرهنا يا فاطنه.

زفرت فاطمة بقوة وهي تلوح بيدها: يا وهيبه، البت لي أمها، وانتي خابره هنيه غلبانه جوي، وجلبها كيف البفته… احنا لينا البت، وأبوها يندعك.

صمتت وهيبة برهة، ثم أومأت برأسها قائلة برجاء خافت:
بس يچي الغالي من سوهاچ وهتحدت معاه… ويارب يوافج.

أومأت فاطمة بدموع تترقرق في عينيها وقالت:يا رب… لو كمان الغالي اتشندل حاله كيف بدر، أنا هموت فيها يا وهيبه.

ربتت وهيبة على فخذها في حنو مكلوم، وغمغمت:
خابره يا فاطنه… الغالي وسند كيف بدر وحمزه عنديكي. دول اللي طلعنا بيهم من الدنيا يا خيتي، وهنعمل اللي نجدر عليه لأجل خاطرهم.

أومأت فاطمة ببطء وعينيها تلمعان برهق عميق وقالت:
صوح يا وهيبه… صوح، معدش فيها فضار.

……………………….

في الحديقة الغارقة في سكون المساء، كانت ليلة تتأرجح على المرجيحة،

يغلفها شرود عميق كأنها تغوص في عالم لا تراه سوى بعيني قلبها…

النسيم يمر على شعرها برفق، يحركه كما يشاء، حتى جاء صوت خطوات ، تتسلل من خلفها بخفة تعرفها جيدًا.

وفجأة، أحاطها بدر من الخلف بذراعيه القويتين، يضمها إلى صدره كمن وجد مأمنه، وهمس عند أذنها بصوت دافئ:حبيبي…

شهقت ليلة بفزع، اتسعت عيناها وهي تلتفت نحوه: بدر، اخس عليك… درعتني!

ضحك بدر ضحكته المميزة، تلك التي تهد جبال الهم، ورفعها بخفة بين ذراعيه وجلس على المرجيحة، ثم أجلسها بين ساقيه كأنها ملكة في عرش لا ينازعها عليه أحد، وهمس بصوته المبحوح بالعشق:درعة إيه دي اللي كيف السكر دي يا بت جلبي؟

ابتسمت ليلى بخجل ناعم، تعبث بأزرار قميصه بيد مرتعشة وقالت مداعبة:كل يوم هتيجي وخري كده؟

ضحك بدر بحنان وهو يمرر أنامله على شعرها كأنه يتحسس أمانه الضائع: غصب عني يا ليلة… فارس في سوهاج، وسند طول النهار عند عساف العزايزي، وأدهم في المزرعة… وأنا في المصنع، هنعمل إيه؟ عمك فهمي عصايتة ناشفة!

ضحكت ليلة بخفة صافية كأنها نسمة فجر، وقالت:
لا، انتو كل واحد فيكم شاطر وواعي لشغله زين.

رفع بدر حاجبيه مبتسمًا وقال وهو يلامس شعرها برفق:
كنت شاطر لحد ما وجعت في عشجِك.

عبثت ليلى بزر قميصه بطفولة بريئة وقالت مداعبة:
أحسن!

ضحك وهو ينظر إليها بعينين مشتعلتين حبًا:فرحانة فيا كنك؟

أومأت برأسها بخجل طفولي وهمسة: أُممم.

اقترب بدر منها حتى سكن جبينه على جبينها، وصوته يخرج منه كأنما ينزف نبضًا:من يوم ما نضرتك عيني، وأنا سندت جلبي چمب جلبك.

أمسك يدها بين كفيه وقبلها بحنو عميق كمن يقدس العهد، ثم غمغم بصوت خفيض لكنه ممتلئ بالشجن:
وروحي في كفك يا روح جلبي، ومبديش من الدنيا غير أموت وراسي على صدرك.

انزلقت دمعة من عينيها، ناعمة ودافئة كقلبها، وقالت بصوت مرتجف:لا، بعد الشر عليك… ليه بتجول كده يا حبيبي؟

أغمض بدر عينيه بوجع، وسقطت من عينه دمعة ثقيلة، وهمس بنبرة كأنها نذر لا رجعة فيه: الأيام هتمر يا ليله، ومفيش في إيدي حاچة… وهموت لو حد فتح خشمه بكلمة طلاج، هفرغ فيه خزنتي… حتى لو كان مين!

شهقت ليلة بذعر، وهزت رأسها بقوة، والدموع تتساقط فوق كفه: لا… انت اتخوت يا بدر؟
هو انت لما تفرغ خزنتك فيهم هيطبطبوا عليك؟ ما انت هتتحبس يا بدر… وتهملني.

وكانت كلمتها الأخيرة ترتجف بين الخوف والحب، كأنها تدعو الله ألا يجعل الأيام تختبر ما تخشاه قلوبهما.

ضمها بدر إلى صدره بقوة كأنما يحتمي بها من شيء لا يرى، وألصق وجهه بعنقها، وصوته خرج من بين أنفاس متقطعة تحمل وجعًا غامضًا: هتخوت يا ليل البدر… هتخوت، اتحرمت من الراحة يا ليلة…

ارتجفت ليلى بين ذراعيه، وراحت تمرر كفها على شعره بحنان خافت، تهدئ اضطرابه كأم تضم ابنها الجريح، وهمسة بصوت مرتجف مبحوح بالعاطفة: يسلم جلبك يا عمر ليله ونبضي…

لكن فجأة، تبدل الهواء من حولهما، كأن الحديقة كلها شهقت رعبًا ثم تجمدت أنفاسها…

تسللت عتمة كثيفة من بين أغصان الأشجار، تزحف ببطء كأنها كائن حي يجر سواده وراءه، حتى تجسد منها ظل متوحش لا يرى منه إلا ملامح غائمة تشبه الإنسان حين يشوه وجهه بالغضب…

اقترب من خلف بدر، يسير بلا صوت، كأن الأرض تخشاه، ومد يده الطويلة كأنها مخالب دخانية، تتحرك ببطء قاس نحو صدر بدر، لتغرس أنيابها في موضع قلبه.

ارتج جسد بدر فجأة، شعر ببرودة حادة تسري في عموده الفقري، كأن الموت نفسه يزحف على جلده، وكأن شيئًا غريبًا يريد أن ينتزع منه الحياة.

وفي اللحظة التي كادت فيها المخالب أن تسحق قلب عاشق

ووووووووووووو

انتظروني … 

تتوقعوا مين الي وراء بدر وممكن بدر يحصله ايه المره دي ؟

ساحره القلم ساره احمد

2.3 3 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
2 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
ضيف روعة
ضيف روعة
3 أيام

روعة كل ما اقراء رواياتك ااقول يا سلام

ضيف
ضيف
2 أيام

فعلا روعه جدا